الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

حوار مع الشاعر المغربي مبارك وساط ..

أجرى الحوار: ذ. عبد المنعم الشنتوف

 

يمثل الحوار مع الشاعر المغربي مبارك وساط فرصة للاقتراب من العوالم الشعرية لواحد من أصفى وأعمق الأصوات في المغرب الشعري، وسبيلا لطرح الأسئلة العميقة للشعر بما هو تخييل ولغة وتجربة ومخزون صور وتمثيلات وجسور موصولة بين خبرات جمالية متباينة من حيث تاريخيتها وجغرافياتها. تتقدم الكتابة عند هذا الشاعر الذي رأى النور في مدينة اليوسفية المغربية عام 1955 باعتبارها موصولة بالذات الإنسانية ومظاهر حضورها في العالم. راهن مبارك وساط على الاحتفاظ للقصيدة بمتعة الدهشة وتحفيز الذوات القارئة على التفاعل الإيجابي مع النص باعتباره محصلة زواج سعيد بين وهج التجربة الحياتية والاستدعاء الواعي والذكي لصور وتمثيلات تجد أساسها في الموروث الشعري العربي القديم أو التجارب الشعرية الغربية. وفي هذا السياق، يأتي إسهامه الدال في ترجمة مختارات مقصودة من الشعر الأوربي المرتبط تخصيصا بالتقليد السريالي علاوة على تحققات من الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية. وتشكل هاته الترجمات الأنيقة إسهاما في تخصيب المدونة الشعرية العربية.

 

  • يفترض الاقتراب من تجربتك الشعرية بمختلف تحققاتها النصية صوغ سؤال البدايات. ويهمني باعتباري ذاتا قارئة أن أسألك حديثا عن بواكير أو إرهاصات الوعي بأهمية القول الشعري: هل كان للأمر تعلق برغبة في التعبير بطريقة تتسم بالمغايرة والاختلاف؟
  • هل أسمح لنفسي بافتراض ارتباط الولوج إلى قارة الشعر بسيرورة يختلط فيها الذاتي بالموضوعي وبأبواب ومفاتيح، وأفترض فيما يهم تجربتك الثرية أنها تستجيب نسبيا لهذا الافتراض؟

 

تمّ لقائي الأوّل بالشّعر مبكِّراً، ولكنّ ذلك اللقاء كان يُوشِكُ أن يكونَ سطحِيّاً في البداية، وذا طابع عاطفيّ إلى حدّ بعيد. لستُ أدري ما الذي جعلني أُحِبّ الكتب في الصِّغَر، ولكنّي أتذكّر أنّه كان في حوزتي، وأنا في نحو العاشرة، كتاب ‘دمعة وابتسامة’ لجبران خليل جبران، وكتاب آخر كان بدون غلاف، وتنقصه بضع أوراق، ويتضمّن مختارات شعرية جيّدة من الشِّعر القدم، مع شروح ضافية للكلمات الصّعبة. وكنتُ أعتبرُ امتلاكي لهُما حدثاً كبيراً في حياتي، فكنتُ أقرأهما وأعيدُ القراءة، ثمّ انضافتْ إلى كتاب جبران كتبٌ أخرى بالعربيّة والفرنسيّة، كانتْ روايات في الغالب، لكنْ من بينها كان كتاب على صِلة بالشِّعر، هو ‘تاريخ الأدب العربيّ’ لحنّا الفاخوري. في هذا الكتاب، كانتْ هنالك صُوَرٌ متخيَّلة لعدد من الشّعراء القُدامى الذين تمّ تناول حياتهم وشعرهم بشكل عامّ جِدّاً في الكتاب، وقد أَنجز تلك الصّور فنّان لم أنسَ اسمَه حتّى الآن، رغم أنّ آخر إطلالة لي على كتاب الفاخوري تعود إلى نحو أربعين سنة: آرتور أورتيس! المهمّ أنّ شعراء كثيرين، من الجاهليّة إلى العصر العبّاسي وحتّى ما بعده، بدوا لي، من خلال أبياتهم المدرجة في الكتاب ووقائع حيواتهم، ومن خلال صورهم أيضاً، في مُخيِّلتي، كأنّما هُم من أهل تلك القرية القريبة البعيدة، المعروفة من قِبَلي والتي يلفّها في نفس الوقت، بالنّسبة إليّ، ضبابٌ شفيف يمنحها طابعاً حُلُمِيّاً وأسْطوريّا بعضَ الشّيء، فيما هي، في الوقت نفسه، واقِعيّة جِدّاً في ذهني: أعني ‘الدَّخَّانة’، التي كُنّا نهبُّ إليها حين يحلُّ الصّيف، لقضاء نحو شهر من العطلة الصّيفيّة في ربوعها. وبين بيوت تلك القرية ومسالكها، في عالمها العجائبيّ بالضّرورة إذْ هي، في تصوّري وقتها، خياليّة وأسطوريّة وواقعية، كان يمكنُني أنْ أرى المتنبّي، مثلا، ماضيا أمامي نحو حانوت ‘ولد المكّي’ ليشتري سجائر وبضع شموع، مُرَدِّداً في دخيلته: ‘صلاةُ اللهِ خالقِنا حنوطٌ على الوَجْهِ المُكَفَّنِ بالجَمال’، ولا يَهمّ، إن اتّضح لي، بعدها، أنّ من حسِبْتُهُ المتنبّي كان، في الواقع، هو حميدة ‘مُولْ الكارُّو’، أي صاحب العربة التي تجرّها أحصنة والتي ينقل فيها زبائنه القرويّين في فجر كلّ أحد إلى السّوق الأسبوعي، فالأساسيّ هو أنّ المتنبّي كان هنالك، حيثُ رأيتُه، بشكلٍ واضح ولا يُمكن إنكارُه!.. وباعتبار أنّ ثمّة علاقات قرابة، قريبة أو بعيدة، كانتْ تَصِلُ أهل القرية ببعضهم، امتدّ ذلك الحِسّ بالقرابة، لديّ، إلى شعرائنا القدامى أنفسهم، في علاقة عاطفيّة قوامها الودّ والفضول والتّقدير الكبير، مع إحساسٍ قويّ بأنّ عالمي مختلف عن عالمهم…

