القيم رافعة أساسية لمواجهة التخلف – فكر المهدي المنجرة نموذجا
الجزء الأول
بقلم ذ. المعانيد ناجي الشرقي
شكلت منظومة القيم عبر تاريخ الفكر الإنساني ولا تزال، ذلك الأساس الرصين لبناء صرح كل حضارة إنسانية تجعل نصب أعينها وأولى اهتماماتها العنصر البشري في الأمام، حيث لا تنمية ولا تقدم بدون الاهتمام بهذا العنصر الحيوي، الذي يجب الاستثمار فيه من خلال دمجه ثقافيا في سيرورة التغيرات العالمية التي تطبعها حركية متسارعة في عالمنا المعاصر، وتنافس شرس على احتلال مواقع متقدمة على المستوى المعرفي، وذلك بالنظر إلى حجم النفقات التي يرصدها كل كيان بشكل عام، والكيان العربي الإسلامي على وجه الخصوص.
لا أعني بحجم النفقات المرصودة لمواجهة التخلف بكل أشكاله وأنواعه الجانب المادي فحسب، فهذا أمر طبيعي وبدونه لا يتحقق البحث العلمي ولا يستقيم، و لا يصل هذا الأخير إلى أهدافه وغاياته المنشودة، ولكن يظل العنصر الرمزي بما يحتويه من أفكار واستراتيجيات ومناهج وخطط للعمل، ذلك العنصر الأساسي الذي تم إغفاله منذ زمن ليس باليسير من طرف العالم العربي، والمتمثل في العقل والقوة التي يشكلها، ذلك العقل، الذي يطلق العنان للتفكير الذي يحلل ويقارن ويحاسب ويراقب ويقدر ويقيس ويستخلص النتائج والآثار ويفضي في نهاية المطاف إلى التزكية من خلال وضع استراتيجيات العمل، والتنبؤ بما يضمره ويخفيه المستقبل لشعوب المعمور كافة، وشعب العالم العربي بشكل خاص، لما آلت إليه أوضاعه من درجات متفاوتة من الاستلاب والتخلف والتشظي والاغتراب. إن الشيء الجوهري الذي يفجر في دواخلنا أسئلة حرجة ومقلقة في كثير من الأحيان، هو عدم فهم هذه العبارة بشكل دقيق، ” لا توجد ثقافة بدون منظومة قيم ” وقد أشاد بها بل و تبناها المفكر المغربي المهدي المنجرة في جل محاضراته سواء بالمغرب أو خارجه، وهي متضمنة في كتابه ” قيمة القيم “.
إن النظر بعين العقل إلى الأمور الجسام المتمثلة في التحديات التي تؤرق السواد الأعظم من دول العالم الثالث الأمس واليوم، لهي بؤرة التوتر التي تستوجب مراجعة شاملة لمنظومة القيم بكاملها، وذلك من خلال الحفر في الأسس الثقافية لمجتمعاتنا بطرق أركيولوجية، تتوضح معها الرؤية المستقبلية لأجيال تنتظر منا تأمين المستقبل من خلال دراسات استراتيجية، تقوم على خلخلة جذور التخلف و اجتتاتها بشكل نهائي.
ولما كان التخلف هو العامل المفرمل لكل تنمية و تقدم، فمرد ذلك بالأساس، إلى عدم التركيز على البعد الثقافي المعرفي، لأن التخلف في جوهره ذو طبيعة ثقافية في وطننا العربي، هذا الأخير، الذي غالبا ما كان يدير ظهره للدراسات المستقبلية والتي كانت أولى اهتمامات المفكر المغربي المرحوم ” المهدي المنجرة ” الذي استفادت منه كيانات خارجية وعلى رأسها اليابان.
