من إنتاج الشعار إلى تحقيق الإنجاز: ملامح أزمة الفعل اليساري في المغرب
رشيد شخمان/المغرب
يشكّل اليسار المغربي أحد أهم المكونات الرمزية والسياسية في تاريخ المغرب المعاصر، غير أن حضوره ظل مشوبًا بتناقضاتٍ عميقة بين الخطاب والممارسة، وبين المبدأ والنتيجة. ومن أبرز ملامح هذه التناقضات، هيمنة “إنتاج الشعار” على حساب القدرة على تحويله إلى “موقف سياسي” واضح، وإلى “إنجاز” ملموس، مخطط له ومُنجز بأجندة ذاتية. ورغم المساهمة الهامة لليسار في عدد من المكتسبات الوطنية، فإنّ الفجوة لا تزال قائمة بين الطموح التغييري والفعالية السياسية.
1. وفرة الشعار وندرة الموقف: بين الرمزية والفاعلية
الخطاب اليساري في المغرب، منذ نشأته، اتّسم بغنى شعاراتي واضح: دفاع عن العدالة الاجتماعية، التحرر، المساواة، محاربة الفساد، إلخ. غير أن هذا الزخم الرمزي كثيرًا ما بقي في دائرة الإنشاء السياسي، دون أن يُفضي إلى مواقف واضحة، متفق عليها داخل الجسم اليساري، تُترجم تلك الشعارات إلى خيارات قابلة للتنفيذ. المفارقة هنا أن إنتاج الشعار تحوّل في كثير من الأحيان إلى غاية في حد ذاته، بدل أن يكون نقطة انطلاق لبناء موقف سياسي عملي.
2. نجاح نسبي في إنتاج الموقف… لكن الإنجاز مؤجل بسبب ميزان القوى
لا يمكن إنكار أن اليسار المغربي، خصوصًا في العقود الأخيرة، قد تجاوز إلى حدٍّ ما مرحلة الاكتفاء بالشعار، وبدأ يُراكم مواقف سياسية واضحة ونقدية من قضايا أساسية، سواء تعلق الأمر بالعدالة الاجتماعية، أو الحريات الفردية، أو الفساد، أو بنية النظام السياسي. لقد تحوّل جزء معتبر من الخطاب اليساري إلى مواقف مبدئية ومُعلنة، تتجاوز الإنشاء السياسي إلى تموقع فعلي داخل خريطة الصراع.
غير أن هذا التحول، ورغم أهميته، لم يُفضِ بعد إلى إنجازات ملموسة تعبّر عن ترجمة تلك المواقف إلى نتائج واقعية. ويعود ذلك أساسًا إلى أن اليسار، في مجمله، لم يتمكن من تغيير ميزان القوى داخل الحقل السياسي والمؤسساتي. فبدون هذا التحول النوعي في التوازنات، تبقى المواقف اليسارية، مهما كانت وجيهة، عاجزة عن أن تتحول إلى سياسات عمومية أو مكاسب مجتمعية قابلة للقياس.
3. غياب الإنجاز المخطط: من التأثير العرضي إلى غياب الأجندة الذاتية
رغم أن المشهد السياسي المغربي لا يخلو من آثار يسارية واضحة – خاصة في المجالين النقابي والحقوقي – إلا أن هذه التأثيرات ظلت في أغلبها مكتسبات جانبية، وليست ثمرة أجندة استراتيجية وضعها اليسار ونفّذها بوعي. لم يكن اليسار في كثير من المحطات هو من خطّ الهدف، وحشد الوسائل، وحقق الإنجاز كتحقُّق عملي لخيار سياسي واضح. هذا ما يطرح إشكالًا بنيويًا في الفعل اليساري: غياب التراكم المخطط له، مقابل التفاعل الظرفي مع تحولات لم يكن هو صانعها الأساسي.
4. نخب مثقفة، ولكن صامتة: مأزق الانفصال عن الميدان
من بين المفارقات اللافتة في تجربة اليسار المغربي، وجود نخب فكرية وثقافية ذات عمق نقدي ورؤية تحليلية متقدمة، أسهمت في تفكيك البُنى السلطوية، وفي تأصيل كثير من المفاهيم الحقوقية والاجتماعية. غير أن هذه النخب، رغم حضورها المعرفي، ظلت في كثير من الأحيان منفصلة عن الميدان السياسي والاجتماعي المباشر، أو مُتحفظة عن الانخراط في المعارك اليومية لبناء القوة التغييرية.
هذا الانفصال ساهم في إضعاف الجسر الضروري بين الفكر والممارسة، بين التحليل والاقتراح، وبين النظرية والحشد. فبينما راكمت النخب اليسارية نصوصًا نقدية متينة، بقيت القاعدة الاجتماعية دون تأطير حقيقي، أو وعي سياسي يُترجم تلك الأفكار إلى مطالب شعبية ضاغطة. وهكذا، ساد نوع من الصمت النخبوي أمام ضجيج السطحية أو الشعبوية، التي ملأت الفضاء العمومي دون مقاومة ثقافية منظمة.
نحو فعل يساري جديد؟
إن تتبّع مسار اليسار المغربي يكشف عن تجربة غنية بالرمزية، مثقلة بالتضحيات، لكنها لا تزال أسيرة مفارقاتها. من جهة، تمكّن هذا اليسار من تجاوز مرحلة الشعار نحو بلورة مواقف واضحة ومبدئية، ومن جهة أخرى، فشل في ترجمة هذه المواقف إلى إنجازات مخططة، بسبب عجزه عن تغيير ميزان القوى. كما أن الحضور القوي للنخب الفكرية لم يُواكب بفعالية تنظيمية في الشارع، ما جعل القطيعة بين التنظير والممارسة تتعمّق.
لكن هذه الوضعية، ورغم ما تحمله من مظاهر الأزمة، ليست قدرًا محتومًا. فالتحولات الجارية – اجتماعيًا وثقافيًا – تفتح هامشًا جديدًا لإعادة بناء الفعل اليساري، شريطة مراجعة أدواته، وخطابه، وتحالفاته. المطلوب اليوم ليس فقط إعادة إنتاج الشعار أو تأكيد الموقف، بل التأسيس لمرحلة تُنتج القوة القادرة على تحويل الرؤية إلى واقع. وهذا يمر عبر مصالحة اليسار مع قاعدته الاجتماعية، وتجدده التنظيمي، واستثماره الذكي في المعارك الممكنة بدل الانتظار المثالي لظروف غير متاحة.
هكذا فقط يمكن لليسار أن يتحول من شاهدٍ على التحولات إلى فاعلٍ فيها، ومن قوة رمزية إلى قوة إنجاز.