هكذا توثّق ارتباطي العاطفيّ، في البداية، بالشِّعر العربيّ القديم. لكنّي لم أشْعُرْ قَطّ برغبة حقيقيّة في أن أكتب على طريقة من بدوا لي في مقام الأجداد. وفي بدايات الشّباب، اكتشفْتُ بعضاً من شُعراء الدّادائيّة والسّورّيالية الفرنسيّين، فالفرنسيّة هي اللغة التي كانت معتمدة بالأساس في التّدريس أيامَ كنتُ تلميذاً. وعلاقتي بهؤلاء الشّعراء لم تكن، بالنّسبة إليّ، من الصّنف العائليّ-العاطفيّ، بقدر ما كانتْ علاقة شخص في بدايات اكتشافه للحياة بمعناها الواسع بآخرين يشعر أنّهم ينتمون إلى عالم المدينة، مثله، وأنّهم متمرّدون على ما يبدو لهم معرقلا لسيرورة استكشاف الجمال الشّعريّ والفنّيّ بصفة عامّة، وأنّهم، تحديداً، من أنصار الخيال الخلاَّق. وهكذا، كنتُ شغوفاً بالعربيّة من جهة، وبأسلوب التعبير الشّعري الذي كان يدعو إليه الشّعراء الغربيّون المذكورون، من جهة ثانية. كان الأمر مرتبطاً لديّ، أيضاً، بتعاطُفي المبكّر نسبيّاً مع الفكر المتمرّد واليساريّ. ثمّ اكتشفتُ شعراء عربا من زماننا، لم يكن ذلك التغلغل فيما وراء سطح الواقع وذلك البحث عن قصيدة ذات سمات شخصيّة لا تنبع من قوالب عامّة بالغريب عنهم ولا عن ممارستهم للكتابة، فكأنّي اكتشفْتُ عائلة جديدة، عَصْريّة ومدينيّة ومتضامنة على الصّعيد الجماليّ، فنشأتْ لديّ الرّغبة في الانضمام إليها، عن طريق الكتابة الشِّعريّة.