فالدراسات المستقبلية هذه، كانت تركز بالأساس على ثلاثة خيارات مفتوحة أمام العالم العربي، إما خيار بقاء الأوضاع كما هي وهذا خيار غير ممكن، والخيار الثاني هو خيار الإصلاح ولكن إصلاح له حدود، و الآن لم يعد ممكنا في العالم العربي، والخيار الثالث هو خيار القطيعة، وللأسف الشديد، هذا هو الخيار الذي يسير أو يتجه نحوه العالم العربي والإسلامي، لكن هذه القطيعة لن تأتي من الداخل، ولكن سيفرضها العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال توظيف منظومة القيم كآلية للهيمنة والسيطرة على العالم. و الآن الحرب أضحت إحدى مظاهر الاستعلاء الثقافي من خلال إيديولوجيا العولمة، وهذه الأخيرة أي العولمة في الواقع، هي أيديولوجيا لا تتم بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية فقط، وإنما تركز على الجوانب الثقافية أساسا لممارسة قهر ممنهج لكل شعوب العالم، وخلق تبعية اقتصادية تفرمل كل مخططات التنمية من الداخل، وعلى الخصوص ما بات يعرف بدول الجنوب الأقل تنمية.
فطالما لم يتحول العلم إلى ثقافة في الوطن العربي، وبقي حبيس التقنية، وطالما نعيش حياة التبعية الاقتصادية هذه، فلن تكون هناك تنمية بالمعنى العميق للمفهوم، وسيبقى التخلف يضرب بأطنابه من الخليج إلى المحيط، لأن التخلف الذي تتخبط فيه جل دول العالم الثالث ليس بالمطلق تخلف اقتصادي واجتماعي، ولكن هو بالأساس تخلف ثقافي، فعندما نركز على الجانب الثقافي بغرض حلحلة وخلخلة تخلفنا، فهذا ليس من باب اعتبار الثقافة بالمنظور الأنثروبولوجي ارتماء في حضن الماضي والارتباط بعاداتنا و تقاليدنا وموروتنا الثقافي فحسب، ولكن علينا الانفتاح على ثقافات أخرى لكي يحصل التناغم والتلاقح بين الشعوب على اختلافها وتنوعها، كما هو الحال بالنسبة لدول حوض البحر الأبيض المتوسط في فترات الازدهار الثقافي الذي انتجته دول تعاقبت على تعمير هذه المجالات والبلدان. فلا تقدم ولا مستقبل بدون ماضي. وهنا يمكننا الاستشهاد بمقولة شهيرة للحكيم الهندي المهاتما غاندي ” علي أن أفتح نوافذ بيتي كي تهب عليه رياح كل الثقافات، شريطة أن لا تقتلعني من جذوري. ” فقد استشهد بهذه المقولة المفكر المغربي المهدي المنجرة في كتابه ” قيمة القيم ” ولو بترجمة أخرى مختلفة، غير هذه التي قمت بإدراجها في هذا المقام، لكن على العموم يبقى المعنى والمضمون والقصد واحد.
فالثقافة بمعنى من المعاني تحمل دلالات كثيرة وتعاريف أوسع وأشمل خصوصا في مجال الأنتروبولوجيا، لا يتسع المجال لذكرها بتفصيل، ولكن لا بأس من أن نسوق هذا التعريف المركز والأكثر دلالة للمفكر اللبناني الماركسي الشهير ” مهدي عامل” لمفهوم الثقافة، ” فهي حسبه مقاومة” مقاومة تأخذ على عاتقها عدم انفصام الفكر مع الواقع والجنوح إلى الطوباوية التي تغذيها الإيديولوجيات من كل جانب، فتضحى تشويها وقلبا لكل حقائق هذا الواقع، وما يحمل من تخلف مقيت يحكم على الشعوب بموت مؤجل، من خلال استعمار ثقافي لا سبيل للخروج منه إلا بواسطة التحرر الثقافي والحضري كتحدي نحافظ من خلاله على القيم الرصينة، والمطلوبة هنا والآن. و ما القيم التي نخص ؟ إنها القيم التي أنتجها بنفسي و لا أقبل بمعنى من المعاني تلك التي تفرض علي من جهات أخرى، طالما لا يقبلها العقل بلغة المنطق و المناطقة، فهذا ليس بنفي لمبادئ الاختلاف، و لكن على هذا الأخير أن لا يضرب الهوية الأصلية المتجدرة في أعماقنا والتي نسجت من خلال مرجل التاريخ.
