بين الأزمة والوعي: جدلية سقوط الأنظمة الاستبدادية
بقلم ذ. محمد السميري
تطرح إشكالية سقوط الأنظمة الاستبدادية سؤالًا فلسفيًا عميقًا حول طبيعة التحول السياسي: هل تسقط الأنظمة بفعل عواملها الداخلية من دون ثورة أو عنف مباشر؟ أم أن الوعي الجمعي والتنظيم الثوري يظلان الشرط الحاسم لتحويل الأزمة إلى فعل تغييري جذري؟ بين أطروحة الحتمية الاقتصادية، التي ترى في التناقضات البنيوية أساس التحول، وبين النظرية الماركسية التي تجعل من العامل الذاتي محرّك التاريخ، يتحدد المجال الجدلي لفهم انهيار الأنظمة في التاريخ الحديث.
لقد بين أنطونيو غرامشي، في “دفاتر السجن” (Cahiers de Prison)، أن كل أزمة سياسية واقتصادية تحمل في طياتها إمكانية التحول، لكنها لا تؤدي بالضرورة إلى سقوط النظام ما لم تتوافر الشروط الذاتية، أي الوعي والتنظيم. فالطبقة الحاكمة، في رأيه، لا تحكم بالعنف المادي فحسب، بل بالهيمنة الثقافية، التي تجعل الخاضعين يتبنون قيمها باعتبارها “طبيعية”. وهكذا، فإن أخطر ما في الاستبداد ليس القمع، بل القدرة على صناعة القبول عبر الأيديولوجيا والتعليم والدين والإعلام. ومن هنا تنشأ أهمية الوعي النقدي، بوصفه القوة التي تكسر التنويم الجماعي وتحوّل الأزمة إلى فعل ثوري واعٍ.
هذا ما برز بوضوح في الحركات التنويرية الأوروبية التي مهدت للثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر. فقبل سقوط النظام الملكي، كانت فرنسا قد شهدت قرنًا من الحراك الفكري المكثف ، قاده مفكرون من أمثال فولتير ، روسو ، وديدرو .دعا هؤلاء إلى تحرير العقل من سلطة الكنيسة والإقطاع، وإلى تأسيس شرعية الدولة على العقد الاجتماعي لا على الحق الإلهي. لقد أسهمت هذه الحركة الفكرية في خلق وعي جمعي جديد، يرى الحرية والمواطنة حقوقًا طبيعية لا امتيازات ملكية. وبذلك تحولت الأفكار إلى قوة مادية، كما يقول ماركس، حين استقرت في وعي الجماهير التي رفعت شعار Liberté, Égalité, Fraternité عام 1789. إن الثورة الفرنسية لم تكن نتيجة أزمة اقتصادية فقط، رغم المجاعة وتضخم الديون، بل ثمرة لتفاعل بين الأزمة المادية ونضج وعي جماعي تشكل عبر قرن من التنوير.
تظهر هنا الوظيفة التاريخية للوعي بوصفه أداة تحرير من التنويم الأيديولوجي الذي يصنعه النظام للحفاظ على استمراريته. فكما أشار بيار بورديو في كتابه La domination masculine, يمارس النظام نوعًا من “العنف الرمزي” يجعل الناس يعيدون إنتاج خضوعهم دون وعي. غير أن لحظة الانفجار الثوري لا تأتي إلا حين يتحول هذا الخضوع إلى وعي بكونه قمعًا، أي عندما تنكسر اللغة التي يبرر بها النظام سلطته.