 

  • أصدرت ديوانك الشعري الأول ‘‘على درج المياه العميقة’’ عام 1990 عن دار توبقال، ثم نشرت بعد في عام 2001 كتابا شعريا يضم بالإضافة إلى هذا النص ديوانين هما ’’ محفوفا بأرخبيلات’’ و ’’ راية الهواء’’ عن دار عكاظ. ويعرف المتابعون لتاريخية الشعر المغربي أنك تنتمي إلى جيل الثمانينات بأسئلته وانتظاراته الجمالية والمعرفية علاوة على أعطابه واختلالاته. كيف تتحدد تجربتك في سياق هذا الجيل الشعري، وهل تحتفظ شخصيا بمسافة مع رؤيته الخاصة لطبيعة الكتابة الشعرية؟ ونحن نعرف أن هذا الجيل بمختلف حساسياته كان في منطقة البين بين، أي في البرزخ الفاصل بين تجربة السبعينات المأخوذة بالإيديولوجيا ونموذج التفعيلة وجيل التسعينات الذي انفتح بقوة على تجربة قصيدة النثر وانتظاراتها؟


 مسألة الانتماء إلى جيل شِعْريّ ما، هي من باب التّصنيفات اللاحقة على الكتابة الشِّعْرِيّة نفسِها، فالذي يُريدُ أنْ يكتب قصيدته الشّخصيّة، لا يضع لنفسه قيوداً أو قواعد مسبقة بهدف الاشتراك في حدٍّ أدنى معيّن مع غيره من أبناء بلده من الشّعراء الذين يُشاركهم العيش في نفس الحقبة الزّمنيّة. وفيما يخصّني شخصيّاً، فإنّي لمْ أدرس قَطُّ ‘الأدب’ دراسة ‘نظاميّة’، لا في جامعة أو في أيّ من المؤسّسات التّعليميّة، ذلك أنّي كنتُ أنتمي إلى شعبة ‘علوم رياضية’ في الثّانوي، حيثُ كُنّا نتلقّى الدّروس بالفرنسيّة، وبعدها دخلتُ كُلّية العلوم، ثمّ كان هنالك ظرفٌ قاهر حقيقةً، في أوائل سبعينيّات القرن الماضي، فرضَ عليّ أن ‘أنحرف’ عن مساري، وأدرس الفلسفة. ولذا فقراءاتي الشّعريّة لم تكن تخضع لنظام إلا ميولي الأدبيّة الشّخصيّة، وترتّب عن هذا أنّي، في مرحلة ما، كنتُ أجِدُ ضالّتي عند شعراء مشارقة، وعند مغاربيين يكتبون بالفرنسيّة، فيما كانت علاقتي بالشّعر العربي المغربي واهية أو تكاد. ثُمّ بدأتُ أنشُرُ شِعْرا، وأكتشف في الوقت نفسِه شعراء مغاربة من أبناء جيلي ومن السّابقين عليه واللاحقين، أشعر بقرابة تجمعني ببعضهم. فقراءاتي، فيما يبدو لي، تخضع لمقتضيات جماليّة، فأنا لا أفرضُ على نفسي قراءة شعر لا أتفاعل معه لمجرّد كونه من أبناء جيلي، أو لأنّه مغربي… ومن جهة ثانية، فإنّي لستُ متعصّباً لأسلوب شعريّ دون آخر، كما أنّي لا أحاول أن أساير ما هو متعارف عليه، فيما يخصّ تقييم الشّعراء… وعلى سبيل المثال، فأنا أعرف، ذهنيّاً، أنّ بودلير شاعر كبير، وإلا فكيف تتفق على ذلك أجيال من القُرّاء، ولكنْ ما ذنبي أنا إذا كان شِعْرُه لا يعني لي الكثير؟ وفيما يخصّ إدغار ألان بو، فباستثناء ‘الغراب’، لم أفلح في محاولتي الإعجاب بقصائده، لكنّي أجد قصّته، ‘الرّقّاص والبئر’، على سبيل المثال لا الحَصْر، عملا عظيما مشحوناً بطاقة إبداعيّة هائلة… ويمكنني، بإيجاز، أن أكمل إجابتي على سؤالك بما يلي: شِعر التّصريح الإيديولوجيّ لا يعنيني، كما أنّي لا أرتاح للغنائيّة، فما سُمّي بقصيدة النّثر، لدى عدد من الشّعراء وليس في المطلق، أقرب إلى نفسي، وكذلك بعض من شعر التّفعيلة المتخلِّص من الغنائيّة وهيمنة الإيديولوجيا…

 

