من أرشيف ذكريات الاستاذ فؤاد الجعيدي.
انجاز ذ. علال بنور /المغرب
أعود إلى ربع الذاكرة..في المطار البعيد لمدينة صوفيا التي لم تعد صوفيا التي عرفتها.. تحط الطائرات تطير الطائرات وطوابير المسافرين بحقائبهم يأتون ويرحلون يعبرون الجسور تحت الأضواء..ما أجمل أن يكون الإنسان يبتسم للآخرين من يعرفهم من يراهم لأول مرة كما لو جن بفرحه ويود أن يتقاسم هذه اللحظات مع جميع الناس..
تخرج مجموعة الرفاق من التراب الدولي إلى التراب البلغاري وصوفيا تفتح أبواب صدرها لنا بعد إجراءات خفيفة لتأكد رجال الجمارك من هوياتنا ..لم تكن المطارات تفتش الناس بشك وريبة ولم تكن الطائرات تعطل رحلاتها لخبر كاذب يصير مادة إعلامية لكل أبواق الدنيا..عاد الخوف صناعة لم نعهدها من قبل..صار أمن الناس ،سلامتهم تستحضر البنادق و الرشاشات والزي العسكري في مطارات الدنيا..
صوفيا في ظهيرة ذاك اليوم تشبه لوحة تشكيلة من الفن الرفيع الراقي بظلال الضوء.
السيدة غانكا تستقبل عبد السلام بورقية كان الشيخ منتصبا في قامته وجلاله مثل كل زعماء المرحلة يرتدي ثيابا داكنة ويتحدث برزانة شديدة حتى في بسطه يبعث برسائل تستحضر مقامها ومكانة الحزب الذي يمثله
السيدة غانكا لم تفارقنا منذ تلك اللحظة كانت كظلنا وتدون باقي التفاصيل..
لما أدركت السيدة غانكا أني أتحدث باللغة الروسية صارت تقترب مني أكثر وتغريني بالبقاء هنا لمتابعة دراستي العليا في قسم الدراسات الاستشراقية قسم الأدب العربي قالت لي سيكون لك بيت وسيارة قلت وامرأة جميلة قالت وامرأة جميلة سأنتقيها لك من بين حسناوات بلاد البلغار حين رفضت العرض وقلت لها لي أم تنتظر عودتي غضبت ولم تكلمني بعدها في الموضوع.
لم يكن الوقت ملائما لأن أخبرها أني ذات يوم كنت أجلس في إحدى مقاهي بلياييفا بضواحي الساحة الحمراء بموسكو فجلس شيخ يحتمي خلف نظارتيه الطبيتين لما طلبت منه عود ثقاب أبى فقلت لصديقتي التي كانت ترافقني باللهجة المغربية انظري لهذا الملعون كيف يستفزني بهذ ه العيون الغارقة خلف تجاعيد وجهه..
فنطق الرجل طب قلي يا بني أأنت عربي؟فزعت وقلت لماذا طلبت منك عود ثقاب فأبيت قال لي ظننت أنك من أمريكا اللاتينية .سألني عن جنسيتي وعن سبب وجودي بموسكو قلت طالب أدب بكلية محمد الخامس وجئت معهد بوشكين للدراسات اللغوية قال لي هل تعرف محمد برادة قلت أستاذي في الرواية ضحك وفرح وطلب شرابا كان الرجل طعَّمت غائب فرمان الروائي العراقي الذي فر من نظام صدام منذ 25 سنة جاء أقام بموسكو ومات فيها قال لي بغداد نخيل بغداد أهلها الطيبون البسطاء لا يستحقون العيش في قبضة رجل فاشي يعشق اللهو بذبح الناس وتعليقهم من رقابهم كالفراخ..
تسللت خلف الحافلة التي تنقلنا في جولة لضواحي صوفيا وهمست لهذه الفتاة بفتنة جسدها ابتسمت ولم تتمنع ومن خلفي ظهرت غانكا وهربت الفتاة وظلت السيدة التي تراقبنا تؤنبني كما أنبت الفتاة التي لم أعد أتذكر ملامح وجهها قلت بجنون إن العلاقة الأكثر طبيعية هي علاقة الرجل بالمرأة في هذا الكون هن لباس لنا ونحن لباس لهن هكذا علمتني النظريات التي دعمت رؤيتي للكون وأنا أشتغل لامتلاك نسقي الفكري للتفاعل مع هذا العالم ومحيطه..
