الباراديم السياسي المغربي:
حين تتماهى الدولة مع الحاكم، والدستور مع المخزن
(الجزء 2)
بقلم: عبد المولى المروري
كنا قد وقفنا في الجزء الأول عند تركيبة الباراديم وازدواجيته، والتناقضات التي يتغذى بها على أربع مستويات:
1• فهو ملكي ديني تقليدي في الجوهر؛
2• وديمقراطي دستوري تمثيلي في الشكل؛
3• وسلطوي أمني تحكّمي في الممارسة؛
4• وحداثي تنموي دعائي في الخطاب؛
في الجزء الثاني سنتحدث عن:
1• فهو ملكي ديني تقليدي في الجوهر؛
كيف نفهم البنية التقليدية الدينية للبارادايم المغربي؟
داخل البارادايم السياسي المغربي، تتمركز الملكية كسلطة دينية وسياسية جامعة، تتجاوز منطق الدولة الحديثة القائم على الفصل بين السلطات، وتستند إلى مفهوم “الإمامة العظمى” في الفقه التقليدي، حيث الملك هو أمير المؤمنين، وقائد الدولة، وراعي الأمن الروحي والمادي للأمة.
هذه الازدواجية في المرجعية (الدينية والسياسية) تمنح الملك قدرة فريدة على تحييد المؤسسات، وتجاوز قواعد اللعبة الدستورية، وتبرير قرارات مصيرية باسم الدين أو “المصلحة العليا”، دون حاجة إلى وساطة تشريعية أو رقابة ديمقراطية.
فرغم أن الدولة تتبنّى خطابًا ديمقراطيًا، ولديها مؤسسات دستورية (برلمان، انتخابات، أحزاب…)، فإن هذه المؤسسات تعمل ضمن حدود مرسومة مسبقًا، وتفتقر للسلطة الفعلية. فالسلطة السياسية في قبضة واحدة، حيث تتجلى مركزية القرار بين الدستور والممارسة تحت الصفة الدينية لأمير المؤمنين.
وكأمثلة دالة على هذه الازدواجية من التاريخ السياسي المغربي يمكن الإشارة إلى:
أ. تمديد ولاية البرلمان سنة 1981 – عهد الحسن الثاني،
ففي خضم التوترات السياسية بين القصر والمعارضة، خاصة حزب الاتحاد الاشتراكي، قرر الحسن الثاني تمديد ولاية البرلمان لعدة أشهر بدل إجراء الانتخابات في وقتها. وأمام رفض الاتحاد الاشتراكي لهذا القرا، أشهر الحسن الثاني حينها صفة “أمير المؤمنين” لتبرير قراره، قائلًا إنه مسؤول أمام الله عن أمن البلاد واستقرارها، وليس فقط أمام المؤسسات..
فمن الناحية السياسية لم يكن هذا القرار مجرد تجاوز دستوري، بل إعادة تأكيد لهيمنة المرجعية التقليدية على منطق التداول الديمقراطي. لقد استخدم الحسن الثاني صفة “أمير المؤمنين” لتكميم مطالب الأحزاب، وتحويل النقاش من السياسي إلى “الشرعي”، وبالتالي إخراج القرار من ساحة التفاوض الواسعة إلى دائرة الطاعة الضيقة.
ب. إلغاء عيد الأضحى في عهد الملكين؛
لطالما شكّلت شعيرة عيد الأضحى في المغرب لحظة دينية ذات رمزية كبرى في الوعي الجماعي، لما تحمله من معاني القربان والطاعة والتكافل الاجتماعي. غير أن هذه الشعيرة لم تكن دائمًا محل إجماع شعبي وديني فقط، بل خضعت أحيانًا لحسابات سياسية واقتصادية قرر على إثرها الملك، بصفته أمير المؤمنين، إلغاء ذبح الأضحية خلال عدد من السنوات، وهي: 1963، 1981، 1996، و2025. وقد تم تبرير هذه القرارات بكونها استجابة استثنائية لظروف الجفاف أو الأزمات الاقتصادية التي أثّرت على الأمن الفلاحي والثروة الحيوانية.
والمثير أن هذه القرارات اتُّخذت بشكل مركزي من طرف المؤسسة الملكية، ولم تكن نتيجة فتوى شرعية أو توصية من العلماء، بل جاءت الفتوى لاحقًا لتُلبّس القرار السياسي ثوب المصلحة الشرعية، في صورة واضحة على اندماج القرار الديني في القرار السياسي تحت مظلة “إمارة المؤمنين”.
هذه المعطيات تعكس عمق البارادايم الديني/السياسي المغربي، حيث يُختزل الدين في مؤسسة إمارة المؤمنين، ويُدار تدبير الشعائر ضمن منطق الدولة المركزية، لا في إطار الفقه الجماعي ولا اعتبار لإرادة المجتمع. فتتحول بذلك الشعيرة الدينية من فعل تعبّدي جماعي ومستقل، إلى قرار سيادي يخضع لمعايير “المصلحة العليا للدولة”، وهو ما يُسائل العلاقة بين المقدس/الديني والسلطة السياسية في النظام المغربي.
يتجلى هنا تداخل السلطة الدينية مع السيادة السياسية، فالقرار الديني لم يصدر عن مؤسسة علمية مستقلة، بل جاء من رأس الدولة، مما يكرّس غياب التمايز بين الشأن الديني والشأن السياسي، ويجعل الشعائر مجالًا للقرار السياسي السيادي بعيدا عن قواعد الشورى التي تقيد وتؤطر ممارسة الحاكم بالمفهوم الشرعي.
ج. القرارات الفقهية الحساسة: الإجهاض ومدونة الأسرة
كل مشاريع مراجعة مدونة الأسرة وما يتعلق بها تخضع لتقدير مباشر من القصر، ويُعلن عنها في خطب ملكية في إطار رؤية وضوابط وحدود يضعها الملك، قبل أن تُناقش داخل البرلمان أو في إطار النقاش العمومي بين مختلف الفرقاء السياسيين ومكونات المجتمع المدني.
ويمكن تحليل ذلك من الناحية السياسية في كون كل النقاشات ذات الطابع الفقهي/الاجتماعي لا تتم من داخل المؤسسات المختصة، بل تنطلق من خطاب ملكي الذي من خلاله يأمر بفتح النقاش، مما يعني أن السلطة الدينية والسياسية موحدة في شخص الملك، وأن ما يُناقش لاحقًا إنما يتحرك داخل حدود رسمها البارادايم الديني/السلطوي.
د. توقيع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل – 2020
بعد إعلان المغرب استئناف العلاقات مع الكيان الصهيوني، لم يُصدر العلماء الرسميون أي موقف معارض، بل أصدر المجلس العلمي الأعلى بيانات ملتبسة، واعتُبر القرار شأنًا سياديًا من اختصاص أمير المؤمنين، واستُخدم البارادايم الديني هنا لإسكات أي معارضة دينية أو أخلاقية للتطبيع، وجُرّدت الفتوى من وظيفتها النقدية، مما يعكس كيف يتم تطويع المجال الديني لخدمة القرار السياسي عبر سلطة إمارة المؤمنين.
أمام هذه الأمثلة المشار إليها أعلاه، يمكن استنتاج أن الملكية في المغرب بغطائها الديني ليست مجرد مؤسسة فوق سياسية، بل هي أفق مرجعي شامل، حيث من خلالها يتمّ تجاوز النقاش المؤسساتي بالدخول إلى المجال المحرّم للنقاش، وهي الشرعية الدينية. وبذلك تُصبح صفة أمير المؤمنين أداة بارادايمية تُستخدم لتمرير قرارات استراتيجية دون مساءلة شعبية أو مؤسساتية، ليجد المواطن، والنخب، والهيئات… أنفسهم مقيدين نفسيًا ورمزيًا، لأن معارضة القرار تُفهم على أنها منازعة للشرعية الدينية وليس فقط للاختيارات السياسية.
إن الصفة الدينية التي يحملها الملك المغربي ليست مجرد امتداد تاريخي للدولة، بل هي آلية وظيفية داخل البارادايم السياسي، يتم توظيفها في لحظات الحسم لتأكيد مركزية القرار الملكي فوق كل سلطات الدولة الحديثة. وفي ظل هذا البارادايم، تغدو المطالبة بالفصل بين السلطات، أو استقلال المؤسسات، أو مساءلة القرار السياسي، مطالب من خارج المنظومة لا من داخلها، كما أنها تعتبر مصادمة مع تقاليد الدولة وأعرافها التاريخية، مما يجعل الديمقراطية – رغم حضورها الشكلي – عاجزة عن ملامسة العمق السيادي الفعلي للنظام.
وهنا نصل الى الأسئلة المركزية؛ كيف يؤثر البارادايم الديني على فكر الفرد وسلوكه وكيف يشكل وعيًا جماعيًا، الجواب عن هذا السؤال يستلزم تفكيكًا على ثلاث مستويات: معرفي (ذهني)، رمزي (فني/وجداني)، وسلوكي (عملي) من خلال التحليل المنهجي على هذه المستويات:
أولًا: البُعد المعرفي (الذهني)
- من خلال احتكار التأويل الديني:
- يتم فرض تأويل معين للدين يخدم النظام القائم (مثلاً تأويل “طاعة ولي الأمر” بشكل مطلق).
- يُستبعد التأصيل الفقهي والتأويل المقاصدي أو النقدي الذي يمكن أن يطرح أسئلة عن شرعية السلطة وبعض ممارساتها.
