الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

ورش إصلاح مدونة الأسرة

قراءات وتساؤلات خارج السياق (3)

 

 

 

عبد المولى المروري – كندا

 

 

ثالثا: ما بعد سجال المدونة

وإعادة ترتيب التحالفات

 

مهما كانت الإصلاحات التي ستعرفها مدونة الأسرة، سواء احتفظت بقواعد الشريعة الإسلامية كلها (وهذا أمر مستبعد)، أو غيَّرتها كلها (وهذا أمر مستحيل)، أو حافظت على جزء وغيرت جزءا إرضاء لكل الأطراف (وهذا هو الاحتمال القوي)، فإن هذا الورش الخطير، ورغم أنه ساهم في إلهاء الشعب ولو مؤقتا عن قضاياه الحقيقية والمهمة، فقد أعاد التيار الإسلامي إلى الواجهة بقوة من حيث أرادت الجهات النافذة التي تخطط للدولة العميقة إقباره والتخلص منه، وأعطاه فرصة لم يكن يحلم بها من أجل التواصل المستمر والقوي مع الشعب، مخاطبا فيه ضميره الديني الذي تحاول الدولة تخديره من خلال إعلامها وتعليمها، فما كان إلا أن استفاق الضمير الديني الشعبي على إيقاع مناصرة الشريعة والدفاع عن قيم وهوية الشعب.

 

إن هذا الورش الذي كانت تسعى الدولة من خلاله إلى إلهاء المغاربة، وفي الوقت نفسه تغيير قيمه وهويته وفرض قوانين تستجيب للضغوط الذي تمارسها المنظمات الدولية والمؤسسات المالية المانحة، ومن حيث لا تحتسب، ساهمت في إعادة ترتيب التحالفات على قواعد الهوية والدين والقيم، بعد أن كان من قبل مرتبا على قضايا انتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة حرية التعبير والاعتقالات..

 

إن العمل السياسي الرسمي الذي انخرط فيه حزب العدالة والتنمية بدعم قوي من حركة التوحيد والإصلاح ساهم بشكل كبير في تباعد الهوة بين هذا التيار الإسلامي وبين تيار العدل والإحسان الذي يعاني تضييقا ممنهجا من طرف السلطة، واعتقالات ومحاكمات كان وما يزال أعضاءه وقادته عرضة لها.. ليجد هذا الأخير نفسه مصطفاًّ موضوعيا إلى جانب اليسار الراديكالي على مستوى قضايا الانتهاكات الحقوقية والاعتقالات السياسية.. هذا المجال الذي اختار حزب العدالة والتنمية مع تنظيماته الموازية تجاهله، واستبعاده من حزمة اهتماماته ونضالاته، مع وضع مسافة كبيرة جدا بعيدا عنه تفاديا لأي احتكاك أمني مع الدولة قد يورطه معها في توترات سياسية غير مرغوب فيها..

 

الدولة من خلال ورش إصلاح المدونة قدمت هدية كبيرة لحزب العدالة والتنمية، وأعادته إلى حضنه الطبيعي الذي غاب عنه لعقود، وقد ظهر ذلك جليا في اللقاءات التواصلية والعلمية حول المدونة، توج بتنظيم لقاء أخوي ضم قيادة التنظيمين إلى جانب قيادة حزب الأمة، وهذا تحول عميق وتواصل متجدد كان غائبا لسنوات..

 

كما أن الدولة جمعت تيارين متصارعين سياسيا وأيديولوجيا حول مقترحات تغيير المدونة (وليس إصلاح بعض موادها) التيار اليساري بكل ألوانه وتوجهاته (بتياره الجذري الراديكالي وتياره اليساري المتمخزن)، إلى جانب التيار الليبرالي المتحالف مع المخزن، ففي هذه المرحلة اختفى الصراع السياسي والأيديولوجي بين الغريمين لفائدة القيم الحقوقية «الكونية» المستوردة أو المفروضة من الغرب.. وأصبحا يتكلمان لغة واحدة بتوجه واحد في شأن تغيير المدونة تغييرا جذريا يأتي على قطعيات النصوص الشرعية التي تؤطر المدونة..

 

إضافة إلى ذلك، فقد أعاد هذا الورش إلى المشهد العام صوت العلماء الذي كان غائبا هو الآخر منذ عقود، فرغم أن عدد العلماء الذين بادروا إلى المساهمة في هذا النقاش كان قليلا، ودون المتوقع والمطلوب، إلا أن الشارع المغربي علم أن هناك صوتا قويا مؤثرا يمكن أن يغير المعادلة ويعيد قطار التغيير إلى مساره الصحيح.. ورغم كل حملات التشويه والتشهير والتبخيس والاحتقار التي تعرض لها بعض العلماء والدعاة، وعلى رأسهم العلامة الدكتور مصطفى بنحمزة حفظه الله، إلا أن كلماتهم وتوجيهاتهم وتوضيحاتهم عرفت انتشارا واسعا وتعاطفا كبيرا وتأييدا قويا، واستحسانا منقطع النظير.. ولعمري إن هذا الظهور النوعي رغم قلته قد فاجأ الدولة وصدم التيار «الحداثي»صدمة قوية أفقدت اتزانه وأسفرت عن وجهه القبيح والعدواني، فما كان منه إلا التهجم على العلماء بأقدح النعوت وأشنع الأوصاف.. وكان للدكتور مصطفى بنحمزة النصيب الأوفر منها، وهذا ما يؤكد حجم التأثير الذي أحدثه دفاعه عن الشريعة إعلاميا، وعمق الوجع والألم الذي تسبب فيه للتيار «الحداثي» المسخر دوليا ومخزنيا..

