الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

   

 أضمومة (سورياليزم) للشاعرة ريم السيد

كتابة عن الانكسار والغربة ونوستالجيا العودة إلى سورية

 

 

ذة.فاطمة ميراث/المغرب 

 

أفق الفرادة في تجربة الشاعرة ريم السيد 

 

 

العتبات التي تضعها الشاعرة ريم السيد لتجربتها في كتابة الشعر وتأثيث خطاباته، وصوره، ورموزه، تبقى عتبات تكسّر كل انتظار ممل، وترقبٍ يدعو إلى الضجر، والسأم، لأن التجربة الشعرية المحمّلة بالمعاناة القاسية عندها جعلتها تتردّد كثيرا قبل أن تقرّر إخراج هذا المولود الجديد ليرى النور وفي هذا تقول: (انتظرتني طويلا، وملّت الانتظار، نعم، كلّفتني كثيرا، نعم، حبرا، وألما، ودمعا، وأرقا، وجنينا، ومرضا، وتهميشا، وغربة فوق غربة)1

 

إن عتبات كل قصيدة كتبتها الشاعرة بالنبض المكلوم، وبرؤيتها التراجيدية للعالم، جعلها تصف التجربة قائلة: ( إن الشعر كالحب، كالحرب، كالموت، وكالحياة، كالانفجار يأتي دون إذن، دون موافقة، ودون مقدمات، أردت  لقصائدي سورياليزم أن تأتي هكذا بلا تصدير وبلا مقدمات ليكون القارئ حرا من تأثير من يخط كلمته على الصفحة الأولى)2

 

من هنا يمكن أن نجد الأضمومة الشعرية تستحضر كل تلك الحالات والخطابات التي رامت ربط علاقتها بالمتلقي دون تمهيد وليدخل في طقوسية هذه العتبات ويكتشفها ويعيش حالاتها، ويتقاسمها والشاعرة مباشرة دون جسور، الشيء الذي يجعل هذه التجربة تكتب فرادتها وتميزها وهي تتحدث بلغة الشعر كأن بدايات الكتابة كانت هي الصرخة الأولى بالقصيدة الموسومة بـ (عذرا نزار).

 

 

  (آ آ آه … يا نزار

                                 

أوصلتك حمى التراب

                                 

وما يغلي في نفوسنا من نار

                                 

كيف أخبرك

                               

 ماذا أقول لك

                                 

في ذكرى رحيلك يا نزار؟

                               

 ليتها تنطق الحجارة

                               

لتكتب على دفاتر عيونها       

                                 

 الأشجار

                                   

لتروي لك حكايا وأخبار

                                   

عمّا حلّ بسورية

                                   

وبمدينة الياسمين)3

 

 

وتبقى أضمومة (سورياليزم) الإضاءات الشفيفة التي تضيء هذه الثلاثية الشعرية بدءا بالمرثية لتصل إلى (أَمْسِك بيدي) وبينهما بوح بالحنين والشوق لسورية وهي تعيش تجربة ألم الغربة المؤرق لروحها، ونفسيتها وتتكبد مواجع الفقد والضياع فلا تجد لذلك بلسما لتعود الروح إلى الحياة إلا بالعودة إلى الهوية الدمشقية.

 

وهذا ما يؤكده إهداء الشاعرة التي أهدت فيه مخاضات تجربتها المريرة إلى الحبيبة سورية، وإلى كل الموجعين في كل الأوطان قائلة:( إلى الحبيبة سورية… إلى الأوطان والأرواح الموجوعة… إليكم هذه الحروف)4

 