والنتيجة هنا أن يُعاد تشكيل الفكر الفردي ليؤمن بأن معارضة أو انتقاد الحاكم يعتبر ظلمًا وخروجا عن الدين.
- من خلال ربط الطاعة السياسية بالنجاة الأخروية:
- حيث يُغرس في ذهن الفرد أن الولاء للحاكم هو جزء من الإيمان، أما العصيان فهو فتنة وكفر إستنادا إلى الحديث : «الفِتنةُ نائمةٌ لعنَ اللَّهُ مَن أيقظَها» وهو حديث ضعيف.
- وفي هذه الحالة تتحول الطاعة من موقف مدني إلى واجب تعبدي.
- من خلال تكرار رموز ونصوص معينة في الإعلام والتعليم والخطب:
- وهذا يُغذى الوعي بنصوص مثل “اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك…” دون السياق الفقهي أو التاريخي.
- كما يتم تغييب السيرة النبوية كمصدر لفهم مواقف وسياقات معينة.
ثانيًا: البُعد الرمزي (الفني/الوجداني)
كيف يُبنى وعي جماعي باستخدام الدين كرمز؟
- على هذا المستوى يتم توظيف الرموز الدينية في المشهد السياسي:
- مثل ارتداء الملك أو المسؤولين لجلباب ديني أو استعمال صفة أمير المؤمنين.
- وافتتاح المناسبات الدستورية بتلاوة القرآن والبسملة والدعاء للملك، مما يعطي طابعًا مقدسًا للسلطة.
- استعمال الطقوس لتكريس الهيبة الروحية للسلطة:
- في هذه الحالة تُقدم البيعة كطقس ديني لا كعقد سياسي، وتُصاغ بلغة شرعية تقليدية.
- كما يُصور الحاكم كظل الله في الأرض.
- زرع الشعور بالحرام والخوف بمفهومه الديني من المعارضة:
- وتعني المعارضة = تمرد = فتنة = غضب الله.
- لتكون النتيجة، وعي وجداني جماعي يميل إلى الانقياد الطوعي المؤطر بمرجعية دينية، ويتجنب المواجهة.
ثالثًا: البُعد السلوكي (العملي)
كيف يُترجم البارادايم الديني إلى سلوك جماعي؟
- الخنوع السياسي:
- يتجلى ذلك عندما يرفض الفرد المشاركة أو المطالبة بحقوقه لأن ذلك “لا يجوز شرعًا”.
- وفي السلوك العام الذي يصبح ميّالًا إلى التبرير لا إلى لتغيير.
- الاصطفاف العاطفي مع الحاكم باسم الدين:
- ففي الأزمات، تجد الجماهير تدافع عن بعض القرارات السياسية باسم البيعة والطاعة.
- الأمر الذي يؤدي إلا إعادة إنتاج الاستبداد من طرف الشعب نفسه بدافع الإيمان وليس بالضرورة بدافع الخوف فقط.
- انقسام المجتمع على أساس الولاء الديني السياسي:
- حيث يصبح من ينتقد الحاكم أو يعارض بعض قراراته متهما بالخروج عن الجماعة (موضوع التطبيع وعلاقته بملف الصحراء المغربية).
- ويتشكل رأي عام أخلاقي/ديني يُدين كل صوت نقدي حتى ولو كان مصلحًا وانطلق من خلفية وطنية صادقة.
وكخلاصة عامة في هذا المحور:
البَارادايم الديني يعمل كمنظومة ذهنية وجدانية وسلوكية معًا، يَستخدم الدين لا كعقيدة روحية فردية، ولا كنظام اجتماعي، بل كأداة لإنتاج الطاعة الجماعية وضبط الوعي العام، ويتم ذلك عبر:
- تشويه المفاهيم الأصلية (مثل الشورى، الجهاد، النصيحة، الأمة).
- تقديم طاعة الحاكم كأولوية على العدالة والحرية (وهذا التوجه يؤمن به بعض زعماء الأحزاب، خاصة من التوجه الإسلامي).
- وأخيرا، بناء خطاب ديني يعيد تشكيل المعنى الأخلاقي للولاء والخيانة.
ولا أدل على ذلك من استشهاد وزير الأوقاف الأسبق عبد الكبير العلوي المدغري بحديث «السلطان ظل الله في الأرض»، في سياق تبرير المكانة الدينية للملك، رغم ضعف الحديث سندًا ومضمونًا. إننا أمام حالة نموذجية من إعادة توظيف التراث الديني لتكريس الاستبداد السياسي، حيث يلتقي البارادايم الديني مع البارادايم السلطوي، في تحالف يهدف إلى تشكيل وعي جماعي خاضع، لا يقبل الاعتراض، لأنه يعتقد أن الخروج على الحاكم هو خروج على الدين.
(يتبع)