 

وللأسف الشديد، يبقى حضور المثقفين باهتا وضعيفا جدا أمام ما يتعرض له الشعب المغربي من حملات منظمة وممنهجة تستهدف فكره وعقله وقيمه وهويته، هذا الغياب الغريب غير مبرر وغير مفهوم في الوقت نفسه، لأن الشعب يتعرض خلال السنوات الأخيرة إلى أكبر حملات تشويه فكري وانحراف مجتمعي يستهدف الطفل والشاب والمرأة والأسرة.. قد تبدو هذه المعركة هي معركة قوانين فقط، ولكنها في العمق هي معركة قيم وهوية وفكر وثقافة.. وهي مجالات تهم المفكرين والمثقفين على وجه الخصوص، كما تعني المختصين في ميادين علوم الاجتماع والفلسفة والتربية أكثر مما تعني علماء الشريعة.. ولمواجهة حملات التشويه تلك، لابد من تكامل أدوار العالم والمثقف من أجل إنقاذ المجتمع..

 

بطبيعة الحال، فإن الدولة لن تغامر بالاستجابة المتهورة إلى كل مطالب المنظمات والمؤسسات الدولية التي تم اقتراحها والدفاع عنها بلسان «الحداثيين» المغاربة ضدا على إرادة الشعب أو خروجا عن نصائح العلماء، لأن ذلك قد يمس عمق مؤسسة إمارة المؤمنين، وربما يقوض عقد البيعة الشرعية في روحه ومضمونه ومقاصده، فضلا عن تعارضه الواضح مع الدستور في دباجته وبعض فصوله. وفي الوقت نفسه لا يمكن للدولة أن تغضب هذه المؤسسات المالية المانحة التي تُقرض الدولة مقابل شروط تستهدف المنظومة القيمية والقانونية للدولة وهوية الشعب، لذلك فهي ستبحث عن مخرج ثالث يخرجها من مأزقها ويرضي كل الأطراف، ولو بنسبة ضعيفة.

 

الحل الثالث إذا لم يتم التعامل معه بحكمة وذكاء قد يساهم في تباعد الهوة بين تيارات الحركة الإسلامية بعد استعادة علاقة التنسيق والتعاون حول موضوع استهداف قطعيات القرآن وهوية الشعب المغربي.. وربما يتوسع ذلك التنسيق إلى قضايا أشمل وأوسع.. لذلك عليهم أن يدركوا خطورة وحساسية المرحلة التي يمر منها المغرب، حيث يراد له الذوبان ثقافيا في المنظومة الغربية، واقتصاديا الارتهان الدائم إلى المؤسسات المالية المانحة في ظل فساد مالي واقتصادي يرهق المواطن، وسياسيا في اتجاه ترسيخ الاستبداد، واستراتيجيا التخطيط لفرض تحالف صهيوني/مغربي يغطي جميع مجالات البلد..

 

وربما ما يزيد من حرج الدولة كون هذا الورش فُتح في عهد حكومة مغضوب عليها شعبيا، وتعرف سخطا شعبيا واسعا لم يشهد المغرب له مثيلا منذ الاستقلال، ومن جميع الطبقات الاجتماعية.. بسبب اختياراتها الليبرالية المتوحشة التي أجهزت على القدرة الشرائية للشعب وانتهكت حقوقه الاقتصادية والاجتماعية ببشاعة، إلى جانب جملة من التصريحات المستفزة الذي أدلى بها بعض وزراء الحكومة وعلى رأسهم وزيرها في العدل، إضافة إلى وفاء الدولة لمنهج التطبيع مع الصهاينة في ظل ارتكابه لجرائم إبادة وتقتيل وتجويع لأهل غزة.. الأمر الذي من المتوقع أن يدفع الشارع المغربي إلى أخذ موقف التحفظ والرفض لكل ما سيأتي من إصلاحات عن طريق هذه الحكومة المنبوذة والمكروهة شعبيا وجماهيريا..

 

هذه معطيات ووقائع تفرض نفسها على وجدان الشعب المغربي وتؤثر في مواقفه واختياراته.. ولا شك في أن الشعب في الوقت الراهن غاضب جدا بسبب اختيارات الدولة وحكومتها، سواء تعلق الأمر بالجانب الاقتصادي أو الاجتماعي، أو بتطبيع الدولة مع الصهاينة، ومن المحتمل أن يكون لذلك إسقاط مباشر على موقفه من اختيارات الدولة في موضوع إصلاحات المدونة.. والأيام المقبلة كفيلة بإماطة اللثام عن مستور الدولة، ومواقف كل التيارات، واتجاه حركة الشعب..

 

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات