الحرب الإقتصادية العالمية الثالثة: المغرب بين التحدي و الفرصة.
بقلم: ذة. نجــاة زين الدين
في زمن يبدو فيه أن العالم يتأرجح على حافة تحولات عميقة، لا يمكن اعتبار ما نعيشه اليوم مجرد أزمة إقتصادية طارئة ، أو دورة ركود جديدة، عابرة، بل هو مشهد مكتمل الأركان لحرب عالمية من نوع جديد: حرب اقتصادية بامتياز. فبعد الحربين العالميتين الأولى و الثانية، اللتين طغى عليهما طابع الدمار العسكري و المجابهة المسلحة، تطل علينا اليوم حرب ثالثة، و لكن بأسلحة مختلفة عن طريق: الأسواق، رؤوس الأموال، الطاقة، الغذاء، المياه، تحطيم منظومة القيم، تمييع الحقل المعرفي، تدجين الشباب بالمخدرات و بأفيون كرة القدم و عقم السفاهة والتفاهة عبر إستعمال وسائل التواصل الإجتماعي في متاهة التمييع و الإنحلال و الترفيه و التسفيه من معطى التأثير المخرب و المحطم و المدمر للذات وللمجتمع… حرب بالقنابل و بدونها، لكن بآثار مدمرة تتسلل بصمت إلى كل بيت، و كل مائدة، و كل جيب و كل حساب بنكي…
1- الحرب الإقتصادية: تعرية المستور و هيمنة غير مرئية:
هذه الحرب تكشف حجم التحكم الحقيقي الذي يمارسه الإقتصاد في السياسة، رغم الخطابات المتداولة التي تدعي العكس. فبينما تتنازع المدارس السياسية في الغرب و الشرق حول البوصلة التي ينبغي أن توجه التدبير العمومي، تتكفل الأسواق المالية و مراكز القرار الإقتصادي الكبرى بفرض مستوى الإيقاع و نمط سيرورة القرارات التي تتخذ في واشنطن و بروكسيل و بكين، بحيث لا تتوقف عند حدود هذه الدول، بل تمتد آثارها إلى الدول النامية و المستضعفة، و منها المغرب، الذي يجد نفسه في قلب هذا الإعصار المدوي و الضبابي في مواجهة تحديات خطيرة…
2- موقع المغرب في المشهد العالمي الجديد:
يقف المغرب اليوم أمام فرصة تاريخية للعب أدوار محورية، بحكم موقعه الإستراتيجي عند مفترق طرق القارات، و بحكم انفتاحه الدبلوماسي على الولايات المتحدة الأمريكية والصين والاتحاد الأوروبي…لكنه في الآن نفسه، يواجه تحديات حقيقية تعكس هشاشة بنيته الإقتصادية، و أزمة مديونيته الخانقة، و الضغط الإجتماعي المتزايد بسبب الأزمة الآنية التي شملت كل القطاعات بدون استثناء…
إن انعكاسات هذه الحرب الاقتصادية لا يمكن فصلها عن قضايا جوهرية، أبرزها ملف الوحدة الترابية، فكلما اشتدت الإستقطابات العالمية، كلما أصبحت النزاعات الإقليمية أوراقا تلعب على طاولة المصالح علانية، و بالتالي، فإن تعزيز قوة المغرب الإقتصادية و الإستراتيجية بات شرطا رئيسيا لضمان حماية وحدته الترابية وسيادته الوطنية.
3- كأس إفريقيا و كأس العالم: فرصة لا تعوض أم عبء إضافي؟؟؟؟
إن تنظيم المغرب لكأس إفريقيا، و مشاركته في تنظيم كأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا و البرتغال، ليس مجرد تظاهرات رياضية، بل لحظة دولية فاصلة ينبغي أن تستثمر بذكاء لإعادة تموقع المغرب كقوة اقتصادية و سياحية و بشرية، هذه المناسبات يمكن أن تكون قاطرة للتنمية، إذا ما تم ربطها برؤية وطنية شاملة و واضحة لإعادة تأهيل البنية التحتية، و تطوير النقل، و تعزيز صورة المغرب في العالم كبلد ينعم بالاستقرار و بالجاذبية السياحية المطلوبة.
