قراءة مختزلة في ديوان “ترتوي بنجيع القصيد” للشاعر المرحوم السي محمد عنيبة الحمري
الشاعر محمد بوحاشي/المغرب
قدمت هذه المداخلة يوم 08 فبراير 2025 في حفل أربعينية المرحوم عنيبة الحمري الذي نظمه المركز المغربي للثقافة والإبداع ـ فرع مكناس ـ
مدخل:يحتضن الديوان 28 قصيدة ينجلي من خلالها أن الشاعر متعدد الانشغالات،عميق الرؤيا حنكته مسارات ودروب ومنعرجات الحياة وانغماسها فيها قلبا وقالبا ،التزاما وعملا. كتابة شعرية بلون غامق احيانا ازرق احيانا اخرى، فهو لا يفتعل كما لا يصطنع القول اصطناعا. المدارات الحزينة التي نلمس حضورها ومسحتها في كل اشعاره تعود الى رسوخ الأوهام وتحويلها إلى حقائق متسرمدة تئد الأحلام وتحولها إلى غبار تذروه الرياح. رياح تنجدل في هيجانها سلط الثمثلات التي تتشكل منها الدوكساالمشدودة بقوة الواقع الذي صنعه التزيبف المتعمد،فاستاسد التسلط والجهل والاستلاب والضحالة والعنجهية والصلافة التي تلوك وتجتر اذيال مسارات ماضوية بئيسة عفا عنها الزمان وعليها أن تنسحب…لكنها،هنا،لازالت فاعلة قياسا على لبوس يكره جمعيا على قياسات تعمم في مواجهة العقل الناقد المنفتح الذي يراد له اما أن يستقيل أو يحطم…
من هنا تصدر معاناة الشاعر المؤرقة فيرتوي بنجيع الشعر تخفيفا للهيبها وتفريغا لاجزاء من عنفها لتقليص التآكل ولتنبيه الغافلين والساهين والمستسلمين…
-الشعر تدبير وتحبير:
“اوكلما ملأ الخوار رؤوسهم
طلبوك إلى زمن يخور ذلولا
ليس اعتباطا أن توجد قصيدة “ابداع”في مقدمة الديوان فهي علاوة على قيمتها الجمالية الفنية ايقاعا وتركيبا وتصويرا وتخييلا وتشاكلا وتقابل مفارقات وانهماما بالذاتي والغيري وثلاثية النقد الذاتي والغيري والمجتمعي فانها -هي وغيرها من القصائد الاخرى-تضع الشعر تيمة من تيماتها. انه شعر فوق شعر أو ميتا شعر. تبدو وظيفة الشعر كما نسجها الشاعر ذرات غبار سرعان ما تنمحى،فهل يعاتب بدل الغبار رياحا طفت فاستباحت حماه؟.نقرا في الصفحات من 9إلى 11هذه المقتطفات من قصيدة:”لن تعاتب هذا الغبار ”
“وكنت نسجت قصيدا
بذراته فانمحى
أو تلوم رياحا طفت
فاستباحت حماه
انت من أساء
إختيار المداد
****
أهو الشعر ينأى بعيدا
أم الوهم يطفو
فيجفو سواه
وانتبهت بمر السنين
بأنك مستنزف
لنجيع القصيد
تتملى انزياحا
وتأبى ارتياحا
وما تبتغيه
ملاذ عنيد ”
هذه القصيدة كما يلاحظ المتتبع قطعة فنية مموسقة ، منسوب الجمالي فيها زخم بفعل تفاعل نغمي فونيمي ومورفيمي يندغم مع رؤية نقدية يقودها السؤال والتساؤل عن نجاعة الشعر تجاه واقع صفاته العناد، فهل يتمكن الشعرمن مجابهة هذا العناد وتتمكن الأنا الشاعرة من وصفه بصفاته الحقة وتفكيك أليات وسلط رسوخه…وهل انزياحات الشعر من طبيعة تركيبه النسقي أم مراوغات واختيالات تبتغي الانفلات من قبضة تصلب وعناد واقع على صخرته تكسرت وتتكسر احلام تتجلى في مرأتها وكانها أوهام؟. لاشك أن جمالية القصيد هنا قد ازدانت بهذه الرؤية التساؤلية،من جهة،ومن جهة أخرى، بما يتلقفه الشاعرمن مزيد المعاناة المستفزة والمستنزفة للذات الشاعرة:
“وانتبهت بمر السنين
بانك مستنزف
لنجيع القصيد
تتملى انزياحا
وتأبى ارتياحا
وما تبتغيه
ملاذ عنيد “(ص11).
هو ملاذ عنيد والافق ضبابي والحلم بعيد…والشاعر يركب زورقا متمردا
“فاركب الزورق المتمرد
يبحر
ضد التيار
أو فحاول عبور الإبحار
على صدف
مل منه المحار(ص14 من قصيدة “صراع”).
****
الفراغ عسير
إذا لم تقاومه
بالكلمات(ص15من قصيدة “صراع “)
يدرك الشاعر أن المقاومة بالكلمات رخوة،فهل يمتلك غير الكلمات؟.
-خصوصية تدبير الكتابة الشعرية في الديوان: لا وجود لعلامات الوقف فالقصائد تتسلسل في ترتيبها وتنساب انسياب الماء في النهر أو الموج في البحر. تتلاحق مترابطة من حيث تنتهي سابقاتها…قصائد فيها حرص كبير على الشعرية التي قوامها الايقاع والموسقة..تتكثف جماليتها بتلاحم المبنى والمعنى والشاعر داخلها هو قصيدة القصائد إذ لا وقت له ببوح حالم يصارع الريح،فالمسير ظلام. يقول:
“بدون مصابيح
رعب يطول
والمسافات
بين المتاهات
لا تنتهي للأمان!”(ص18و 19).
تصف القصائد وتسائل المسارات والمألات ثم تنعرج نحو مساءلة نفس تعاني وتشقى لأنها ترفض التسلق الغير المشروع وتدينه وتواجهه بما يناسبه من نقد. يقول :
“ولأنك لا تتسول
ولا تتوسل
فاشرب نصيبك
من تبعات الجحود
غير منتظر الورود
تتحمل وزرك
لا عون لك “(ص96من قصيدة “قرعة الأنبياء “).
-خلاصة:يستنتج قارئ قصائد الشاعر المغربي القدير الاستاذ سي محمد عنيبة الحمري أنه شديد الحساسية الفكرية والشعرية تجاة معضلات تكلست ووقفت سدا منيعا ضد احلام يقودها التغيير المنشود لذلك يواجهها برؤية شعرية نقدية عميقة تدين الاجترار وتذمه من حيث انه يعمل على طمس الكينونة الحقة للإنسان الإنساني التي لا تقوم لها قائمة دون عدالة وحرية واقامة مشروع مجتمعي يتلافى التسلط والظلم والظلام…وهو(الشاعر )يخيب أفاق انتظار المتلقي حسب تعبير مدرسة جمالية التلقي الألمانية مما يجعل من كتاباته الشعرية تزداد جمالية وتتعالى على الأمكنة والأزمنة المحلية والخاصة ليتلقاها القراء المتعاقبون في كل زمان . ذلك أن أفاق الانتظار التي تنبني على الاستجابة (la confirmation )لا تضيف شيئا لما هو كائن وتكرس نفس الذهنيات والتصورات،في حين أن التخييب( ladécéption ) يخلخل اتنظارات المتلقي ويدفعه إلى اعادة النظر في ما هو كائن ليشرئب نحو ممكن أرقى وافضل.
عنوان الديوان:”ترتوي بنجيع القصيد
الطبعة الأولى. دجنبر 2019.
مطبعة دار القرويين. الدار البيضاء. المغرب.