إذا انتقلنا إلى التجربة الآسيوية، فإن الثورة الصينية (1949) تقدم نموذجًا مختلفًا، لكنها تؤكد الفكرة ذاتها: لا يكفي وجود الأزمة البنيوية لإسقاط النظام، بل لا بد من وجود وعي ثوري منظم قادر على تحويل الإمكان التاريخي إلى واقع سياسي. كانت الصين في النصف الأول من القرن العشرين تعاني انهيارًا اقتصاديًا واجتماعيًا عميقًا، نتيجة السيطرة الإقطاعية، والاحتلال الياباني، وضعف الحكومة الوطنية. ومع ذلك، لم تؤدِّ هذه الأزمات وحدها إلى الثورة، بل احتاجت إلى مشروع فكري وتنظيمي صاغه ماو تسي تونغ من خلال ما سماه “الخط الجماهيري” (La ligne de masse). لقد اعتبر ماو أن الفعل الثوري لا يمكن أن يقوم من فوق، بل من خلال وعي الجماهير بذاتها كقوة تاريخية. لذلك كان عمل الحزب الشيوعي الصيني هو نقل الوعي من الطبقة المثقفة إلى الفلاحين والعمال، عبر التعليم السياسي والنضال الميداني. حين التقت الأزمة البنيوية مع هذا الوعي الجماعي المتبلور، اندلعت الثورة وأطاحت بنظام الكومينتانغ، مؤسِّسة لجمهورية جديدة. فالعامل الحاسم هنا لم يكن فقط في الفقر أو الاضطهاد، بل في التنظيم الواعي الذي حوّل المأساة إلى مشروع تحرر.
تؤكد تجارب أخرى هذه الجدلية بين العوامل البنيوية والوعي الثوري. فقد مثّل سقوط الاتحاد السوفياتي (1991) مثالًا معكوسًا: كانت الأزمة الاقتصادية والسياسية حاضرة، لكن غياب وعي جمعي بديل وتنظيم ثوري واعٍ جعل الانهيار يتم من داخل النظام نفسه، لا بفعل ثورة شعبية، بل بتآكل الشرعية الأيديولوجية للحزب الحاكم. وبالمثل، فإن سقوط نظام نيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا (1989) كان نتيجة تراكم الغضب الشعبي بسبب الفقر والرقابة القمعية، لكن الشرارة انطلقت فقط عندما تهاوت صورة القائد في وعي الجماهير، بعد أن كان يُقدَّس كرمز أبوي مطلق. هنا أيضًا، الوعي هو ما حوّل الخوف إلى تمرد، والولاء إلى رفض.
وفي العالم العربي، تؤكد التجارب الحديثة هذه المعادلة. فـالثورة التونسية (2010–2011) انطلقت من حدث بسيط – إحراق محمد البوعزيزي نفسه – لكنه تحول إلى لحظة وعي جمعي بكرامة الإنسان في مواجهة الاستبداد. لم تكن الأزمة الاقتصادية جديدة، بل الجديد هو الوعي بها كظلم منظم، لا كقدر اجتماعي. أما في مصر، فقد أظهرت ثورة يناير 2011 أن الوعي الجمعي يمكن أن يتشكل سريعًا في لحظة تاريخية مركّزة، حيث تلاقت مطالب الكرامة مع وعي الشباب بضرورة إسقاط النظام لا إصلاحه. غير أن غياب التنظيم الثوري الواضح وعودة الدولة العميقة إلى السيطرة أظهر أن الوعي، إن لم يترافق مع بنية مؤسساتية جديدة، يظل هشًا أمام قوة النظام القديم.
وفي السياق المغاربي، تُبرز حركة 20 فبراير في المغرب (2011) نموذجًا خاصًا للتفاعل بين الأزمة البنيوية والوعي الجماعي دون الوصول إلى لحظة ثورية كاملة. فقد نشأت الحركة في ظل واقع اجتماعي موسوم بتفاوت اقتصادي صارخ، واحتكار سياسي للسلطة، وتراجع الثقة في المؤسسات. إلا أن خصوصية الحالة المغربية تمثلت في الطابع السلمي والمؤطر للحراك، وفي تجاوب النظام عبر إصلاحات دستورية محدودة امتصت جزءًا من الزخم الشعبي. هنا يظهر أن الوعي الاحتجاجي كان موجودًا، لكنه لم يتحول إلى وعي ثوري شامل بسبب غياب التنظيم المركزي ونجاح النظام في إعادة تأطير الخطاب السياسي ضمن منظومة الإصلاح لا القطيعة. وهكذا ظل التغيير محكومًا بإطار توافقي، مما يؤكد مرة أخرى أن الأزمة والوعي، إن لم يتكاملا تنظيميًا، ينتجان إصلاحًا جزئيًا لا ثورة شاملة.