لكن السؤال الجوهري الذي يبقى مطروحا هو: هل نملك النموذج التنموي الواقعي والحقيقي برؤية مدروسة، لا تيه فيها و لا تزوير، رؤية تضمن عدم إنزلاق هذه المشاريع إلى صفة كونها مجرد مظاهر بروتوكولية تمول بالديون و تستهلك إعلاميا دون مردودية اجتماعية ملموسة؟؟؟
- كرة القدم بين متعة اللعبة و إستراتيجية التمويه: دعوة لإنقاذ وعي الشعوب العربية:
في عالم تسرق فيه الأحلام و تدار فيه العقول من خلف الشاشات و الملاعب، لم تعد كرة القدم مجرد رياضة جماهيرية تثير الحماس و تحفز الروح التنافسية، بل تحولت، في كثير من الأقطار العربية، إلى أداة خطيرة لتدجين الشعوب وتوجيه طاقاتها نحو الفراغ و التمويه، بحيث لم تعد المستديرة الساحرة بريئة، بل باتت أفيونا معاصرا يلهي الشباب عن قضاياهم المصيرية، و يشغل الجماهير عن إنهيار المنظومات التعليمية و القيمية، و تهالك البنى الصحية، و شلل التنمية المستدامة الداخلية لبلدانها…
- كرة القدم و تدجين الشعوب: حين يتحول الشغف إلى وسيلة سيطرة:
لا أحد ينكر أن الرياضة من أهم أدوات الترفيه و التوازن النفسي والصحة و اللياقة الجسمانية، لكنها، عندما توظف من طرف الأنظمة المتسلطة، فإنها تصبح سلاحا ناعما لإسكات الأصوات الحرة: فحين تضخ الملايين لبناء الملاعب العملاقة، تغلق مدارس في القرى، و تتحول المستشفيات إلى قاعات انتظار للموت البطيء للعديد من المرضى الذين لم يحظون بفرصة علاج مجانية و بمواعيد قريبة للعلاج كما كان من باب المفروض أن يكون…فكل هذا يتم بغطاء “الإهتمام بالشباب” و”الإستثمار في الرياضة”، لكن الحقيقة المرة أن الإستثمارات في كرة القدم تحولت إلى صمام تنفيس سياسي، و مسكن للوعي، و وسيلة لتمرير السياسات الفاشلة لبرامج متعاقبة دون مساءلة أو نقد…فالشاب عندما يلج الملاعب ليردد مع الإلتراس، شعارات من صميم معاناته و من أعماق قلبه، فإنه عند نهاية المباراة تجده يبحث عن مخدر لإتمام عملية الدوباج التسكيني، لينتهي كجثة هامدة في نوم عميق، قد لا يستفيق منه إلا بعد 24 ساعة أحيانا…و هكذا دواليك تمر أيامه العصيبة بين شعارات “في بلادي ظلموني” إلى سباة عميق، أو إلى أحاديث ذات شجون بمقهى حيه إن توفر على ثمن استهلاك فنجان قهوته السوداء سواد واقعه المرير و المتعب…
- مساءلة مشروعة: أين الأولويات في الوطن العربي؟
هل من المنطقي أن تبنى ملاعب بمليارات الدولارات في دول تعاني من بطالة متفشية، و منظومات تعليمية و قيمية متهالكة و مقبورة أمليت برامجها من صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و البنك الصيني المركزي، و نقص مزمن في الخدمات الصحية؟
أليس الأجدر توجيه تلك الميزانيات نحو تشييد الجامعات، وتحديث مناهج تربوية مصححة لمسار الانفلات السلوكي المخيف، و بناء المستشفيات و توسيع تلك التي لم تعد كافية لاستيعاب عدد الزوار و تحسين شبكات الطرق و الصرف الصحي؟
ففي الدول المتقدمة، يتم الاستثمار في الرياضة بعد تحقيق الإكتفاء في البنية التحتية الأساسية، بينما في عالمنا العربي، تعلق آمال الملايين على مباراة كرة، و يصور اللاعبون على أنهم أبطال قوميون، في حين ينسى المعلم، و يهان الطبيب، و يقصى المثقف و يهمش المفكر و يعتقل الناقد…..
- الفارق بيننا وبينهم: الوعي والتمكين لا الاستلاب:
في الدول المتقدمة، تمارس كرة القدم كجزء من منظومة إجتماعية متكاملة، تحترم فيها عقول الجماهير، و ينظر إلى اللعبة كأداة تكميلية و مجرد لعبة ترفيهية لا بديلة عن التفكير و النقاش الجاد و البناء. بحيث لا تستعمل الكرة هناك لتخدير الشعوب، بل لتعزيز القيم كالتعاون والانضباط. أما في دولنا، فتحولت إلى غطاء سياسي، لإسكات صوت المطالبين بالعدالة الإجتماعية و الحرية و الكرامة.
