الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

غزة: الشعب الفلسطيني هو من يقرر نتيجة الحرب

 

 

غريب محمد /المغرب

 

 

بعد أن يتبدد ضباب الحرب في غزة، سوف ينتقل الجدل حول نتائجها من وسائل التواصل الاجتماعي إلى مجال الدراسات الإستراتيجية..وذلك بسبب طابعها الفريد الذي تميزت به عن بقية الحروب.. ولأن ما حدث على هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة ستكون له انعكاسات كبيرة ليس فقط على مستقبل القضية الفلسطينية و الشرق الأوسط بل على التوازنات الجيوستراتيجية العالمية.

 

لقد سبق للاستراتيجي الشهير كارل فان كلاوزفيتش أن  وصف الحرب بكونها “حربائية” وذلك بسبب  المظاهر المتعددة التي تأخذها والناتجة عن السياق التاريخي الذي تدور فيه ونوع الأسلحة المستعملة والاستراتيجيات المعتمدة وطبيعة أرض المعركة..الخ. وحرب غزة كانت فعلا حربائية ، وسنكتفي في هذا المقال بمحاولة الكشف عن الجانب المتعلق  بالخلاف الدائر حاليا في وسائل التواصل الاجتماعي حول نتائجها ومن انتصر فيها ومن انهزم ؟

 

بداية لا بد أن نتفق على تعريف للحرب لأن ذلك سيساعدنا على تحليل نتائج حرب غزة بعيدا عن أي تعاطف مع المقاومة الفلسطينية..هذا التعاطف الذي لا ننكره ولكن  في نفس الوقت ، لا يجب أن يمنعنا من التحليل الموضوعي للأحداث، ومع التأكيد أيضا على أن تعاطفنا هذا مبني على اعتبارات سياسية محضة تنطلق من مرجعية يسارية  تختلف عن مرجعية المقاومة الإسلامية ، ولا نرى في ذلك أي تناقض لأن الإسلام جزء أصيل من ثقافتنا و بنيتنا الفكرية ولأن فصائل المقاومة هي أساسا حركات جهادية تستمد قوتها من تاريخ إسلامي عريق يمجد التضحية من أجل الأرض والإنسان و الدفاع عن الحق .

 

سوف نعود إذن إلى الاستراتيجي كلاوزفيتش الذي يقول بأن “الحرب هي عمل من أعمال العنف يهدف إلى إجبار الخصم على تنفيذ إرادتنا” .. وبأنها “استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى”. الحرب إذن بحسب هذا التعريف لها أهداف سياسية وهي ليست سوى الوسيلة لتحقيق هذه الأهداف . ولهذا السبب فإن أعمال العنف التي تتم خارج هذا الإطار،والتي يصبح فيها العنف هدفا بحد ذاته فإنها تدخل في مجال الإجرام ويتحول فيها الجيش إلى جحافل من القتلة و المجرمين.

 

وللتأكيد على هذا الطابع المنظم للحرب نستعين بتعريف أخر لعالم الاجتماع الفرنسي غاستون بوتول والذي يعتبر من المؤسسين لتخصص علمي يهتم بالحرب، والذي يهدف إلى دراسة مختلف أشكال العنف المنظم في العلاقات الدولية. وفي تعريفه للحرب يقول بأنها “شكل من أشكال العنف الذي يتميز بعدة خصائص أساسية وهو كونه خاضع لضوابط معينة ومنظم ومحدود في الزمان والمكان وأخيرا دموي”.

 

بناء على هذه التعاريف يمكن القول بأن الحروب ليست عنفا جامحا هدفها هو إحداث أكبر قدر من الدمار وسقوط أكبر عدد من القتلى.. بل هي وسيلة لإخضاع الخصم من أجل أن ينفذ إرادة الطرف المنتصر. والانتقال بالتالي إلى وضع جديد تنتفي فيه أسباب الحرب. وهذا هو الاعتبار الذي جعل الاستراتيجي الصيني الكبير Sun tzu يقول بأن ” الفن الأسمى للحرب هو إخضاع العدو دون قتال”. إذن ولهذه الاعتبارات فإن الطرف الذي يدخل حربا بدون رؤية سياسية واضحة وبدون تخطيط استراتيجي يخدم هذه الرؤية والأهداف السياسية فإنه بذلك يسير نحو الهزيمة حتى ولو توفرت لديه أحدث الأسلحة مادام مقياس النصر هو إخضاع العدو وليس إحداث أكبر قدر من الدمار والقتل.

 

وبالعودة إلى حرب غزة، لا بد من التأكيد على أننا أمام حرب لم تنته بعد على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار لأن هذا المصطلح نفسه يعتبر جزء من المفردات العسكرية. وبناء عليه يمكن القول بأن نتائج هذه الحرب لازالت لم تظهر كلها ويجب أن ننتظر ما ستؤول إليه الأوضاع على المدى المتوسط والبعيد.

 

غير أن قراءة للتأثير المباشر لهذه الحرب تمكننا من القول بأنه كانت “لإسرائيل ” السيطرة التامة عندما يتعلق الأمر بالحرب عن بعد، لأنها تتفوق تكنولوجيا، وقد أحدثت دمارا هائلا في قطاع غزة وكذلك في جنوب لبنان واستطاعت أن تقتل الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين. بل أنها تمكنت من قتل واغتيال قادة من حماس وحزب الله، ستجد هاتين الحركتين صعوبة كبرى في ملء الفراغ الذي نتج عن غيابهم، خاصة إذا استحضرنا الدور المحوري الذي كان يلعبه الأمين العام لحزب الله الشهيد حسن نصر الله ليس فقط محليا ولكن أيضا على الصعيد الإقليمي.

