الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

 

الغرباء …وصرخة شعبان

( قصة قصيرة ) 

محمد عجرودي – باريس
 
..كاتيا تواصل ترتيب الكؤوس على الرفوف الخشبية خلفها ، بعد تلميعها بشكل رائق ، وكأنها خلقت لهذا الغرض ، كما تركتها أمس ، ستستمر في ذلك قادم الأيام ، ترتب و تنظف سقف البار الخشبي العتيق ، و تملأ كؤوس زبائنها القادمين من الأحياء الهامشية الفقيرة من عمال و متقاعدين و عاطلين وبعض المومسات اللواتي طعن في السن ، …
على أنغام الجاز الهادئة الساحرة ” أحبك لأسباب عاطفية ” للموسيقار كينغ كول ، كاتيا تملأ كؤوسهم بخفة و همة موصولة بابتسامة خفيفة تسقط بردا و سلاما على أرواح رواد الحانة و على قلوب السكارى ….
سكون اللحظات و العتمة و موسيقى الجاز و رهبة المكان تحسك بالفة و جاذبية ، تنسيك ماضيك ، لحظات تألفها روحك المتعبة بقهر الزمان و الناس ، والغربة التي شوهت اعماقك، هكذا يردد شعبان دائما وهو يعانق كونطوار كاتيا العتيق الذي عانقته آلاف الأيدي قبلك يا شعبان ….أتعلمين يا كاتيا أن الغرباء ترحل أرواحهم قبل أجسامهم !!!
الغرباء كقطع الثلج ، تذوب مع الزمن ، و الوقت !!!
 الغرباء كقطع الثلج في قاع كأس جعة تقدمها غانية مثلك يا كاتيا هاربة من شرق الشرق ، صفراء يسكن الخوف بؤبؤ عينيها .
 الغرباء يا عزيزتي كقطع الشمع في قاع آنية فخار طينها بارد لا رائحة التراب فيه …
الغرباء لا جذور تربطهم بأرواحهم…يموتون ، يموتون مع كل نظرة عين ترمقهم في شارع غريب ، في كل محطة ، في كل مقهى، في كل سوق ، في كل مصنع ، في كل حقل تربته غريبة …او عند السؤال يموتون …
الغرباء في عشقهم يحزنون كثيرا ، و في صلواتهم يبكون بصدق ، و حين يسكرون يبكون…، و حين يرقصون بجنون ، يا عزيزتي كاتي الغرباء :
يعيشون غرباء ، و يموتون غرباء .
كاتيا لا تعير لأغلب كلامه المتقطع المتلعثم أدنى اهتمام ، فشعبان يدرك ذالك تماما فينزل براحة يده الغليظة على الطاولة ، مردفا يقول يا دين الزلط إسمعيني يابت اللذين كفروا ، فتلقي كاتيا ابتسامة صفراء في وجهه قائلة:
Je te le jure j écoute , Je t’entends profondément.”
 فيستمر شعبان قائلا : ذات صباح يا كاتيا قبل استيقاظ الشمس و شروق أشعتها الباردة ، وأنا خارج من هنا ، في المقبرة المجاورة ، وجدت ستيفان عامل البلدية بجرافته يستخرج جثث الموتى من مدافنهم …فقلت له يا إبن اللذين كفروا لمن هذه الأجساد ؟
فرد علي دون أن يتوقف عن الحفر :هي لغرباء ماتوا هنا في هذه البلدية داخل حدود هذه المدينة الملعونة ، ولا نعرف عناوينهم و هوياتهم و لا ذويهم ….وبعد دفنهم بأشهر معدودات محاسب و راعي المقبرة مع محاسب و راعي البلدية و بتنسيق رفيع المستوى ، أستخرج أمره النافذ ، باستخراج هذه الجثث النكرة ،
لأن التربة هنا غالية الثمن ، والأرض لمن دفع ….وتربتنا أولى بأهلها و بموتاها …قلت له و عظامهم يا ستيفان ؟ 
قال لي :
ستحرق لتصبح رمادا وغبارا ، و تعبأ في علب من حديد ، ليذر الغبار في بحر لا قرار له، ألم يخلق الإنسان اول ما خلق من غبار …
توقف شعبان لحظتها متأثرا لما حكاه لكتايا ، في انتظار رد فعلها ، وبحذر شديد لا تدرك كيف تومئ له ، أتحزن أم تبتسم ، إذ فقدت خيط الحكاية ، فأنقدها زبون يود قهوة ليصحو من ثمالته سكرته ، شعبان هذا تقول كاتيا في قرارة نفسها كلما ازداد شربا ، ثرثر كثيرا ، تارة تراه يقهقه ، و أخرى يبكي ، و مرة يصرخ كالمجنون ، وتارة يكلم نفسه بصوت مسموع ، هكذا هو شعبان ،
الحانة حيطانها ا البالية القرمزية اللون فقدت الكثير من بريقها ، على الحائط الأيمن لوحة” غارنيكا” لبيكاسو مائلة إلى اليسار ، قبالتها على الجانب المقابل” الصرخة “لمانخ و أسفلها لوحة ” القبلة” للشهير النمساوي كليمت ولوحات زيتية لفنان مغمور مات يلعن زوجته التي حرمته عشق الفن ، حتى وجدوه منتحرا بإحدى حدائق باريس ذات شتاء قارس.
في حضرة ماء النار و الحياة ، و موسيقى الجاز وابتسامة كاتيا الشرقية الصفراء و لمعان كؤوسها المرتبة ككتيبة عسكرية في تناسق رائق ، وبين صرخة مانخ و قبلة كليمت و لوحة دمار بلدة غارنيكا الإسبانية ، وقف ماشادو البرتغالي الأصل ، الهارب جده من نظام العسكر آنذاك …ماشادو قصير القامة و القدمين ، قال بأعلى صوته : يا فاطمة أيتها القديسة أدعوك باسم يسوع المسيح أن أربح ورقة اللوطو و أرحل بعيدا عن هؤلاء البؤساء و القذارى ….
 
