الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

برشلونة: بین نار المنصور وظلال الأندلس

 

 

 

یاسین یحیى – برشلونة

 

 

على ساحل المتوسط، حیث تلامس الأمواج ضفاف الحلم الكتالوني، وقفت برشلونة شامخة، مدینة یحیطھا التاریخ مثلما یحیطھا البحر. كانت یومًا مدینة للفرنجة، یحیط بھا سورھا الحجري، تعیش على تجارتھا البحریة وزھو كنائسھا، ویدیرھا الكونت بوریل الثاني بنظرة مزیج من الفخر والتوجس. لكنھ لم یكن یعلم أن الأفق القادم من الجنوب یحمل لھ نارًا وریاحًا لا تُقاوَم، اسمھا المنصور بن أبي عامر

 

في صیف عام 985م، كان النھار یمضي بطیئًا في برشلونة، والشمس تراقب كل شيء من علٍ، بینما تتردد في الأسواق أصوات التجار، وتصعد في الكنائس تراتیل الصلوات. في تلك اللحظة، كان ظل الأندلس یزحف نحو المدینة، ظل صنعتھ قرطبة بعلمھا وفتنتھا وقوتھا، لكنھ ھذه المرة لم یكن محمّلًا بالشعر والفلسفة، بل بالسیوف واللھب.

 

قاد الحاجب المنصور جیشًا لم یكن فقط جیش حرب، بل كان جیش حضارة، یقف فیھ الفارس الأندلسي جنبًا إلى جنب مع الجندي البربري والمقاتل العربي، كلھم عیونھم نحو المدینة التي لم تكن تعرف أن لیلتھا القادمة ستكون آخر لیلة في ماضیھا القدیم.

 

حین دوت طبول الحرب، لم تكن برشلونة مستعدة. سقطت بواباتھا، وتدفق فرسان المنصور عبر أزقتھا الضیقة، حیث كان الصراخ یختلط بدوي السیوف، والنار تلتھم الخشب القدیم. في ساعات قلیلة، تحولت المدینة إلى كیان جدید، لا یشبھ نفسھ. دخل المنصور عبر بوابة سانتا آنا، و صار جیشھ عبر الشوارع الحجریة التي تشبھ الیوم منطقة الحي القوطي (Barri Gòtic)، حیث كانت القصور والكنائس شاھدة على الغزو.

 

لم یكن ھذا مجرد غزو، بل كان زلزالًا غیّر وجھ المدینة للأبد. نُھبت كاتدرائیة سانتا یولالیا، وامتلأت ساحة ﷼ (Plaça Real) بأصوات الأسرى الذین یؤخذون إلى قرطبة، المدینة التي كانت عاصمة الأندلس، لا تشبھ برشلونة بشيء سوى أنھا أكبر منھا في كل شيء؛ في الضوء والعلم، وفي السلطة والتاریخ.

 

بعد رحیل المنصور، لم تعد برشلونة كما كانت. فقدت بعضًا من ھویتھا، لكنھا في المقابل التقطت من ریاح الأندلس بعضًا من سحرھا. أصبحت مزیجًا من خوف الماضي وأمل المستقبل. صحیح أنھا لم تتحول إلى مدینة أندلسیة بالكامل، لكن وقع الخطى التي مر بھا رجال المنصور ظل محفورًا في حجارتھا.

 

الیوم، حین تسیر في شوارع الرامبلا (La Rambla)، یمكنك أن تتخیل كیف وقفت تلك الساحات یومًا تحت سطوة الحاجب المنصور. كیف كان صوت سنابك الخیل یملأ الممرات التي تؤدي إلى ساحة سان جاومي (Plaça de Sant Jaume)، حیث كان مقر الحكم آنذاك. حتى الآن، لا تزال بعض المباني تحتفظ بأطلالھا من تلك الحقبة، وتبقى برشلونة مدینة تعلمت كیف تنھض من تحت الركام، وكیف تصنع تاریخھا رغم كل ما مضى.

 

 

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!