الجوهر الفلسفي للماء
مقال بقلم: سانتوش كومار بوكاريل
ترجمة: الشاعرة والمترجمة اللبنانية البرازيلية تغريد بو مرعي
الماء، أو “جَل”، هو أحد العناصر الخمسة الأساسية للوجود: برثفي (الأرض)، جَل (الماء)، أجني (النار)، فايُو (الهواء)، وآكاش (الفضاء). تشكل هذه العناصر أساس الخلق، حيث تمزج بين الأبعاد المادية والميتافيزيقية في كيان موحد. ومن بين هذه العناصر، لا يقتصر دور الماء على كونه ضرورياً للحفاظ على الحياة البيولوجية، بل يحتل أيضاً مكانة ذات أهمية ميتافيزيقية عميقة. وبالتكامل مع عنصر النار، يمكن للماء أن يتجاوز الجوانب المادية ليصل إلى عوالم الروح والوجود الكوني.
الماء كتجسيد للحياة:
يقع الماء في صميم الحياة، ولا غنى عنه لكل الكائنات الحية. فهو يتجلى في الداخل كدم أو عصارة، يغذي دورة البقاء الفيزيائي، وفي الخارج كأنهار ومحيطات وخزانات جوفية، مما يرمز إلى الديناميكية الدائمة للأرض ذاتها. إن الأرض، التي تُعد كائناً حياً بذاتها، تجسد الحياة في أشكال لا حصر لها، وبذلك تعكس الحيوية الأكبر للكون. فالأنهار التي تشق مساراتها عبر القارات، والمحيطات التي تحتضن الأرض، ليست مجرد مسطحات مائية؛ بل هي الحياة نفسها في حركة، إيقاع أبدي يغذي الخلق.
تتوافق هذه الفكرة مع الفهم القائل إن الحياة لا يمكن أن توجد على أرض ميتة. ولكي تستضيف الأرض الحياة، يجب أن تكون نفسها حية، وهذه الحياة تمتد إلى الكون. فالكواكب والنجوم والمجرات، التي غالباً ما يُنظر إليها على أنها كيانات جامدة أو ميتة، تصبح، وفق هذا المنظور الفلسفي، كيانات نابضة بالحياة بطرق تتجاوز الإدراك البشري.
الأبعاد الميتافيزيقية للماء:
إن الترابط بين العناصر الخمسة يجسر بين العوالم المادية والروحية، مما يجعل من الماء أكثر من مجرد ضرورة مادية. فهو يصبح كياناً ميتافيزيقياً، ووسيطاً تتصل من خلاله الروح بالوجود. إن جوهر الروح، الخالي من الشكل الملموس، يجد في الماء عزاءً وغذاءً. ويتضح هذا في الطقوس التي يتم فيها تقديم الماء للأرواح الراحلة في الفلسفة الهندوسية. فالاعتقاد بأن الماء يمكن أن يروي جوهر الروح يكشف عن دوره المتعالي كحلقة وصل بين المادي والروحي.
وفقاً للفلسفة الشرقية، تُعتبر الحياة دورة أبدية، تحكمها قوانين الكارما والتناسخ. وعندما يتحلل الجسد المادي، تستمر الروح في رحلتها متحررة من العناصر الأرضية والمائية، لكنها تحتفظ بالنار والهواء والفضاء—العناصر التي تُمكنها من الوجود والسفر بحرية. ومع ذلك، حتى في حالتها غير الجسدية، تحتاج الروح إلى الماء لتجد السلام، مما يبرز قدرة الماء الفريدة على الربط بين الملموس وغير الملموس، ليكون معزياً للحياة والروح على حد سواء.
الماء والحياة الكونية:
إن فكرة أن الكون نفسه يحتاج إلى الماء للحفاظ على حيويته ترفع من أهميته الفلسفية. فالكواكب، تماماً كالكائنات الحية، تعتمد على الماء كقوة أساسية لديناميكيتها وتوازنها. إن الأرض، ببحارها الواسعة ودوراتها المائية المعقدة، ليست مجرد مضيف للحياة بل كيان حي بذاته. وإذا مددنا هذا المبدأ إلى الكون، فإن الأجرام السماوية بدورها مشبعة بالماء—أو ما يعادله في الأبعاد الكونية—للحفاظ على وجودها.
تدعو هذه النظرة إلى رؤية الكون ليس ككتلة من المادة الجامدة، بل كنظام حي مترابط. فكما يتدفق الماء عبر الأنهار، مغذياً ومربطاً بين النظم البيئية، يجب أن يوجد في الكون بأبعاده المختلفة، محافظاً على تماسكه وحيويته.
الماء كمشبع للروح:
في الإطار الفلسفي للتناسخ، يمتد دور الماء إلى ما هو أبعد من المجال المادي ليشمل الميتافيزيقي. فهو ليس فقط معيناً للحياة، بل أيضاً مطهراً وشفائياً للروح. وتجسد الطقوس التي يتم فيها تقديم الماء للأرواح الراحلة فهماً عميقاً لقدرة الماء على تجاوز الحدود المادية. فمن خلال إرواء جوهر الروح، يصبح الماء رمزاً للاستمرارية، يجسر بين الزمني والأبدي.
إن هذه الثنائية—ضرورته الفيزيائية وقدرته الروحية—تجعل من الماء عنصراً فريداً. فهو في آنٍ واحد يروي العطش البيولوجي ويقدس في أبعاده العليا. ويجب أن يُنظر إليه كواحد من العناصر الخمسة التي تعمل في مجملها. فكل عنصر له بعده الأعلى من الوجود، مما يدعم الفكرة القائلة بأن كل شيء في الخلق له شكله الخاص من الحياة.
وعند مناقشة الماء وأبعاده المختلفة في الوجود والوظيفة، يجب ألا ننسى ذكاء الطبيعة الذي يصوغ كل العناصر الخمسة، ويغمرها بالحياة والغرض. فكل أشكال الحياة مقدرة لتسبيح مجد خالقها والخضوع له.
خاتمة:
يجمع الماء بين الأبعاد المادية والروحية للوجود، وبالتكامل مع النار والفضاء، يمنح الحياة للأرواح. إن وجوده في الكائنات الحية وغير الحية على حد سواء يبرز عالميته.
وفي تقديم الماء للروح، نقر بأهميته الميتافيزيقية، ونكرم دوره كجسر بين المرئي وغير المرئي، بين الفاني والأبدي. ومن خلال هذا المنظور، يُعتبر الماء مساهماً في دورة الحياة الأبدية، حيث يعمل كقوة دائمة تغذي، وتربط، وتقدس كل مظاهر الخلق.
[الكاتب: كاتب وشاعر عالمي متعدد اللغات من نيبال]