كيف تبني هذه الأضمومة أفق فرادتها في تجربة رؤية الشاعرة للذات وللعالم وهي تفصح عن عالم الغربة الذي يجهض (أحلام البائسين)، و (يخنق آهات الموجوعين)، و(يغتال غصات المقهورين)؟ ويرمي بالإنسان إلى المنافي (ويقص عن دمشق الباكية) و(يحكي عن الحروب) و (سفر بدون تذكرة) ويشجب الحرب كما تكشف عن ذلك الشاعرة في خبايا العتبات من قصائد تقول قولها بالواقع وبغير الواقع وهي تنسج العالم السريالي بالتحولات التي تطال الفرد كما تطال المجتمع، وهو ما يضعنا منذ البدء أمام عنوان لهذه الأضمومة، والذي يعتبر مفتاحا لمغالق هذه القصائد الشعرية التي تبقى صورة مكتوبة ببلاغة الغموض ـ تارة ـ ومنسوجة ـ تارة أخرى برمزية تقف أمام الوضوح العنيد الذي يتحول إلى سريالية في رسم هذه الصور لإنجاز أفق الفرادة في التجربة.

 

ليبقى (سورياليزم) كمفهوم جديد في الممارسة الإبداعية لا يحيل إلا على الكتابة الانقلابية التي حدّدها منظرو السريالية كالتالي وهي (إبراز التناقض والتنافر في حياتنا أكثر من التركيز على التآلف والتناغم، وبذلك يتم تجاهل المنطق التقليدي حيث الثورة على العقلانية لأنه في الوجود مجالات لم يدركها الفكر والعلم بعد، حيث ابتكار تقاليدَ جديدة تتناسب والاتجاهات الطليعية وتواكبها )5

 

كما أن عنوان (سورياليزم) يحمل دلالة أخرى فيه تركيب لكلمة (سوريا) مع (lisme) وكأن الشاعرة اختارت هذا التركيب ليصير مصدرا صناعيا في مكونات، ودلالات لا تتمظهر إلا في قصائد الأضمومة الشعرية كحديث عن سورية وكصور، وقضايا، وانكسارات لا يمكن فهم وجودها في هذه التسمية إلا بسورية الحاضرة بمعاناة الشاعرة التي هي معاناة سورية نفسها.

 

وهكذا سعت الشاعرة ريم السيد إلى كتابة أفق الفرادة في تجربتها الشعرية لأنها كلما اقترت من الواقع إلا وأصبح هذا الأخير في صوره الإبداعية لا واقعيا بمعنى أنها دخلت التجربة الشعرية السريالية من خلال مواضيعها القائمة على تصوير الانكسارات، ورصد مظاهر الغربة، وضياع الأوطان، وهو ما عاشته بعيدا عن سوريتها، نبضها، عشقها، هويتها، ملاذها.

 

وتتجلى هذه السريالية في المزج بين ذاتية الشاعرة، وانكسارات الواقع، ومأساوية العالم كما هو متجلٍ في المدن العربية لكن التعبير عن ذلك في قصائد الأضمومة يتم تكوينه بملامح عبثية، ومدهشة فيها بعض الغرابة في الصور الشعرية وكأن الشاعرة تكتب التجربة بعفوية متحررة من كل التقاليد والأشكال القديمة.

 

ولتحقيق الكتابةِ العميقة لأفق الفرادة في التجربة الشعرية تلجأ الشاعرة إلى اعتماد العديد من التقنيات التي تتحرك في أفق الإبداع منها الغرابة وتوظيف لغة الرمز والأسطورة والانزياح لتأكيد اللمسة السريالية في أضمومتها حيث تبرز حلول ذات الوطن في ذاتها، وتَوحّدِ مشاعريهما في حالتي الفرح والحزن، السلام واللعنة، الحياة والموت، والانكسار وانتظار الانجبار الممكن ليبقى ظاهر هذا الحلول في الصور الفنية غير واقعي، أما باطنه فهو الفهم عن طريق تفكيك عناصر الصورة لتكون في نهاية المطاف هي صورة الواقع المعيش القائم، أو الواقع الممكن في الرؤيا الاستشرافية.