  • لمست من خلال مصاحبتي لتحققات تجربتك اتصال أسبابها بالتراث العربي وانفتاحها الواعي على المنجز الغربي في هذا الخصوص. ويكفي أن نعود إلى درج المياه العميقة لنلمس كيف تختار في أحايين عدة لغة معتقة ومقطرة تحيلنا بأكثر من قرينة إلى بعض نماذج التراث الشعري والسردي العربي وكيف تستثمر بطريقة ذكية التقليد الشعري الغربي خصوصا في تمثيله السريالي- سوف أعود معك إلى هذه النقطة في سؤال لاحق- كيف تمكنت من أن تؤالف بين هذين المنحيين؟

 

في إجابتي عن السّؤال الأوّل، قلْتُ إنّي كنتُ أقرأ لأدباء عرب قُدامى، وفي خيالي أنهم من أهل تلك القرية التي وُلِد فيها أبي وأجدادي، وليس فيما قلته أيّ ابتعاد عن الواقع كما عشته بذهني وخيالي. من جهة ثانية، فإنّ أهمّ ما قدّمه لنا سورياليّو الغرب هو إعطاء الخيال الخلاّق وليس مجرّد الخيال الذي يوضع في خدمة التّصوير الواقعي، كما هو الحال في الاستعارات المتداولة – دوراً في تشكيل القصيدة، أكبر بكثير ممّا كان عليه في السّابق، وقد قال أندري بريتون: ‘ليس الخوف من الجنون هو الذي سيجعلنا نُنَكِّس راية الخيال’. في هذا الصّدد، أشير إلى أنّ الخيال الخلاَّق، الذي يمكنه أن يخرق قواعد المنطق و’الحِسّ السّليم’، كان سيُهاجم بعنف من قبل أغلب النُّقّاد وَمن يعتبرون أنفسهم ناطقين باسْم الضّمير الجَمْعي، لو تمّ الانتصار له من طرف شعراء عرب قدامى لهم مكانتهم، (ولنا عِبرة في الحرب النّقديّة الشّعواء التي كانَتْ قد شُنَّتْ على أبي تمّام، بسبب اعتماده ضرباً من الاستعارة بدا لعدد من معاصريه أنّه ليس ممّا عهدتْه العرب في كلامها، رغم أنّ استعارات أبي تمّام تبقى واقعيّة تماما من حيثُ المدلول، وقابلة لـ’التّرجمة’ العقليّة إلى كلام منطقي يفهمه العقل البسيط. لنتأمَّلْ، من جهة ثانية، ‘خبراً’ يُورِدُه الجاحظ في ‘البيان والتّبيين’، ومِمّا يذكره فيه قصيدةً أنْشَأها أبو نواس، منها هذه الأبيات: ‘

 

مَنَعَ النّومَ ادِّكاري زمناً                 ذا تهاويلَ وأشْياءَ نُكُرْ

واعتِراكُ الرُّومِ في معمعةٍ             ليسَ فيها لِجبانٍ مِنْ مَقَرّْ

كائِناتٌ ليسَ عنها مذهبٌ               خَطَّها يُوشَعُ في كُتْبِ الزُّبُرْ

وعلاماتٌ ستأتي قبله                   جَمَّةٌ أَوَّلُها سَكْرُ النَّهَرْ

 ويليهم رَجُلٌ مِنْ هاشِمٍ                 أَقْنَصُ النّاسُ جميعاً لِلْحُمُرْ…’.

 