وفي السياق المغربي نفسه، برزت خلال السنوات الأخيرة حركة “جيل زاد” كأحد التعبيرات الجديدة عن الأزمة الاجتماعية العميقة التي يعيشها المجتمع المغربي، خصوصًا في مجالات التعليم، والصحة، وفرص الشغل، وهي المجالات التي تمثل جوهر العدالة الاجتماعية. نشأت هذه الحركة من رحم التحولات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث وجدت فئات واسعة من الشباب فضاءً افتراضيًا للتعبير عن الإحباط الجماعي من هشاشة السياسات العمومية وتفاقم الفوارق الاجتماعية.
ورغم أن خطاب الحركة اتسم بطابع اجتماعي واضح أكثر من كونه سياسيًا، فإن خلفيته الفكرية تحمل دلالات وعي جمعي في طور التشكل، يسائل النموذج التنموي والسياسات العمومية من منظور المواطنة والكرامة، لا من منطلق الصراع الإيديولوجي. إنها حركة بلا قيادة، بلا تنظيم هرمي، لكنها تعبّر عن جيل جديد يرفض الخضوع للخطاب الرسمي حول “الاستقرار مقابل التنمية”، ويطالب بتحقيق الكرامة عبر خدمات عمومية عادلة وفعالة.
غير أن هذه الحركة، على الرغم من قوتها الرمزية وانتشارها الرقمي، فشلت في التحول إلى قوة تغيير فعلي، وذلك لأسباب يمكن تحليلها في ضوء المفاهيم التي وردت سابقًا في هذا المقال.
أولًا، لأنها بقيت أسيرة العفوية ولم تمتلك بنية تنظيمية أو خطابًا فكريًا جامعًا يحول التذمر الاجتماعي إلى مشروع سياسي واضح. وثانيًا، لأن النظام استطاع امتصاص تأثيرها عبر آليات “العنف الرمزي” كما شرح بورديو، أي عبر إعادة تأطير مطالبها ضمن خطاب “الاهتمام بالشباب” و“إصلاح المدرسة العمومية”، دون السماح بتحولها إلى مساءلة بنيوية لآليات إنتاج الفقر والتفاوت. وثالثًا، لأن الوعي الجمعي داخل الحركة ظل جزئيًا ومجزأ — وعيًا بالنتائج لا بالأسباب، بالمعاناة اليومية لا بالبنى الاقتصادية والسياسية التي تنتجها.
وهذا ما يجعل من “جيل زاد” مثالًا نموذجيًا على الحالة التي تحدث عنها غرامشي: حين تكون الأزمة موجودة، لكن الوعي الثوري غائب أو غير مكتمل، فيتجمد التاريخ في لحظة “اللامخرج”، حيث يدرك الناس معاناتهم لكنهم لا يملكون بعد الأدوات الفكرية والتنظيمية لتحويلها إلى فعل سياسي منظم.
مع ذلك، لا يمكن التقليل من القيمة الرمزية لهذه الحركة، إذ تمثل لحظة انتقالية في تشكل وعي شبابي جديد يرى في العدالة الاجتماعية حقًا لا منّة، وفي التعليم والصحة والشغل ركائز للكرامة الإنسانية. إنها بداية لتفكيك “التنويم الأيديولوجي” الذي يجعل الاستقرار غاية في ذاته، وإشارة إلى أن التحولات الكبرى في الوعي قد تبدأ من قضايا يومية تبدو بسيطة، لكنها تحمل في عمقها سؤال العدالة والحرية.
