الانتحار ومسؤولية الدولة
عبد الإله شفيشو/فاس
الروح هي أغلى وأثمن ما يملكه الإنسان وهي وديعة الله لديه التي لا يسمح لكائن من كان -حتى صاحبها- أن ينزعها إلا بحقها وقد فطر اللهُ الإنسان على المحافظة على روحه بشتى السبل والدفاع عنها مهما كلفه الأمر ماديا ومعنويا، ف: لماذا يُقدم الإنسان على الانتحار؟،لماذا يُسارع بعضنا إلى تكفير المنتحر بينما يذهب آخرون إلى التماس الأعذار له؟،من المسؤول عن وقوع جريمة الانتحار؟،
هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات شافية ولا يليق بمسلم عاقل أن يجيب عنها بفتاوى تكفير المنتحر لردع من يفكر في الانتحار وكأن التفكير في الانتحار مسألة اختيارية يمكن للإنسان أن يستدعيها أو يصرفها وقتما شاء، إن هذه الفتاوى للأسف لا تتعرض للجناة والمسؤولين الحقيقيين بل تتيح لهم الهروب من المساءلة الأخلاقية والاجتماعية وليس القانونية فحسب.
ناقوس خطر:
مازال إقليم الشاون يشهد بين الفينة والأخرى تكرار حوادث الانتحار ويبدو أن عدد ضحايا الانتحار تجاوز ضحايا كورونا، ووفق البيانات الإحصائية حسب الجهات التي رصدتها الدراسة فإن شمال المغرب عرف أكثر عدد حالات انتحار وبالضبط إقليم الشاون، وفيما يخص فئات المنتحرين ووفق الأرقام التي رصدتها الدراسة فإن عدد الذكور تجاوز ثلاث أضعاف الإناث كما وكشفت المعطيات الإحصائية أن أكثر الوسائل المستعملة في الانتحار هي الشنق بنسبة تتجاوز الثلث من العدد الإجمالي وتليها تناول مواد سامة مثل سم الفئران أو مبيد الحشرات ثم وسائل أخرى.
لو صعدنا بالموضوع إلى إطاره الفكري نرى أن المجتمع الشفشاوني خاصة على المستوى الاجتماعي لم يكن بعيدا عن المتغيرات الأمر الذي أثر بالسلب على منظومة القيم التي تحكم مجتمعنا وتنظم علاقة أفراده بعضهم ببعض مما أدى إلى خلخلة هذه المنظومة وإحلال منظومة قيم أخرى مكانها غذت الدوافع التي تقف وراء تزايد حالات الانتِحار، ومما يشهد على مدى التغيير الذي أصاب مجتمعنا زيادة نسبة الطلاق والتفكك الأسري كما تمكنت ثقافة الاستهلاك على جعل الأسر الشفشاونية تتنافس وتتباهى بالكماليات بما يشكل عبئا على رب الأسرة، كما برزت على السطح في الآونة الأخيرة في مجتمعنا مفهوم الطبقية بشكل صارخ والتي قلصت من حجم الطبقة الوسطى التي كانت عماد المجتمع وعموده الفقري وقاعدته الصلبة، إضافة إلى ذلك انتشرت الفردانية ومحاولة تحويل حياة المواطن إلى أشياء مادية بعد نزع الصفة الإنسانية عنها فلم يجد ذلك المواطن الذي تكالبت عليه الهموم بُدا من التضحية بما تبقى لديه من روح بعد عجزه عن تلبية الحد الأدنى من حقوق جسده، على هذا الأساس فإن ارتفاع عدد المنتحرين بإقليم شفشاون هو مرتبط بنسق اجتماعي محدد حيث تحضر في منطقة جبالة بقوة وتغيب نسبيا في منطقة الريف كما تحضر بقوة أكبر في القرى أكثر من المدن وذلك مرتبط أساسا بالتغيرات الاقتصادية وهذا ما مس المنطقة نتيجة تراجع زراعة القنب الهندي والاتجار في مخدر الكيف الذي اشتهرت به المنطقة وأيضا في غياب بدائل تنموية حقيقية مما كان أثره على المستوى الاجتماعي والنفسي للأفراد.