 

الرؤية الاستشرافية والواقع القائم والممكن في سورياليزم

 

يحقق هذه الرؤيةَ توظيفُ معجم غني بتنوعه وتناقضاته في رصد واقع سورية بين الأمس واليوم، أي بين الماضي الحافل بالأمجاد والبطولات والسلام والاستقرار والشموخ عبر التاريخ و بين الزمن الحاضر الغارق في الانتكاسات المأساوية وتغييب كل ما له علاقة بالعفة والسيادة السياسية، الشيء الذي لا تجد معه الشاعرة إلا دعوة السوريين وكل المقهورين في بلاد الشام إلى التعجيل بتضميد الجروح، وتعزيز فعل التغيير، لاسترجاع أمن دمشق واستقرارها باسم الدفاع عن الكرامة السورية والشرف الدمشقي معلنة شعار (لا يوصل إلى النصر إلا سلاح المقاومة والنضال)، وهذا ما عبرت عنه الشاعرة في قصيدة (حلّفتك بالله لا تنامي):

 

                                 

( علّمِيهم يا شآمُ

                             

    كيف

                               

 بمداد الأبطال

                                 

يُكتب التاريخ

                               

 كيف تُرسم في بلاد الشمس

                               

خيوط الفجر..

                               

كيف تصبح الأقلام

                               

سيوفا

                             

  تحارب…

           

تصل…

 

تقطف الفخر) 6

 

 

وترصد الشاعرة الزمن الحاضر بمعجم قاتم تردد فيه آهاتها ومواجعها وهي تنوب بصوتها عن صوت كل المقهورين في سوريتها ليكون هذا الصوت متمثلا في معجم الحزن والفقد والمعاناة، والقهر، والألم، والشوق، والحلم بالعودة كما جاء ذلك في قصيدة (إلى الوطن) ليتحقق في الواقع بخطابات الممكن مُطرزا بحلم استشرافي يراود الشاعرة في كل أزمنة الأضمومة حالمة بالعودة واللقاء والولادة الجديدة لعالم جديد ينتظر انبعاث سورية من جديد استرجاعا لسؤددها ومجدها وعفتها متوسلة في تحقيق هذا الحلم بالابتهال والدعاء والنفحة الدينية لعل الله يعجل بالاستجابة وتلبية طلب الدعوة حتى تعرف الشاعرة ريم الاستقرار النفسي والروحي الرهين بعودتها إلى أرض السلام كما في قصيدة (عودة نيسان):

 

(يارب

                               

في عيد ميلاد أمي

                               

اجعل الخير مدرارا

                               

أغدق على أحبتي بالعطاء

                               

متى سيكون لنا

                               

مع الفرح موعد

                               

ولقاء)7

 

ظلت هذه الأضمومة الشعرية حُبلى بالصور، والحالات، والانتظار المتفائل، من أجل وطن يعود إلى الوطن، ويعود الإنسان إلى الإنسان، وهو ما كشفت عنه نوعية العلاقة بين هذا الوطن وذات الشاعرة الحالمة بالعودة إلى الوطن.

 

الوطن في علاقته بالذات الشاعرة

 

يمثل الوطن في الأضمومة محور استقرار ذات الشاعرة، هذا الاستقرار هو الحلم الرهين بعودة دفئها المفقود الذي تحس به كلما ظلت بعيدة عنه، وعن جاذبيته، الشيء الذي يؤكد قمة الانصهار القائم بينهما بتوحد روحاني غامر بالانسجام والتكامل، فبُعد الشاعرة عن سوريتها لا يزيدها إلا حبّا وعشقا للوطن (النبض ـ القلب ـ الحياة ـ اليمن ـ الهوية ـ الانتماء) وكل مظاهر الخصب والنماء والحياة تمثل كلمات المحور في هذه القصائد الشعرية حول سورية.

 

ويبقى حضور معجم الطبيعة لا يقل أهمية عن معجم الوطن والذات الشاعرة في الأضمومة حيث يحضر بقوة وكثافة بشتى أقسام الطبيعة: الميتة، والصامتة، والحية الصائتة، الشي الذي يجعل الشاعرة تتقاطع مع شعراء المدرسة الرومانسية حيث الارتباط الوثيق بعناصر الطبيعة باعتبارها ملاذهم الوحيد الذي يؤنسهم في غربتهم، ويسقطون عليه أحزانهم وهمومهم.، إلا أن الشاعرة ريم استطاعت أن تتجاوز النظرة التشاؤمية السوداوية لتفتح باب الأمل بحتمية تجاوز المحن والمواجع