إن السبيل الأنجع في مواجهة التخلف بكل تجلياته وأشكاله، هو تحقيق الأهداف الحضارية والثقافية من خلال رؤية مستقبلية ثاقبة، تأخذ على عاتقها الاهتمام بمنظومة القيم بشكل أساسي، ولما تتحقق هذه الرؤى ستفتح لا محالة أفقا رحبا للتقدم الاقتصادي والسياسي أيضا، بعيدا عن التبعية التي تطرد وتجهض كل مخططات التنمية في مهدها. والتخلف الذي نحن بصدد مقاربته بغرض طي صفحاته ليس وليد اليوم أو اللحظة، بل ورثناه عن الاستعمار، و لو أن المستعمر خرج بما خلف من علات وراءه، وأن الاستعمار الحقيقي بحسب المفكر وعالم المستقبليات المغربي ” المهدي المنجرة ” قد بدأ بعد الاستقلال واستمر، وقد أخذ أوجها وأشكالا عديدة. والاستعمار بمعنى من المعاني، لم يكن سببا مباشرا في تخلفنا، ولكن المقصود بالذكر هنا، فترات ما بعد الاستعمار بما عرفته من لحظات عسيرة على الفهم والعيش، والتي تجرعتها الشعوب خلال تلك السنوات ومنها على سبيل المثال لا الحصر، عدم الاهتمام بالعنصر البشري، وتطوير اللغة والبحث العلمي، والتشجيع على اكتساب المعرفة بكل صنوفها وضروبها، كانت كلها مجتمعة من بين الأسباب المباشرة في رجوعنا القهقرى إلى الوراء بشكل كبير وخطير على جميع المستويات.
ولمحاربة التخلف أيضا، و بشكل مختلف عما سبق، طرح المفكر المغربي المهدي المنجرة مسألة التواصل الثقافي عبر آليات الحوار، طالما أن الآخر أو بصيغة أدق، الغير ضروري لوجودي بتعبير جون بول سارتر، فلا غنى لي عنه، فهذا السلوك الحضاري الذي يتيحه التواصل عبر تقنيات العلم المعاصر يمحي التمايزات ويقلل الحزازات بين شعوب المعمور، وهو مرور عادي من المفرد إلى الجمع، وينتج تغييرا جذريا في تصور الآخرين لتصرفاتي، من خلال تجاوز التناقضات داخل منظومة القيم من جهة، واتجاه الآخرين من جهة ثانية، إنه امتحان حقيقي للتسامح وخصلة إنسانية بين البشر، تتحول إلى تبادل رمزي قوامه الاحترام المتبادل.
ومن الأمور العسيرة على الفهم كذلك، والتي تشكل موطن التخلف و أعمدته الحقيقية، هو عدم فهمنا لباطن التاريخ وكيفية نقل القيم عبر ذاكرة زاخرة لا تستخدم بالمعنى النقدي، بما يحول هذا التراكم المعرفي القيمي إلى كرامة إنسانية، لأن الكرامة الإنسانية والقيم في الواقع، هي المفاتيح الأكثر فعالية لفهم تقنيات البقاء، ولأن كل شيء مستورد من أنماط التطور غفل هذا المعطى الأساسي للكرامة، والذي ليس إلا مرحلة تمهيدية للحرية كقيمة إنسانية تتيح للفكر أن يجوب سماء الأعالي، ليتنفس معه الإنسان هواء نقيا دون أن يصاب بنزلات البرد.