إنّ في هذه الأبيات ميلا إلى اللعب الشِّعريّ وخرقاً للمنطق المألوف، ولو بصورة فيها بساطة كبيرة، ومع ذلك فأبو نواس إنّما أنشأها ليضعها على لسان شخص كان قد جنّ، كُنْيتُهُ أبو يس الحاسب، لأنّه لم يشأ أن يُحَمّل نفسه مسؤوليّة تلك الانزياحات عن مقتضيات ‘العقل’! ولكنّ الجاحظ أشار إلى أنّ هذه القصيدة، في خصائصها، كانتْ على مذهب ‘أشْعار ابنِ عَقْب الليثي’، ومن هنا يُمكننا أن نتصوّر أنّ هذا الأخير كان يكتب بطريقة تتمرّد على السّلطة المطلقة الممنوحة لٍكلٍّ من ‘العقل’ و’ الجِدّ’ – في معناهما العامّيّ -، وهما متآزران ومؤازَران من قبل الإيديولوجيّة الدّينيّة السّائدة. لم أتمكَّنْ من العثور على أيّ قصيدة لأبي عَقْب الليثيّ، ولكنّي أنطلق مِمّا سبق فأتصوّر أنّ تلك القصيدة الغائبة كانتْ، على طريقتها، تُجَسِّد ‘دادائيّةً’ ما! لا شكّ أنّ تصوُّراً من هذا القبيل يحتاج إلى أن يُدَعِّمه البحث المنهجي، ولكنّي، من جهتي، أستمدّ من خلال أمور من هذا القبيل فكرةَ كونِ المنحيين اللذين تحدَّثْتَ عنهما اعتماد قاموس يمتح في بعض الأحايين من التّراث، من جهة، واستثمار منجزات الحداثة الشّعريّة الغربية، من جهة ثانية لا يتعارضان ولا ينقض أحدهما الآخر… ولا بدّ من توضيحٍ هاهنا: فالألفاظ ‘المُعَتَّقة’ التي قد أستعملها لا تكون من المُمات، بل من العربيّة الحيّة في كتابات المعاصرين، فإذا حدث أن استعملتُ كلمة مماتة وهذا نادر جِدّاً جِدّاً فإنّ ذلك يكون مقصوداً، ولهدفٍ شِعْريّ، مثلما هو حال بعض الشُّعراء الآخرين حين يعمدون إلى ابتداع كلمات من عنديّاتهم، لم يُسْمَعْ بها من قبل… وفيما عدا هذا، فإنّي، شخصِيّاً، أكادُ أستنكر لجوء هذا الشّاعر أو ذاك إلى كثرة من الكلمات المماتة في صياغة قصائد لا أعتقد أنّ أحداً سيستطيعُ أن يقرأها دون عناء كبير، فليس مثلُ هذا الصّنيع إلاَّ تحذلُقاً وليست تلك التّعمية إلاَّ تغطيةً على خواءِ أكيد. وفي المُقابل، أستنكر حقّاً لجوء بعض ممارسي الكتابة الشّعريّة إلى ذريعة اعتماد اللغة المتداولة من أجل تبرير الفقر اللغويّ لنصوصهم، علما بأنّ الفقر اللغويّ هو، بالنّسبة للنّصوص الشّعريّة، داءٌ أشبه بالعَشَى الشَّديد، يجعلها كليلةً عن رؤية حقيقيّة لموضوعاتها…

 

  • انفتحت بقوة في ‘فراشة من هيدروجين’ الصادر عن دار النهضة العربية في بيروت على قصيدة تشتغل بقوة على ما هو ذهني ومعرفي بموازاة الاشتغال الإبداعي الدائم والدال على اللغة بوصفها إعادة اكتشاف للعالم واحتفاء مقصود بالوشائج الضرورية بين الشعر والدهشة. ويلوح لي من خلال قراءة نصوص هذا الديوان الأنيق أن القصيدة دعوة إلى التفكير والقراءة الفاعلة وليس الجاهزة كيف تصورك الجمالي لهذا الديوان، وهل ثمة مسافة تفصله عن التحققات النصية السابقة؟

 

أعتقد، فيما يخصّني، أنّ مجموعة ‘فراشة من هيدروجين’ تتميّز عن سابقاتها بارتباطٍ أوثق بشخص صاحبها وتجربته في الحياة وهواجسه وثقافته، وإن كان ما هو شخصِيّ فيها لا يظهر في قالبٍ واقعيّ صرف، بقدر ما هو ملفوفٌ في غلائل شعريّة. أعني أنّ هذه المجموعة تستبعد القصيدة التي تُشَكّل معطى موضوعيّا خالصاً، تُعْتمد في صياغته الأدواتُ الشِّعْريّة فحسب… ولا شكّ لديّ أنّ قارئ المجموعة مدعوّ إلى السَّفر فيما تقترحه عليه من عوالم، باعتماد شعوره الخاصّ وتجربته في الحالته وقدرته على التّخيّل وعلى استنفار لاشعوره… كما أنّ الاشتغال على ما هو ذهنيّ لا يُسيء إلى القصيدة إلاّ إذا أصبحتْ ذهنيّة تماماً، أي إذا انقلبتْ إلى نصِّ نظريّ.