- دعوة لليقظة: ما بعد الهوس الكروي:
بدل أن تستنزف طاقات الشباب في تشجيع نواد تمول من جيوبهم و توجه ضد وعيهم، ألم يكن من الأجدى أن نربط حماسهم بالرياضة بقضاياهم المصيرية الحقيقية؟
ألم يكن الأولى أن يتحول شغفهم إلى طاقة تغيير و بناء و تشييد، إلى نقاشات راقية حول القيم التي أقبرت، والأخلاق التي غيبت بفعل فاعل صاغ بدهاء الوضع في برامج مدروسة للإبقاء على دوام علة التيه و مطاردة أضغاث أحلام، بعيدا عن معالجة التحديات الوطنية، و قضايا التنمية؟؟ في ظل إكراهات تستدعي أكبر من الحزم و التجنيد و اليقظة…؟
لماذا لا نستثمر ذلك الحماس الجماهيري في مبادرات مجتمعية، في مشاريع ثقافية، في منصات للنقاش، في ندوات أسبوعية تسترجع بها دور شبابنا و مركباتنا الثقافية وهجها المغيب، للإنكباب على التفكير في البحث عن الحلول لكل المطبات و المعضلات السلوكية الفردية والجماعية المعيقة للتطور والنماء المنتظر والمرتقب؟؟؟
- نداء أخير: لتكن الكرة وسيلة لا غاية:
على أصحاب الضمائر الحية، المثقفين، المربين، و كل الأحرار، أن ينهضوا بدورهم التاريخي لإنقاذ الأجيال القادمة من الطوفان الإعلامي الذي حول و يحول الترفيه إلى غيبوبة جماعية و الثانوي الى أساسي و التسلية إلى أفيون لتخدير العقول و الاستهتار بالزمن الحاضر و ضرب في الصميم لمعطيات و تطلعات المستقبل المجهول و المبهم.
علينا أن نعيد البوصلة نحو ما هو أهم، أن نزرع في الشباب روح النقد و ٱستخدام العقل لا معانقة الهوس، و نربط الكرة بالكرامة، لا بالإستيلاب.
و لنرفع صوتنا عاليا: نحن لســـنــــا ضد اللعبة، لكننا ضد تحويلها إلى أداة لتغييب الوعي و سرقة الحاضر و تضبيب المستقبل بتزفيت العقل لا بتوظيفه و إستخدامه…
4- الرهان على الذات: من التبعية إلى السيادة:
ففي ظل مديونية تفوق 100% من الناتج الداخلي الخام، لا يمكن للمغرب أن يواصل إستيراد كل شيء و تصدير القليل، بحيث أن التوازن الداخلي للميزان التجاري لن يتحقق إلا عبر ثورة إنتاجية وطنية، تبنى على تشجيع الصناعة المحلية، وحماية السوق من الإغراق بمنتوجات أجنبية، و الإكتفاء بتقزيم المنتوج الوطني المغربي الذي أصبح في كثير من الأحيان ضحية لصورة ذهنية نمطية مغلوطة أو لخيارات إستهلاكية عشوائية مقصودة أو لتقييم مدمر مبرمج من من لهم مصلحة في استمرار علة و انتكاسة الإرادة المصفدة و المغلولة…
5- السيادة الغذائية: من وهم التصدير إلى منطق الإكتفاء:
لا يعقل أن يواصل المغرب تصدير منتجات تستنزف فرشته المائية في زمن الجفاف و التغيرات المناخية الآنية: زراعة الفراولة و الباباي و الأفوكادو و البطيخ…، التي قد تدر أرباحا في الوقت الراهن على بعض المستثمرين، لكنها في نفس الوقت تقامر بمستقبل الوطن وحق الأجيال القادمة في الماء، لأن هذا الأخير ثروة وطنية للجميع، لهذا آن الأوان لأن نعيد الإعتبار للفلاحة المعاشية، و أن نعلن حالة طوارئ بيئية شاملة تتجاوز الشعارات الزائفة، بوضع سياسات فعلية مستشرفة للآفاق المستقبلية بكل واقعية، قائمة على ترشيد المياه، غايتها السامية: تحقيق السيادة الغذائية بدل الارتهان لأسواق الخارج بقروض لا نعرف أصلا كشعوب أين تصرف….؟
- بين ملاعب الخيال و سيادة الخبز: حين تتيه البوصلة في مغرب المعاناة:
في زمن تجثو فيه البطون على خوائها، و تتعثر الأقدام في حقول عطشى، و يئن الفلاح المغربي من عطالة السماء و جفاء الأرض، نفاجأ بسياسات تنزع إلى الترف في زمن الشح، و تراهن على ملاعب الكرة عوض الحقول و المزارع، و كأننا أمة بلا جوع، أو وطن إكتفى من قوته و إستراح.
فأي عقل راشد يبرر صرف مليارات الدولارات في تشييد ملاعب رياضية ضخمة، تقام فوق أراض قاحلة، ليرهن من أجلها المال العام، و تفتح لها صناديق القروض الدولية التي تكبل البلاد لأجيال قادمة و لسنيـــن و سنـــــيــــن؟؟ فكيف يمكن لوطن يعاني من عجز تجاري متفاقم، و من نزيف عملة صعبة تخرج بلا هوادة عبر بوابة إستيراد القمح و الزيت و الأكباش و الأبقار…، أن يبرر أولوية “الفرجة” على حساب “العيش الكريم”؟
فالفلاحة المعاشية، التي تشكل عماد العيش لآلاف القرى المغربية، لا تزال تدار بأدوات بدائية تقليدية، في غياب تكنولوجية الري الحديث، و الإستثمار في البحث الزراعي، لتحديث أساليب الإنتاج و إدخال المكننة للرفع من المردودية…فكيف يمكن أن نأمل تحقيق السيادة الغذائية و الماء قد أصبح عملة نادرة؟ ألسنا أولى بإستثمار تلك الميزانيات الضخمة في دعم الفلاح الصغير، بإنشاء معامل للتحويل الغذائي ببلادنا، في تعميم محطات تحلية الميـــاه بكل ربوع الوطن، لكي لا نعيش تحت بواعث الخوف و الفوبيا من المستقبل المجهول، لتوسيع الرقعة الصالحة للزراعة بدل تزويق الخراب بالخرسانة و الإسفلت؟؟؟؟
- أرقام موجعة تكشف عورات هذا الاختيار السياسي الفج:
ـ أكثر من 70٪ من القمح الذي نستهلكه مستورد.
ـ ملايين الفلاحين المغاربة يعيشون على حافة الفقر، إن لم يهاجروا إلى المدن، التي ضاق وضعها بسبب الفوضى واللانظام الذي تسببت فيه الهجرة القروية الجماعية الغير المقننة…
ـ الدين الخارجي بلغ مستويات قياسية، جزء كبير منه موجه لمشاريع رياضية و سياحية نخبوية…
ـ التغير المناخي أصبح يهدد الأمن الغذائي بشكل مباشر، و لا خطة واضحة لمواجهة هذا الإكراه سوى “خطابات البهجة أو أغاني ‘العام زين” في زمن الجفاف و القحط و العهر المفضوح.
ليس من العيب أن نستثمر في الرياضة، لكن من العبث أن نضعها في قمة الأولويات بينما البطون خاوية، و الحقول عطشانة، و الميزان التجاري مختل… إن من خيانة الأمانة أن يغبن الشعب بسياسات تجميلية، تروج للوهم، لتتستر عن الألم الحقيقي الذي يعانيه ملايين المغاربة من بطالة، و تضخم، و غــــلاء، و إنهيار للقدرة الشرائية، إنهيار الأخلاق…
إن المغرب الجديد، الذي نمنى به في الخطب الرسمية، لن يبنى على أعمدة الملاعب، بل على جذور الأرض، و على عرق الفلاح، و على سيادة غذائية تنقذنا من التسول في الأسواق العالمية، فهذا هو السبيل الوحيد و الأوحد إلى الكرامة، أما كأس العالم فلن يشبع الجوعى، و لن يروي الحقول و لن يحل المشاكل، و إلا ما كانت الدول الوصية على العالم أن تمنح فرصة تنظيمه لأي دولة كيفما كانت، لأنها تدرك جيدا من أين تؤكل الكتف!!!
فلنعد ترتيب الأولويات، قبل أن يصير الجوع أقوى من الفرجة، و قبل أن تنهار البلاد من الداخل بينما تزين و تنمق من الخارج.
6- المغرب بين المجابهة و الفرصة:
في هذا الزمن المضطرب، لا مكان للحياد، إما أن نؤسس لمغرب جديد يقطع مع اقتصاد الريع و التبعية، و يربط المسؤولية بالمحاسبة، و يتعامل مع كل المواطنين بنفس منطق الإنتماء، كما تدل على ذلك بطاقاتنا الوطنية، دون تمييز و لا تفضيل ولا محسوبية، لنعيش جميعا داخل وطن يراهن على كفاءاته ومؤهلاته و موقعه الاستراتيجي الهام، أو نستسلم لعاصفة عالمية لن ترحم الضعفاء… المعركة القادمة ليست فقط معركة أرقام أو مؤشرات إقتصادية، بل معركة سيادة، معركة كرامة، معركة بقاء، معركة وجود إنساني مفعل فإما أن نكون بصورة مشرفة وواقعية وإما فإننا سنستمر في إجترار أوجاعنا بألسنة النفاق و التسويف و البهتان و الصراعات المجانية المبعثرة المجهودات و المثبطة للعزائم…
فهل نمتلك في مؤسساتنا، في نخبنا، في مجتمعنا، شجاعة القرار الجريء لنحسم في كل ما سبق؟؟
و هل هناك من يسمع لهذا النداء قبل أن يصبح صرخة في واد جفت مياهه و غابت ملامحه؟؟