مسؤولية الدولة:
إن الدولة وفقا لاتفاقيات حقوق الإنسان مسؤولة عن حماية الحق في الحياة ما يعني أنه على الدولة أن توفر الحماية للحق في الحياة بما في ذلك حماية الشخص الذي أنهى حياته بنفسه، غير أن الدولة المغربية تنظر للانتحار على أنه مسؤولية الفرد رغم أنه ظاهرة اجتماعية تحضر فيها مسؤولية الدولة التي عليها البحث عن حلول لمسبباتها ما دامت أن الصحة النفسية من مسؤوليتها أيضا، إلا أن الصحة النفسية والعقلية للمغاربة توجد في أسفل سلم أولويات الدولة المغربية وهو الأمر الذي تهتم له دول العالم الذي يوجد الإنسان في صلب اهتماماتها خصوصا مع التغيرات الأخيرة والضغوط التي تعرفها المجتمعات ، وفي هذا الصدد ينبغي الانتِباه إلى نقطتين أساسيتين:
أولا: إن أي ظاهرة الانتحار التي يشهدها مجتمعا هي نتيجة لحزمة من المتغيرات المتراكمة والأسباب المتنوعة والمتداخلة وما ظاهرة الانتحار في المجتمع الشفشاوني إلا عنوان لمجمل هذه المتغيرات بينما في تفاصيل الموضوع يتشابك العامل الاقتصادي مع الاجتماعي مع السياسي مع قلة الوعي وانعدام الإيمان وضعف الإرادة ولذا فالعلاج الصحيح يقتضي النظر إلى الأسباب مجتمعة وإن تفاوتت نسبة حضور بعض هذه الأسباب.
ثانيا: إن مسؤولية المنتحِر المباشرة عن فعله لا تنفي تحمل الدولة لجزء من هذه المسؤولية وإن اختلفنا في تقدير حجم مسؤولية كل من الفرد والدولة ومن ثم يجب ألا ننشغل كلية بالمشهد حادث الانتحار ونغفل عن الجذور الكامنة وراءه والخلفيات المؤثرة فيه التي قد تحتل مساحة ربما أكثر من لحظة خروج الروح أو بالأدق إخراجها.
الانتحار جريمة قتل مكتملة الأركان ومن ثم فإنه من غير المعقول أن تقيد ضد الشخص المنتحر أو ضد مجهول بينما المشتبه بهم في ارتكابها أحياء بيننا يرزقون ويمكن الاستدلال عليهم بكل سهولة فالأهم هو توفر الإرادة والاعتراف بالمسؤولية، فالدولة المغربية وأجهزتها التنفيذية هم أول الشركاء في جريمة الانتحار لأنهم لم يقوموا بأداء واجباتهم المنوطة بهم والمتعارف عليها شرعا وعقلا وسياسيا وفي مقدمتها صيانة حياة المواطن وعرضه وماله وأمنه الشخصي أما باقي المشتبه بهم فهي أسرة المنتحر/ة وأصدقائه/ها و ربما نجد مشتبها بهم آخرين مثل أستاذ المنتحر/ة في المدرسة أو الجامعة أو رئيسه/ها في العمل أو أو أو … ،صحيح أن حالات الانتحار في مجتمع الشفشاوني لم تبلغ بعد حد الظاهرة بالمفهوم العلمي لكنها على كل حال ترقى إلى مستوى أن تكون ناقوس خطر ونذير شؤم خاصة أن الأسباب التي أدت إلى تلك الحوادث ما زالت قائمة بل ومرشحة للاستمرار والصعود في ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية وما يترتب عليها من مشكلات اجتماعية لا حصر لها.