 

لكن وكما هو معروف فإن الحرب عن بعد هي بمثابة خدعة بالنسبة للجيوش التي تعتمد كليا عليها، لأنها تحدث آثارا عسكرية ولكنها تبقى دون تأثير سياسي. وكبار الاستراتيجيين يؤكدون أن النصر يتحقق عندما يتم “غرس الأعلام على أرض المعركة” أي بتعبير أخر التحكم في الأرض من أجل إخضاع الخصم.. وهذا ما فشلت إسرائيل في تحقيقه. لقد تمكنت المقاومة من الحفاظ على إمكانياتها وبقيت خلال كل مراحل هذه الحرب متحكمة في الأرض وخاضت حرب شوارع طويلة الأمد استنزفت جيشا محطم المعنويات متعطش للقتل بدون هدف استراتيجي واضح.

 

إن ما كان يحرك جيش إسرائيل وخلفه المجتمع الإسرائيلي هو الانتقام والقتل. كما كان هناك اعتقاد بأن الخسائر البشرية في صفوف المدنيين الفلسطينيين ستؤدي إلى إحداث شرخ بين المقاومة والشعب الفلسطيني، ولكن العكس هو الذي حصل. لقد كان صمود وتضحيات الشعب الفلسطيني أسطورية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ويمكن القول أن هذا الصمود وهذه القدرة على التضحية هي ما تفتقده إسرائيل، وما لم تستوعبه قيادتها.

 

في سنة 1995 وخلال زيارته لمدينة هانوي التقى وزير الدفاع الأمريكي روبرت ماكنمارا بالإستراتيجي الفيتنامي الكبير الجينرال جياب وعن سؤال يتعلق بالسر الذي يفسر انتصار فيتنام على أمريكا قال هذا الأخير بكل بساطة: ” أمريكا دخلت الحرب دون أن تعرف أي شيء عن تاريخ فيتنام والشعب الفيتنامي..لم تعرف أي شيء عن ثقافة الفيتناميين وروحهم الوطنية والقتالية ضد موجات الغزاة الأجانب”.

 

 والواضح اليوم أن إسرائيل لم تستوعب بعد هذا الدرس الذي مفاده أن الانتصار في الحرب لا يقوم على القوة والغطرسة بل يعتمد على التكامل بين أبعادها السياسية والإستراتيجية والثقافية..أو ما يطلق عليها كلاوزفيتش نعت الثالوث la trinité .والذي يعني أولا أن الحرب عمل عقلاني لأنه يتم توجيهها سياسيا، وهي ثانيا تعتمد على وعي وحماس الشعب ومدى قدرته على إسناد المقاتلين..وثالثا هي التخطيط الاستراتيجي الذي يعكس ذكاء القائد الميداني. ولقد اختصرالجينرال جياب هذا الثالوث في عبارة واحدة تعكس تواضع قائد كبير واستراتيجي عظيم حين وصف الشعب الفيتنامي بكونه “ أحسن جينرال فييتنامي”.

 

لقد كشفت هذه الحرب عن مجتمع إسرائيلي متعطش للدم وتنخره الكراهية والخوف والحقد الأعمى ولا يرى خلاصه إلا في نفي الفلسطيني بناء على أساطير يهودية تعتبر العربي الجيد هو العربي الميت. وفي المقابل كشفت هذه الحرب أيضا عن شعب أدهش العالم بصبره الأسطوري وقدرته على التضحية وأيمانه الراسخ بعدالة قضيته مما يجعل منه “أحسن جينرال فلسطيني”، قادر على تحقيق النصر وتغيير المعادلات محليا وإقليميا وعالميا.

 

أننا أمام حرب غير تقليدية لأن طرفاها دولة “إسرائيل ” من جهة وفصائل المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى وفي مقدمتها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس.. وهي لهذا الاعتبار تصنف كحرب غير متناظرة، يعتبر فيها فشل الطرف القوي بمثابة انتصار للطرف الضعيف. إن خسائر المقاومة كانت أكبر من خسائر إسرائيل، لكن حجم الخسائر ليس معيارا للنصر أو الهزيمة. لقد استطاع الاتحاد السوفيتي إخضاع ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية رغم خسائره الفادحة في الأرواح التي تجاوزت 20 مليون قتيل. كما أن خسائر فيتنام كانت أكبر بكثير من خسائر أمريكا ولكن هذا لم يمنع الشيوعيين من دخول سايغون في 30 أبريل من عام 1975.

 

إن حرب غزة لم تضع بعد أوزارها.. ولم تكشف بعد عن كل أسرارها والأيام القادمة هي الكفيلة بالكشف عن من الذي أخضع الأخر وحقق أهدافه السياسية والإستراتيجية. لكن من خلال الرسائل التي تبعث بها المقاومة خلال عمليات تبادل الأسرى يمكن القول أنه رغم الدمار ورغم الآلام فإن الفلسطينيين لم يفقدوا إنسانيتهم وأن إسرائيل قد انهارت أخلاقيا..وهذا مؤشر كبير على هزيمتها.

 

    

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!