 

وفي هذا السياق تلجأ الشاعرة بشكل عفوي إلى توظيف عناصر الطبيعة السورية في التصوير الفني حيث تسافر بنا عبر التربة، والحجارة، والأشجار، وأزهار الياسمين، والأقحوان وحقول النوار، وسنابل القمح، وتحلّق بنا في زرقة السماء، وتطوف بنا في الرياضات، وبساتين الياسمين، والأقحوان خلال الفصول متنقلة بين الثنائيات التي تكتب بها الطبيعة السورية.

 

ومن وظائف هذا التصوير الفني في الأضمومة الوظيفة التعبيرية الانفعالية عن حالات الشاعرة في الغربة، كما تحضر الوظيفة الوصفية لحالة الوطن الذي هو حال الشاعرة، وتحضر الوظيفة التأثيرية الحجاجية بخطاب إقناعي يوجه إلى المتلقي المقهور في كل الأوطان لإقناعه بحتمية النصر وتحرير البلد من المحتلين حتى يعود المغرّبون إلى الوطن ليجدوه بلدا مستقرا آمنا وهذا ما يتجلى في قصيدة (حلّفتك بالله لا تنامي)

 

فيما يتعلق بالإيقاع الخارجي الذي بنت به الشاعرة قصائد أضمومتها فهو إيقاع حداثي كسرت به العديد من قواعد الإيقاع الشعري العمودي التقليدي حيث استبدلت نظمه وبنوده بدفقتها الشعورية باعتبارها القانون الوحيد المتحكم في كل آليات بناء القصيدة بدء بالمعجم ومرورا بالصور الفنية، ثم الإيقاعين الداخلي والخارجي، وأساليب القصيدة ولغتها لتجعل من كل هذه العناصر تشتغل في إطار وحدة موضوعية بشكل تكميلي ينجز الانصهار والتكامل حتى ينسجم مع معاناة الشاعرة بلغة مباشرة أحيانا، و انزياحية ـ أحيانا ـ أخرى مستهدفة تحقيق بلاغتي الإقناع والإمتاع باعتباره شعرا يحمل قضية.

 

وتنتهي هذه الأضمومة الشعرية بإبقاء الزمن الشعري مفتوحا على الأمل وهو يتنظر تحقيق حلم جماعي، بكل خصائص الخطاب الشعري في الأضمومة التي قدمت تجربة شعرية ثرية تتحدث عن تجربة حياتية مريرة سببها إبعاد الشاعرة عن سورية، وهو الإبعاد الذي جعلها ترتمي ـ مجبورة ـ في الغربة الاضطرارية لتصبح الشاهدة بشعرها على العصر من خلال أضمومتها الشعرية(سورياليزم).

 

قدمت هذه المداخلة في الأمسية الشعرية بمناسبة حفل توقيع ديوان الشاعرة السورية ريم السيد الموسوم بـ: (سورياليزم)، الحفل الذي نظمه المركز المغربي للثقافة والإبداع/جمعية داني ألوان للفن والإبداع يوم الجمعة 17 نونبر 2023 بالمركز الثقافي محمد المنوني ـ مكناس.

 

 

مراجع

  1. ريم السيد :        سورياليزم ـ ثلاثية شعرية ـ عمان: الآن ناشرون ومبدعون ـ الطبعة الأولى لسنة 2023 الصفحة 263.
  2. المرجع نفسه          :        ص 263
  3. المرجع نفسه          :        ص 9.
  4. المرجع نفسه          :        ورد هذا الإهداء في تصدير الأضمومة الشعرية.
  5. مح محيي الدين ميلو : معجم النقد الأدبي الحديث الطبعة 2012 ـ الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام ص464
  6. ريم السيد :        سورياليزم ـ ثلاثية شعرية ـ عمان: الآن ناشرون ومبدعون ـ الطبعة الأولى لسنة 2023 الصفحة 35.
  7. المرجع نفسه          :        ص24.
Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!