في المقابل، تُظهر تجارب أخرى أن غياب الوعي يؤدي إلى استدامة الأنظمة رغم عمق أزماتها. فالكثير من الدول في العالم العربي عرفت خلال العقود الماضية أزمات اقتصادية خانقة، غير أن الأنظمة استمرت في الحكم بفضل قدرتها على إنتاج خطاب أيديولوجي يصور الاستبداد كضمانة للاستقرار، ويشيطن أي وعي نقدي باعتباره فوضى. وهذا ما يسميه المفكر المغربي عبد الله العروي بـ“العقل المأسور” الذي يعيد إنتاج الخضوع باسم الدين أو الوطنية. وحين تنعدم أدوات الوعي النقدي، تتحول الأزمات إلى حالة من التكيف السلبي، ويصبح الشعب نفسه حارسًا لاستمرارية النظام.
هكذا تتضح جدلية العلاقة بين العوامل الموضوعية والذاتية في مسار سقوط الأنظمة. فالأزمات البنيوية — الاقتصادية والاجتماعية والسياسية — تخلق الشروط المادية للتغيير، لكنها لا تؤدي إليه ما لم تترافق مع ثورة فكرية وثقافية تحطم آليات التنويم. والتاريخ الحديث، من الثورة الفرنسية إلى الصينية، يبرهن أن الوعي الجمعي هو الطاقة المحركة التي تحول الإمكانية إلى واقع. أما حين يغيب هذا الوعي، فإن النظام يجد دائمًا طريقًا لإعادة إنتاج نفسه، حتى وسط أزمات خانقة.
ولعل أخطر أشكال السيطرة في الأنظمة الاستبدادية ليست القهر المادي، بل السيطرة الرمزية على العقول، أي احتكار تفسير الواقع وتوجيه المعاني. لذلك، فإن الثورة الحقيقية تبدأ في ميدان الفكر قبل أن تنتقل إلى الشارع. وكما قال غرامشي: “الثورات لا تبدأ عندما يثور الناس على الظلم فحسب، بل عندما يفقدون إيمانهم بمشروعية الظلم”. فحين تنهار شرعية المعنى، ينهار النظام من الداخل قبل أن تسقط مؤسساته. إن سقوط الأنظمة، إذن، ليس عملية اقتصادية أو سياسية فحسب، بل حدث معرفي، ثقافي، وأخلاقي في المقام الأول.
من هنا يمكن القول إن النظرية التي ترى سقوط الأنظمة كنتيجة طبيعية للعوامل الداخلية تظل جزئية، لأنها تتجاهل البعد الذاتي للوعي والتنظيم. والتاريخ يثبت أن الحتمية الاقتصادية وحدها لا تصنع ثورة، وأن الوعي دون أزمة لا يجد موضوعه. لكن حين يتطابق الاثنان، يتولد الفعل التاريخي الذي يغير مسار الأمم. فالثورة ليست فقط لحظة غضب، بل لحظة وعي عميق بأن الوضع القائم لم يعد ممكنًا. وعندها، كما كتب لينين في “ما العمل؟” حين تعي الطبقة المضطهدة ذاتها كفاعل تاريخي، لا يعود شيء قادرًا على إيقافها”.
______________
المراجع :
- أنطونيو غرامشي، دفاتر السجن (Cahiers de Prison)
- كارل ماركس وفريدريك إنغلز، البيان الشيوعي
- فلاديمير لينين، ما العمل؟.
- بيار بورديو، الهيمنة الذكورية (La domination masculine). باريس: Seuil، 1998.
- فولتير، رسائل فلسفية.
- جان جاك روسو، العقد الاجتماعي
- ماو تسي تونغ، حول الممارسة.
- جوزيف تاينتر، انهيار المجتمعات المعقدة.
- عبد الله العروي، مفهوم الدولة. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1992.
- محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1982.





