كنت في كازابلانكا أقصد رواق الكتاب أكبر المكتبات في الحي الأروبي وعلى الرصيف الملتصق بالمكتبة كانت منشورات موسكو لدار التقدم تباع بأثمنة تكاد لتكون رمزية أصل الدولة و الملكية والعائلة مؤلفات لنين وروزا لوكسمبورغ وأنطوان غرامشي وكارل ماركس..تلك المكتبة كانت تساعد وتساهم في المعركة الأيديولوجية التي يعرفها المجتمع المغربي كانت أداة للتثقيف العمالي وتلمس الطريق لمعرفة الاقتصاد السياسي ..كانت متعتنا البحث عن الكتب والمؤلفات عن ديوان (في مدار الشمس رغم النفي) للشاعر ادريس الملياني الذي كان خجولا في تدريس أبناء درب السلطان ودرب غلف تحمر وجنتاه يمسك بناصية شعره ويصرف فيها عنفه حين لا نفهم رمزية قصة الحذاء الجديد لبعلو كان عنيفا مع ذاته حنونا علينا ويخاطبنا بإخوتي ويجالس بعضنا بتحمل مصاريف جلستنا على مقهى بالمعاريف ليعلمنا كيف يرتبط الإبداع الشعري والقصصي بهموم الناس ومضينا في رحلة البحث عن أدب السجون عن زريقة و اللعبي..كانت تجمعنا حديقة مردوخ نتعلم فيها الحب والعيش المشترك من كل أحياء درب السلطان ..
لم نكن نعرف الباعة المتجولون بالبخور الشرقي ورائحة المسك وكتب عذاب القبر..كنا مقبلين على الحياة بكل عفوية نهتز للأناشيد التي تمجد الوطن بلادي بلادي أنت حبي وفؤادي الأغاني التي تطرب النفوس وتبني شهامتها..
زنقة بومدين الغوتي كانت فيها العائلات ترتبط بالحزب الذي يفتح أبوابه في كل محطات النهار ويدفع بأبنائهم وبناتهم للانخراط في الطلائع و الشبيبة يعمل على تربيتهم و يصنع منهم رجالا ونساء لمعارك الوطن..كان هذا الزقاق يمد جسرا مع جريدة البيان بإنتاج أول صفحة على الصعيد الوطني وكانت صفحة قاسية بحجم همومها تقلق السلطات وكان لنا رفيق يقاوم إصدارها بحجة أن ممثل السلطة العمومية بالمنطقة قال له ألا يوجد بالمغرب مشاكل إلا هنا بالذات،استمر يقاوم هذا الإصدار المنتظم بحجة أن المقالات يستوجب أن تعرض على التنظيم المركزي للحزب لتحظى بالقبول.حين نقل الخبر للرفيق علي يعته رد للمعني بأمر الاعتراض جواز سفره ولم يذهب لتمثيل الحزب بستوكهولم..وبعدها جاء الرفيق شمعون لمقر بومدين الغوتي لإلقاء محاضرة عن طرق النضال في سياق تمهيد الطريق للثورة الوطنية الديمقراطية وحضر المعترض على الاهتمام و الارتباط بهموم ومآسي ساكنة البيوت الواطئة المعترض على أن هذا الواقع قابل لأن يكون مادة إعلامية ويومية للدفاع عن البشر..كان شمعون رجلا بيداغوجيا متمكنا من طرق تبليغ الرسائل وحسن تصريفها لتكون خلاصات تجربة تعلمنا عدم التنازل عن القناعات و المساومة بها..كان اللقاء يضم مجموعة غير متجانسة من الرفاق طلبة وعمال وعاطلين وبطبيعة الحال الأستاذ الاقتصادي الفذ الذي يعترض.لم يتوفق في الإجابة عن تعريف معنى الاستغلال كما جاء على لسان رفيق عامل يعيش تفاصيله اليومية في علاقات العمل..ومن هذا المدخل حدثنا شمعون عن تجربة العمل الجماعي بأنفا والتي ضمت في ذلك الوقت نخبة من رجال التقدم و الاشراكية و الاتحاد الاشتراكي والتي لم يرتح النظام لمبادراتها وقوة إشعاعها في خدمة المواطنين فقاد رجالاتها إلى السجن انتقاما من هذا الانفلات وقدرته على التعاطي بشكل جديد مع قضايا تدبير الشأن المحلي..ظل الرجل الاقتصادي غارقا في نزواته البرجوازية الصغيرة وأدرك أن لا سبيل له سوى الانخراط في هذا التوجه الذي لا ترضى قيادة الحزب بديلا عنه..تأكدت هذه الحقيقة لرفيقنا الاقتصادي يوم قصد علي يعته للتوسط له للعودة إلى عمله الموقوف عنه وعاد بخفي أم حنين حين تلقى قولا من فم الزعيم يفيد أن ضريبة النضال هي هذا الوضع الذي يعيشه..