إن هذا التخلف الذي انتشر في أوصال الوطن العربي كتلك القشة التي قسمت ظهر البعير، مرده كذلك وبالأساس، للسياسات العرجاء، والتي تشبه إلى حد كبير تلك الوجبات السريعة التحضير تسر ناظريها من خلال شكلها الخارجي، إلا أن أحماضها الأمينية منعدمة، إن لم نقل عديمة الفائدة، لكونها أعدت على عجل، وفي ظروف أتاحت لمحضريها إخراجها على تلك الشاكلة. إن الشعوب التي لا تعرف من أين ومتى وكيف يبدأ التغيير، لعمري شعوب تجاوزها التاريخ بالمعنى المادي، إن القدرة التكنولوجية الهائلة على المستوى المعرفي تعد من الخصائص الجديدة للسلطة الحقيقية، سلطة لا تخضع لأي دستور ولا لأي معاهدة ولا لأي تصريح دولي، فعندما تمتلك أيادي مدربة، غير مرتعشة، حينئد تأكد من أن الأداة ستصبح في متناول اليد، و أن هذه الأخيرة ستشتغل بالكيفية المطلوبة، وحين ذلك الوقت، ستوفر هذه الأيادي لنفسها شروط البقاء من خلال ضمان العيش الكريم وبالتساوي بين طبقات المجتمع.
فعندما يشتغل الفكر بالكيفية التي يرسم من خلالها الخيال ما ينبغي أن تكون عليه الأشياء، فهذا بكل تأكيد طفرة نوعية حققها الإنسان العربي بالتحديد، وذلك بتحويل اللامرئي إلى المرئي. إن التربية كفعل بيداغوجي في الوطن العربي بأسره، لم يعتمد يوما في حياته على خلق آليات التعلم وغرس المعرفة بأشكال ذاتية، طالما ركن ويركن لطرق أضحت باهتة من فرط استنساخها، إن الصورة والكلمة شيئان مختلفان تماما، لكن كيف أحول الصورة إلى كلمة فذلك هو الخلق و الإبداع، فالصورة لها علاقة بالحركة من خلال الإبداع السينمائي، والسينما تغنينا بفضل قدراتها على تجسيد وترجمة الخيال في الملموس الواضح، حين ذلك نحلم وبصوت مرتفع. والكلمة لها علاقة بفعل التربية، التي لا يمكننا فهمها ونقلها إلا من خلال الحركة التي ترتبط بفن السينما، هكذا يبدو أن هناك انسجام تام بين فعل التربية والسينما. فلازلت أذكر في مراحل الصبا كنا نحضر أسبوعيا لمشاهدة أفلام متنوعة مختارة تتلاءم مع سننا بقاعة الأفراح بمدينة خريبكة، وعند رجوعنا يسائلنا منشطنا عن فحوى الشريط الذي تابعناه بطريقة تربوية فتحت خيالنا على اللامرئي وعلى الكتابة بيدين.
إن التربية في حقيقة الأمر تحتاج إلى تكثيف الجهود وتوفر الإرادة الحقيقية للإصلاح، دون المقامرة بمبالغ خيالية ذهبت ولا تزال تذهب أدراج الرياح. فعن أي تربية نتكلم ؟
ليس بالأمر اليسير أن تنتج أجيالا تفكر، و ليس بالأمر الهين أن تضع المسئولية في إعداد البرامج والمناهج ونفقاتها لمن لا قيم لهم، ستضيع السنين ومعها أجيال وأجيال، وسترهن الدولة مصيرها المستقبلي في يد عمالقة الرأسمال.
لقد تساءل المفكر المغربي وعالم المستقبليات المهدي المنجرة سؤالا عميقا كان يرهقه كثيرا من فرط وقعه وفي ظل غياب رؤية واضحة المقاصد ومحددة المعالم. ومضمونه: ” إلى أين نحن سائرون ؟ ” لقد حسم المهدي المنجرة موقفه بخصوص جملة من القضايا وذلك من خلال إيمانه الشديد بأن ما ينتج من خلال جذور مريضة يكون مختلا، خصوصا عندما تغيب المصداقية. ولهذا طرح أسئلة محرجة و واقعية عن مصير المغرب بالتحديد ومنها: من أين أتينا؟ وأين نحن الآن؟ وإلى أين نسير؟ ثم يضيف: إلى متى سيبقى مصيرنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي رهينا بالآخر؟