 

  • أود أن أناقش معك تجربة ’’ رجل يبتسم للعصافير’’ الصادر عن دار الجمل وهو بالمناسبة آخر تحققاتك الشعرية. والحق انني لمست في هذا الديوان تطورا نوعيا في اشتغالك الشعري؛ بحكم الاستثمار الدال للتقليد السريالي علاوة على اختيارك الانفتاح على التعبير السردي. هل يمكننا الاقتراب من هذا العمل باعتباره تأريخا إبداعيا للذات، وهل يسعنا تفسير الانفتاح على السرد بما هو انفتاح مقصود على التهجين الأجناسي واطراح للتصور التقليدي للجنس الأدبي؟

 

لقدْ حدّدْتَ بِشكل ممتاز خصوصيّة ’’ رجل يبتسم للعصافير’’، بقولك إنّها ‘تأريخ شِعْريّ للذّات’، علماً بأنّ مفهوم الذّات هنا ليس هو الذي وُجِد عند الرّومانسيين الذين نظروا إلى كُلِّ ذات باعتبارها منعزلة في جزيرتها الخاصّة. الذّات لا تنفصل عن الآخرين، وهنا أُوَسِّعُ من دلالات قول رامبو: ‘الأنا شخص آخر’ … المجموعة تنقسم إلى قسمين، في الأول منهما تأريخ مُشَعْرَن للذّات التّعدّديّة من لحظة الهجرة نحو عالَم المدينة، وصوغٌ مُشَعْرنٌ للعديد من اللحظات الهامّة في تطوّرها… وفي القسم الثّاني، هنالك صَوْغٌ شِعْري لضَرْبٍ من ‘التّربيّة العاطفيّة’، أي لعلاقات عاطفيّة، لا يهمّ إن كانتْ قد تحقَّقَتْ أو بقيتْ في نطاق توقٍ عيشَ في مرحلة ما. وفي تلك الصّياغة، تمّ تكثيفُ تلك العلاقات في واحدة، أخْضِعَتْ في التّعبير الشّعري ل ’’ خيمياء الكَلِم’’، وتمّ استجلاؤها عبر مناظير الخيال ومراياه… وفيما يخصّ عنصر السَّرْد، فهو حاضر بقوّة في هذه المجموعة، نظراً لكونها تأريخاً، كما قلت أنت نفسك… أريد أن أضيف أنّ الاهتمام بالسّرد ليس طارئاً بالنّسبة إليّ، فقد سبق أن كتبت قصصا قصيرة، كما أنّ الرّواية تُغريني، بل إنّي أكتب الآن واحدةً، لكن ببطءِ، وقد أنتهي منها قريباً.

 

  • أنت بالإضافة إلى اختيارك التعبيري المتمثل في الشعر مترجم، وقد أسهمت في إغناء المكتبة العربية بترجمات أنيقة ومحكمة للشاعر والروائي المغربي الراحل محمد خير الدين والأديب الجزائري محمد ديب علاوة على تحققات نصية أخرى لاندري بروتون وروني شار وروبير ساباتيي وهنري ميشو وروبير ديسنوس. ولأن الترجمة فعل استضافة كما يقول رواد التراث الهرمنوتيقي التأويلي، فإنني أسمح لنفسي بأن أتساءل معك عن المعايير التي وجهت اختياراتك، وهل ثمة من نقاط اتصال وانفصال مع تجربتك الإبداعية الخاصة؟ نلاحظ في هذا الصدد أن جزءا كبيرا من هاته التحققات المترجمة تنتمي إلى التقليد السريالي بطريقة أو بأخرى؟

 

فيما يخصّ اختياراتي في مجال التّرجمة، أعتقد أنّ ما يتحكّم فيها، في الغالب الأعمّ، هو مدى إعجابي بنصٍّ ما. في هذا السّياق، يحدثُ أن تقرأ لشاعر أجنبيّ، فتشعر بقرابة روحيّة وشخصيّة وشعريّة معه إلى الحدّ الذي يجعلك تتمنّى أن تترجم بعضاً من قصائده، ويبقى الانتقال إلى الإنجاز، وقتها، رهيناً ببعض العوامل الموضوعيّة. في أحيان أخرى، قد تقرأ لشاعر لا يجمع بينك وبينه الكثير، على مستوى الرّؤى الجماليّة وسواها، لكنّك تدرك أنّه مبدع فعليّ بحسب النّظرة التي لديه هو عن الإبداع، فإذا شعرتَ بأنّه يكون إيجابيا أن يطّلع قُرّاء العربِيّة على بعضِ من نصوصه، فإنّك قد تبادر إلى ترجمتها، إذا أسعفتك ظروفك… وفي مرّات قليلة، يحدثُ أن تقترح ترجمة كتاب على جهة ما، يبدو لك أنّها ستتكفّل باشتراء ‘حقوق’ الكتاب الذي تُزمع ترجمته من ناشره الأصليّ وتمويل التّرجمة، فتقترح عليك تلك الجهة كتاباً آخر قد لا يكون في مستوى الأوّل، فإذا كانَ الكتاب المُقْتَرح يدخل أيضاً في نطاق ماهو جيّد، حتّى مع وجود الفارق، فقد تقبل أنْ تترجمه، مؤسِّياً نفسك بقولة شهيرة: ‘أردتُ عمروا وأراد الله خارجة’…