ضننت أن الرجل الاقتصادي يعيش مثل ضائقتي فبحث له عن عمل بالمدرسة الخصوصية التي كنت أشتغل ساعتها بها فلما علم بالأجر ضحك من غباوتي وفيما بعد أدركت أن الرفيق يشتغل متعاونا مع جريدة لوماتان الصحراء ويتقاضى أجرا سمينا مقابل بضعة سطور في الأسبوع وباسم مستعار..يعترض على ذهاب الرفاق المناضلون بالفرع لمتابعة دراساتهم العليا بموسكو لكن إخوته كانوا يحضون بالمنح وكانوا يحضرون معنا كضيوف في الأنشطة التي نتعب في الإعداد لها و العمل على إنجاحها بسينما الكواكب بشارع الفداء كان يقول لنا أن صاحب القاعة يقدمه للناس على أنه دكتور يعني طبيب في الاقتصاد.كان ينفخ الريح فينا لننام نومة أهل الكهف ..صار وزيرا من دون علم حزبه وقاد معارك دون الرجوع لتنظيمات الحزب ودون استشارة للرفاق الفقهاء ظل يمارس بطولته داخل حلبات جمعيات المجتمع المدني وصارا أرنبا لمسافة السباق وبعدها قيل له انتظر القصر في حاجة لك لا تعد للتعاقد مع الجامعة الأمريكية وظل ينتظر ولازال..لم يدرك أن صلاحيته انتهت..
قيل لي أنه قاد صراعا في المؤتمر بالتحالف مع القرفاوي والزرقاوي و النهشلي تحالف مع من يستخدمهم الصيادون لإخراج الأرانب من أعشاب البراري مع الحياحة في مواسم الصيد.لم يكن يحسّن الرماية فعاد للحديث عن التحريف وعن الغدر بالجماهير الشعبية.
لماذا تعودين يا حلمية لعادتك القديمة بعد أن هجرتي ركنك الدافىء بحي الأحباس إلى عين الذئاب،ذئاب جائعة قلت تنهش جسدي بالوشايات الكاذبة.
كنت تحضر المآسي و الأفراح وكنت تبكي للانهزامنا المرحلي كنت إنسانا رائعا نفتخر بك فخذلتنا جميعا وحين جئت لمدينة سطات رأيتك غريبا عني بعيدا في المنصة بغرفة التجارة والصناعة تتحدث عن التعديل الدستوري باسمك الشخصي وتقول للحاضرين أنك لم تتلق مسودة حزبك حزب التقدم والاشتراكية الذي أنت عضو بديوان مكتبه السياسي ولم تقل للناس أن كل أعضاء الحزب وأصدقائه توصلوا بالمسودة..
لم أعد قادرًا على احترام أشخاص يصرفون الكذب و الوشايات لم أعد قادرًا على العيش بين الدجالين الذين يبيعون أنفسهم وبعضهم وكلهم في المحطات التي تتعارض فيها مصالحهم مع مصالح الآخرين.النفاق الاجتماعي كان أشد بغضا وكرها لنفسي فقلت لا بأس في هذه الساعات التي اختلت فيها الموازين أن أنشغل بضبط أوتارا آلة العود علني أفهم ما يجري يا أمي يا ست الحبايب يا حبيبة فغدا لي موعد بمكتب قاضي التحقيق