كلما سمع رواد الحانة تذرع ماشادو إلى فاطمة القديسة ، ردو بصوت جهوري جماعة : آمين
في حين شعبان يقفز من مكانه بعد شرب كأسه الخامسة يمص شفته السفلى مقطبا حاجبيه ، مرددا بأعلى حنجرته : اللهم اغفر لنا و له وأنت رب العالمين ، يامنتقم إغفر لنا و له ، بعدد مجرات الكون و بعدد نجوم السماء ، و بعدد آلاف السنين التي أشرقت فيها شمسك و غربت ، و بعدد ضحايا قرابين الموت ، يا حي يا قيوم الذي لا يموت ….
بين صرخة شعبان و صرخة مانخ ، يعم صمت كصمت الكنائس ، لا يكسره إلا عازف الساكسفون و الترومبون و الكلارينيت، و مازاد من رهبة المكان ذاك الضوء الخافت ، حتى لا تكاد تتبين وجوه الناس ، و تستمر أغنية “أحبك لأسباب عاطفية “
 هذا الصمت اللذيذ في العتمة لا يقطعه إلا تناطح كأسي عشيقين في عقدهما الستين وبضع سنين ، و عيونهم شبه ناعسة …
في غفلة من الحانة و ما تحشوه في داخلها من أرواح البشر الذين مروا من هنا ، و صوت المطرب الشجي و آهااته و عازف البيانو ، و صراخ شعبان و دعاء ماشادو … لحظتها و بخطوات متثاقلة دافيد الطويل القامة ، صاحب الكرش و العنق الغليظة ، زعق بلكنة لا هي فرنسية و لا رومانية s ‘il vous plait un euro ميسيو ، تتبعه غجرية ثخنة الوجه ، تعلو وجنتيها سمرة تميل إلى البنفسجي ، تعبر الطاولات مشيرة بسبابتها المتسخة في إشارة انتباه ، و إلى إتجاه صدرها المكور ككومة ثياب مستعملة على أرصفة الأحياء الفقيرة … مستعطفة متمسكنة عاقفة ثغرها الهلالي الشكل ، أما شريكها دافيد الطويل القامة ، فلا يوجد أي انسجام بين أعلاه و أسفله ، يمشي متوجسا ، بخطوات متثاقلة جارا نعليه الصغيرين حيث أصابع قدميه فائضة تمس أرضية الحانة مرددا دون توقف :
S’il vous plaît messieurs
ماشادو بإشارة من يده غامزا بعينه اليمنى ، كاتيا ، بشكل آلي تملأ كأسه مع مربعات الثلج ، وبصوت خافت مبحوح لا يكاد يسمع ،قائلا : آه يا كاتي ، فرنسا مثل عاهرة ذات سمعة و مثل ماركة عالمية تستقبل كل غرباء العالم ..
شعبان وقعت بأذنه آخر كلمات ماشادو وكان لها وقع الصدى … les étrangers du monde وبحركة سريعة يحتسي ما تبقى في كأسه ، طالبا المزيد ، مقطبا حاجبيه ماسكا كأسه الفارغة في انتظار كاتيا ، شعبان هذا وجهه مليئ بالندوب و التجاعيد ، وبعض اللكمات نظرا للحروب التي يخوضها في الميترو أو الباصات ، و الأسواق …مستجمعا ما تبقى له من قوة ، صارخا في وجه ماشادو ، كالمسعور ،موجها خطابه لعامة جمهور الحانة :إسمعوا ماذا قال هذا القزم إبن الكافرة ، أيها اللقيط أكان جدك فرنسيا .حتى تسب الغرباء ، إبلع لسانك و إلا حكيت للناس قصة زوجتك التي خانتك مع صديقك وهربت معه إلى الجنوب حيث الشمس ، و تركتك غارقا في الديون حتى أذنيك …وتركتك تعانق كل ليلة قارورة الخمرة الرخيصة أيها الرخيص ، الغرباء أيها اللعين أشرف منك يعبرون كل المسالك الوعرة من أجل لقمة عيش كريمة ، ولا يتحدثون عن الآخرين لأن همومهم اكبر، لا يتحملها عقلك الصغير أيها الخنزير … ، 
و كلما زعق إبراهيم في وجه ماشادو إلا كاتيا تزيد من صوت الموسيقى ليختلط صراخ إبراهيم وعازف البيانو و صرخة اللوحة التي بدأت في التلاشي …
.مع تهديدها بإبلاغ الشرطة ، لا تفعلها لأنها لا تريد أن تفقد شعبان و و ماشادو و هم من الزبائن الأوفياء ، التي تلتهم نصف راتبهم … وهي تعرفهم سيهدؤون بعد بزوغ اول شعاع للشمس ، حتى يتبين لهم أول خيط اييض في الأفق ، في هذه اللحظات سيدخل موريس الزنجي الأصل قائلا : يا شعبان لماذا تزعق كالحمار فصوتك عال جدا …تعال إلى طاولتي المعتادة ، طواعية إنصاع شعبان لموريس القادم من صحراء إفريقيا و أدغالها … في حين ماشادو رحل إلى غير رجعة عاضا على شفتيه باكيا زوجته الهاربة …. موريس يصعد المنصة الصغيرة في زاوية الحانة ،رافعا يداه إلى السماء بأعلى صوته مخاطبا : 
 أيها الناس، يا أ أصدقائي في محنة الغربة ، الليلة احتفال كولوا واشربوا على حسابي فالليلة سنشرب نخب طلاقي من إفلين اللعينة …وأحفظنا يا ربي من كيد النساء وتب عنا جميعا …و لا تجعل من عظامنا غبارا و لا رمادا ، و احفظنا من جرافة ستيفان 
باريس 26 أبريل 2024
Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات