الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

الصحراء المغربية: صراع مفتعل بين أطماع السياسة وحق التاريخ

الحلقة التاسعة من سلسلة إحقاق حق

 

 

 

بقلم ذة. نجاة زين الدين

 

 

1)الجذور الحقيقية للنزاع:

 

قضية الصحراء المغربية ليست صراعًا حول أرض مجهولة أو حدود ضائعة، بل هي امتداد طبيعي لسيادة تاريخية راسخة للمغرب على أقاليمه الجنوبية منذ قرون طويلة، فقد كانت قبائل الصحراء، من الرقيبات وأولاد دليم والبيهات وغيرهم، تدين بالولاء للمغرب وتبايع سلاطينه شرعيًا، في نظام قبلي–سياسي موحد، موثق في مراسلات وظهائر ملكية وشهادات أجنبية، حتى قبل عهد الاستعمار.

غير أن الاستعمار الأوروبي، وعلى رأسه الإسباني والفرنسي، سعى في مطلع القرن العشرين إلى تقطيع أوصال الدول الإفريقية وفق منطق المصالح لا منطق التاريخ، فابتدعت معاهدات التقسيم (كمعاهدة مدريد سنة 1880) التي قسمت المغرب إلى مناطق نفوذ، لتصبح الصحراء المغربية ضحية لعبة استعمارية قذرة، هدفها السيطرة على الثروات وإضعاف وحدة الشعوب.

 

 2) الأطراف التي صنعت الصراع:

 

بعد حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، بقيت الصحراء تحت الاحتلال الإسباني، غير أن المخابرات الاستعمارية، خصوصًا الفرنسية والإسبانية، لم تكن راضية عن المغرب الموحد القوي، فصنعت كيانًا وهميًا سمي لاحقًا بـ“البوليساريو” سنة 1973، بدعم مباشر من الجزائر التي رأت في استقلال الصحراء فرصة لعزل المغرب عن عمقه الإفريقي وإضعاف نفوذه وحضوره الإقليمي.

هكذا تحول النزاع من قضية بسيطة لتصفية استعمار إلى صراع جيوسياسي معقد، تتحكم فيه مصالح الدول الكبرى:

  • الجزائر تبنت الملف رسميًا، وسخرت له النفط والغاز والدبلوماسية لتفرض زعامة وهمية في المنطقة.
  • إسبانيا ظلت متواطئة عبر مواقف مزدوجة، لتحتفظ بامتيازاتها الاقتصادية.
  • فرنسا والولايات المتحدة تعاملتا بحذر، بحكم موقع المغرب الاستراتيجي، وإن كانتا تدعمان استقراره في الظاهر، فالكل – كما نعلم – يتحرك وفق أجنداته النفعية ومصالحه الاستراتيجية.
  • الكيان الإسرائيلي وبعض اللوبيات الغربية وجدوا في النزاع وسيلة لإبقاء المنطقة في حالة توتر دائم، تُضعف أي مشروع وحدوي مغاربي أو إفريقي مستقل.

 

3) مراحل نضال المغرب من أجل استرجاع صحرائه:

 

بدأ النضال المغربي رسميًا منذ بداية ستينيات القرن الماضي، حين رفع المغرب ملف الصحراء إلى الأمم المتحدة ضمن قضايا تصفية الاستعمار سنة 1963.

وفي سنة 1975، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري، مؤكدة وجود روابط قانونية وتاريخية بين الصحراء والمغرب، وهو ما شكل نصرًا دبلوماسيًا كبيرًا للرباط.

ثم جاءت المسيرة الخضراء، الحدث الذي غير مجرى التاريخ، حين لبّى أكثر من 350 ألف مغربي نداء الملك الحسن الثاني، تغمده الله برحمته، حاملين المصحف والعلم الوطني، في ملحمة سلمية لاسترجاع الحق بالروح لا بالسلاح.

وبعد انسحاب إسبانيا وتوقيع اتفاق مدريد الثلاثي، استعاد المغرب سيادته على معظم أراضيه الجنوبية، وبدأ مرحلة التعمير والبناء بكل اجتهاد ويقين بأن الصحراء مغربية أحب من أحب وكره من كره.

لكن الجزائر، عبر دعمها للبوليساريو، دفعت إلى حرب طويلة استمرت خمسة عشر عامًا، من 1976 إلى 1991، انتهت بوقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة. ومنذ ذلك الحين، خاض المغرب معركة دبلوماسية وتنموية متواصلة أثمرت عن اعتراف دولي متزايد بمغربية الصحراء، وإقامة أكثر من 30 قنصلية أجنبية في مدينتي العيون والداخلة، كدليل ملموس وقاطع على السيادة المغربية.

 

4) التكلفة البشرية والمادية والمعنوية لملف قضية الصحراء:

 

تكبد المغرب خلال أربعة عقود من هذا الصراع المفتعل خسائر جسيمة:

 

  • بشريًا: آلاف الشهداء من الجيش والقوات المساعدة، ومئات الأسرى الذين احتُجزوا في مخيمات تندوف في ظروف مأساوية ولا إنسانية.
  • ماديًا: مليارات الدولارات صُرفت على الدفاع والبناء والإعمار، وتحويل الصحراء إلى نموذج تنموي متقدم ببنيات تحتية ضخمة ومشاريع كبرى.
  • معنويًا: استنزاف دبلوماسي طويل، وتعطيل لقيام اتحاد مغاربي حقيقي كان يمكن أن يجعل من المنطقة قوة اقتصادية صاعدة.

 

ورغم كل ذلك، ظل المغرب صامدًا، مؤمنًا بعدالة قضيته، معتمدًا على شرعيته التاريخية ووحدته الترابية والشعبية، حتى أصبح اليوم ملف الصحراء ورقة سيادة وطنية غير قابلة للمساومة ولا المقايضة.

 

5) الحدود الاستعمارية وأثرها في النزاعات العالمية:

 

إن ملف الصحراء المغربية ليس استثناءً، بل هو صورة من صور الخرائط الاستعمارية الملعونة التي رسمتها القوى الأوروبية بخطوط مستقيمة، كتلك التي رسمتها خريطة “ميركاتور” الملعونة والكاذبة، بحيث لم تُراعَ تاريخ الشعوب ولا امتدادها الثقافي أو القبلي أو الهوياتي.

فمن إفريقيا إلى آسيا، ومن المشرق إلى أمريكا اللاتينية، نجد الحدود الاستعمارية وراء معظم النزاعات المزمنة:

  • في إفريقيا، قُسمت القبائل بين دول مصطنعة، مما أدى إلى حروب أهلية لم ولن تنتهِ.
  • في الشرق الأوسط، فرضت حدود “سايكس بيكو” لتفتيت الأمة إلى كيانات متناحرة ليخون بعضها البعض.
  • في أمريكا اللاتينية، خلفت خرائط الاستعمار الإسباني والبريطاني أزمات حدودية واقتصادية متكررة جعلت معظم الدول التي كانت خاضعة لها تسبح إلى حد الساعة في دماء تناحر المافيات والمخدرات والتخلف واللاأمن الداخلي.

هكذا تحولت الحدود من وسيلة لتنظيم السيادة القانونية إلى أداة استعمارية لإدامة الضعف والانقسام وإطالة أمد التشردم والتقتيل.

 

6) من نزاع مفتعل إلى ورقة سيادة وقوة دبلوماسية:

 

لقد أثبت المغرب عبر عقود من الصبر والحنكة والحكمة السياسية أن الذكاء الاستراتيجي أقوى من صخب البنادق، وأن البناء أبلغ رد على الدسائس والمؤامرات.

فبعد أن أراد الخصوم تحويل قضية الصحراء إلى عبء سياسي يستنزف طاقاته، جعل منها المغرب منصة فريدة للإشعاع التنموي والسياسي، يُضرب بها المثل في حسن تدبير الملفات المصيرية.

من خلال النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، الذي أطلقه الملك محمد السادس سنة 2015، تحولت الصحراء إلى ورش مفتوح للاستثمار في البنيات التحتية الحديثة: موانئ كبرى، مطارات متطورة، طرق سيارة تربط الجنوب بالمدن الشمالية، ومشاريع للطاقة المتجددة جعلت من الداخلة والعيون قطبين اقتصاديين واعدين على صعيد إفريقيا الغربية.

وفي المجال الدبلوماسي، تمكن المغرب من قلب الموازين بهدوء وذكاء؛ إذ أضحى الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء يتسع يومًا بعد يوم، بدءًا باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2020، ومرورًا بفتح العشرات من القنصليات العربية والإفريقية، وصولًا إلى مواقف أوروبية بدأت تميل نحو تبني مقاربة الحكم الذاتي كحل جدي وواقعي تحت السيادة المغربية.

أما على المستوى الإفريقي، فقد عاد المغرب إلى الاتحاد الإفريقي من موقع القوة لا الخضوع، حاملًا مشروعًا وحدويًا يقوم على التنمية والتعاون جنوب–جنوب بدل لغة الانقسام والعداء المجاني، فغدت بذلك الصحراء المغربية اليوم جسرًا استراتيجيًا للعبور نحو العمق الإفريقي بدل أن تكون حاجزًا جغرافيًا أو ورقة ابتزاز سياسي.

إن هذا التحول الجوهري من منطق الدفاع إلى منطق الريادة، ومن خطاب التبرير إلى خطاب الإنجاز، هو ما جعل المغرب يحول صحراءه من “قضية وطنية” إلى رمز لهوية الأمة ووحدتها، وركيزة لقوتها الاقتصادية والدبلوماسية القادمة.

لقد انتصر المغرب، لا بوفرة السلاح، بل بصدق الإيمان بعدالة قضيته، وبإصرار القيادة والشعب على صون كرامة الوطن. وهكذا، لم تعد الصحراء ورقة نزاع، بل عنوان مجد مغربي متجدد في التاريخ والجغرافيا والسيادة.

 

7) تساؤلات مشروعة حول سبتة ومليلية: متى يكتمل التحرير؟

 

أليس من المشروع أن نتساءل اليوم: ما مصير مدينتي سبتة ومليلية السليبتين، وهما الجرحان الباقيان في جسد السيادة المغربية؟
كيف يمكن أن تظل أرض مغربية بتاريخها الأندلسي العريق وموقعها الاستراتيجي الفريد خاضعة للاحتلال الإسباني في زمن تتغنى فيه أوروبا بحقوق الإنسان واحترام الشرعية الدولية؟
أليس من التناقض أن يطالب العالم بتصفية الاستعمار في كل القارات، بينما يُغض الطرف عن استعمار قائم على التراب المغربي منذ أكثر من خمسة قرون؟

ثم إلى متى ستظل إسبانيا تتعامل مع هذا الملف بعقلية الوصاية التاريخية، متناسية أن المغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، وأنه استعاد وعيه وقوته ومكانته كدولة إقليمية وازنة؟
وهل يمكن أن يظل الحوار حول المدينتين مؤجلًا إلى أجل غير مسمى، في حين أن منطق العدالة يقتضي فتح نقاش مباشر ومسؤول بين الرباط ومدريد، يقوم على احترام التاريخ والواقع الآني لشعوب البلدين لا على منطق الإملاء والاحتلال؟

ولعل الحكمة المغربية، كما برهنت في ملف الصحراء، قادرة على رسم طريق جديد نحو تحرير متدرج وسلمي لسبتة ومليلية، يعتمد على رؤية دبلوماسية بعيدة المدى، ترتكز على:

  • إحياء الذاكرة التاريخية المشتركة بين الشعبين المغربي والإسباني، وتوظيف الروابط الثقافية والدينية كجسر للحوار لا سلاح للصدام.
  • تدويل النقاش القانوني في المحافل الأممية بهدوء وموضوعية، لتوضيح أن الوجود الإسباني في المدينتين لا يستند إلى أي شرعية قانونية.
  • الرهان على القوة الاقتصادية للمغرب في محيطه المتوسطي، بما يجعل التعاون المتوازن مع إسبانيا أفقًا مشروطًا باحترام السيادة الكاملة لكلا البلدين.
  • اعتماد مقاربة “التحرير بالاقتناع لا بالتصادم”، أي بناء واقع يجعل من استمرار الاحتلال عبئًا سياسيًا واقتصاديًا على مدريد أكثر مما هو مكسب.

إن المغرب الذي استعاد صحراءه بالحكمة والصبر والإصرار، قادر على أن يستعيد سبتة ومليلية بقوة الحق لا بحق القوة، لأن منطق التاريخ لا يُهزم، والحق إذا سكت لحظة، فإنه لا يموت، بل ينتظر وقته ليعود شامخًا مهيبًا كما تعود الشمس بعد مغيبها.

 

إن قضية الصحراء المغربية ليست صراعًا حول الرمال، بل ملحمة سيادة وكرامة خاضها المغرب بإيمان راسخ وعدالة ثابتة.
لقد صمد المغاربة أمام المناورات والمؤامرات، فانتصروا بالتاريخ وبالشرعية وبقوة البناء والإرادة، وبالحكمة واليقين في رب العالمين بأنه لا يضيع حق وراءه مطالب.

 

واليوم، بينما تتساقط الأقنعة وتتكشف الحقائق، يثبت للعالم أن المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها، وأن كل ما بُني على الزيف والعداء المجاني والاعتباطي سيسقط أمام نور الحقيقة وصدق الانتماء.

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!