 

  • ابتهجت حقيقة بصدور ترجمتك الأنيقة لرائعة ‘نادجا’ للشاعر أندري بروتون. خيل إلي وأنا أقرأها أنني أكتشف نصا جديدا مكتوبا بالعربية. لماذا اختيارك لهذا النص الروائي السير ذاتي المكتوب من لدن أبرز رموز التقليدالشعري السريالي؟ هل للمسألة ارتباط باختيارك الشخصي المتحقق أساسا في ‘رجل يبتسم للعصافير’ والذي زاوجت فيه كما ذكرنا بين الشعر والسرد؟

 

إنّ ’’نادجا’’ من الكتب التي لها مكانة عالية في نفسي، حدّ أنّي، قبل سنوات، قُمتُ بزيارة أماكن مُعَينة في باريس، لا لشيء سوى لكونها شكّلت مسرحاً لهذا الحدث أو ذاك من الأحداث المذكورة في ‘نادجا’. أودّ أن أقول، أيضاً، إنّي كنتُ قد اتّفقتُ مع صاحب ‘منشورات الجمل’، الذي هو الشّاعر العراقي خالد المعالي، في بدايات الألفيّة الثّالثة، على أن أتولّى ترجمة ‘نادجا’، ثُمّ دخل مشروعنا في سباتٍ لسنوات، إلى أن عملنا على ‘إيقاظِه’ قبل نحو سنتين ونصف السّنة… والكتاب هامّ ومثير على أكثر من صعيد، وإعجابي به يعود إلى بدايات الشّباب.

 

  • تنتمي تجربتك فيما يهم الاختيار الجمالي إلى قصيدة النثر. بيد أننا نلمس مسافة هائلة تفصل تحققاتك النصية عن التراكم السائد في هذا الخصوص والذي تغلب عليه الرداءة والسطحية والاستسهال. كيف تقيم باعتبارك قارئا في المقام الأول والأخير التراكم المتحقق في هذا الخصوص؟ وهل يمكننا القول إنك اجترحت لنفسك رؤيا متفردة لاشتغال قصيدة النثر؟


 تقييمي للتّراكم المتحقّق في نطاق ما يُنْعَت بقصيدة النّثر هو مماثل لتقييمك له، أي أنّ النّصوص الرّديئة ليست بالقليلة في هذا المضمار، والنّصوص الحيّدة والجميلة هي، أيضاً، موجودة. أنا أقرأ الصّنف الأخير، وأُبْعِد عن مجال اهتمامي ما يبدو لي رديئاً… أمّا أن أحاول أن أجترح لنفسي رؤيا متفرّدة لقصيدة النّثر، فالأكيد هو أنّني أحاول أن أكتب قصيدة شخصِيّة، ولا شكّ أنّ ممارستي تستند إلى رؤية ذاتية كامنة، ولا شكّ أنّها رؤية تتطوّر مع الزّمن… فيما يَخُصُّ استكشاف هذه الرّؤية وتحوّلاتها، من زاوية نظريّة، وإنْ يَكُنْ وارداً أنْ أدلي فيه بدلوي مستقبلا، فإنّي أٌفَضّل أن أترك أمر الاضطلاع به للنّقّاد… أعني النّقّاد المقتدرين، الذي هم بالطّبع موجودون، وإنْ يكونوا، بالمقارنة مع من يمارسون ‘نقداً’ يتّسم بـ’السّطحيّة والاستسهال’، أقلّيةً، فهم يُشكّلون ما يُمكن أن ننعتهُ بـ’الأقلّية الهائلة’، في مجالهم الخاصّ.

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات