الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

انتظار المثقف الملائكي

 في زمن التفاهة

 

 

 

عبد المولى المروري- كندا

 

 

 

اختفاء المثقف عن مسرح الأحداث بالمغرب أصبح حقيقة ثابتة وواقعا لا تخطئه العين، اختفاء ساهمت فيه العديد من الأسباب الموضوعية والذاتية، الأمر الذي جعل المشهد الإعلامي والثقافي عبارة عن سرك مفتوح للعموم لممارسة الألعاب البهلوانية المضحكة، وفضاء لترويض الحيوانات، وممارسة حركات السحر وخفة الأيدي.. حتى اختلط الحابل بالنابل، والدهماء بالرعاع، والأراذل بالغوغاء.. إنه زمن التفاهة بامتياز وبلا منازع.

 

وكي نكون منصفين في حق بعض المثقفين الملتزمين، ودون أن نتجنى عليهم، مع محاولة تفهم موقفهم هذا، يمكن أن نطرح السؤال التالي: ألا يمكن أن يكون هذا الواقع المخيف المتميز بالإسفاف والابتذال والتفاهة أحد الأسباب التي دفعت بجمهور المثقفين الملتزمين إلى إخلاء الساحة، حتى لا يتلوثوا بنفايات المنتوج الإعلامي الآسن والمحتوى الثقافي المتعفن الذي ملأ سماء المغرب وأرضه، واختلط بهوائه ومائه..؟

 

ولكن في الوقت نفسه، هل يعتبر ذلك مبررا معقولا ومقبولا من أجل إخلاء الساحة ليرتع فيها أشباه المثقفين وحثالة الإعلاميين بكل حرية وأريحية؟

 

في الواقع لم يعد المشهد الإعلامي والثقافي المغربي مغريا أو مشجعا بما يكفي من أجل المساهمة فيه بمنتوج ثقافي وفكري بجودة عالية، والمشاركة أو المبادرة في نقاشات عمومية جادة أو مرتفعة أو مفيدة أمام تلك النقاشات التافهة والساقطة التي أصبحت هي المهيمنة والمستحوذة عليه الآن، لأن مضامينها جوفاء، ومسارتها معوجة، ومستوياتها متدنية، أما شخوصها فجلهم من فصيلة الرويبضة الكبار، بلا فكر يرفعهم، ولا رأي يميزهم، ولا أخلاق تضبطهم، ولا ضمير يؤنبهم..

 

واقع ثقافي وإعلامي مغرق في البؤس الفكري والانحدار الأخلاقي فرض على المثقف الانسحاب منه مكرها وبلا رجعة، والفرار منه بلا تردد بحثا عن سلامته وحفاظا على سمعته وكرامته..

 

فالقوم الذين هيمنوا واستولوا على المشهد الإعلامي والثقافي، الذي أطلقت عليهم اسم “نخب الدولة الجديدة”، لا يرقبون ـ عادة ـ في مثقف ملتزم إلا ولا ذمة، ولا يحفظون له كرامة ولا اعتبارا عندما يجازف هذا المثقف بتناول بعض القضايا المزعجة والحارقة سياسيا وأمنيا، فألسنة أولئك القوم طويلة في نهش أعراض الناس، وأفواههم مشرعة لأكل لحومهم، ومنابرهم مفتوحة لنشر الأكاذيب والأباطيل ضد كل من سولت له نفسه الخوض في بعض القضايا الحقيقية والمواضيع المحرجة والخطيرة التي قد تسبب إزعاجا وغضبا لبعض الجهات النافذة في الدولة..

 

للأسف الشديد، والخطير في الأمر أنه أصبح من السهل أن يتم رمي أي أحد من المثقفين الملتزمين والمغضوب عليهم بفرية أو بهتان، أو اتهامه بجريمة مفتعلة، تجعله منشغلا بتبرئة نفسه أمام الرأي العام والقضاء بدل الانشغال بالقضايا الحقيقية التي تلامس هموم الشعب ومشاكله بمنسوب مرتفع من النضج والشجاعة والرصانة..

 

ففي زمن التفاهة أصبح الخوض في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، والظلم الاجتماعي، والفساد الاقتصادي، والاستبداد السياسي، والتطبيع مع الكيان، ومساندة المقاومة، بمقاربة نقدية ومنهجية موضوعية خارج مقاربة الدولة العميقة ومنهجيتها وأهدافها يعتبر مغامرة محفوفة بمخاطر أمنية وحملات تشهيرية ممنهجة، قد تلقي بصاحبها في مشرحة التشهير والسب والشتم والقذف، وكل أشكال التسفيه والعنف اللفظي دون قيود أو حدود.. بل قد تجعله موضوع ملاحقات أمنية ومتابعات قضائية ومضايقات مالية.. وأمام عينه نماذج وأمثلة حية انتهى بهم الأمر إلى نهايات مأساوية وأليمة بسبب شجاعتهم وجرأتهم الفكرية والسياسية.. تجعله يفكر ألف مرة قبل أن يجازف بسمعته وكرامته، وربما بحريته..

 

واقع موبوء مثل هذا يجعل المثقف خائفا على كرامته وسمعته، مؤثرا سلامته وحريته عن طريق الاحتماء بالصمت والابتعاد عن بؤر التوتر والقضايا المزعة. وحتى إذا حمله الشوق والحنين إلى الكتابة والمشاركة الثقافية، فإنه لا يخرج عن الإطارات المحددة، والحدود المسطرة، والسقف المنخفض، وتناول القضايا الثقافية والفكرية الناعمة والهادئة، فتجده يتحدث عن القيم الجمالية والتنوع في الفن الإفريقي وعلاقته بالمغرب، أو الأبعاد السيميائية في فن العيطة وصراعه مع الاستعمار، أو البعد الثوري في فن ناس الغيوان، أو تلاقح ثقافات البحر الأبيض المتوسط ومركزية المغرب.. وحتى إذا جازف قليلا وأراد التعبير عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، فإنه يتناول السردية التاريخية المكررة، أو عدد القرارات الأممية التي لم يحترمها الكيان المحتل، وحتى إذا غامر أكثر وأراد أن يناقش قضية سياسية محلية، فإنه يتحدث عن الجهوية الموسعة، أو دور الحكامة والتنمية المستدامة في بناء مغرب الغد وغيرها من القضايا الناعمة.

 

المهم، يمكن للمثقف أن يتناول أي موضوع أو قضية، إلا تلك التي تجعله مهددا في سمعته أو كرامته، أو موارده، أو حريته.. وهذا ما انتهى إليه جل مثقفي المغرب في هذا العهد الرديء، خوف ورعب، انسحاب وتراجع عن ممارسة دوره الثقافي العضوي في المجتمع، والمساهمة في رفع وعي الجماهير إلى المستويات الفكرية والثقافية والسياسية كبيرة، ومساعدتهم على الرقي والنضج والحركة، وبالتالي فرض خياراته والدفاع عن مصالحه بطريقة أكثر وعيا وتقدما..

 

ربما قد ألتمس لهم بعض العذر، فلا يوجد ما هو أفظع من سياسات الفضح والتشهير التي تنتهجها بعض جهات الدولة العميقة في حق بعض السياسيين والمثقفين والحقوقيين، باستعمال أسلحتها الفتاكة، من أذرع إعلامية، ومواقع إلكترونية، ومنصات اجتماعية، حيث تستهدف هذه الوسائل ـ التي تعد بالعشرات ـ الشخص الضحية، وتعمل بلا رحمة أو شفقة، وبلا أخلاق أو ضمير على الفتك به أمنيا واجتماعيا، والتشهير به إعلاميا، مع اختلاق أكاذيب في منتهى الخطورة، والترويج لها على أوسع نطاق حتى يتم استهلاكها بين العموم، وبذلك يتم الإطاحة به من أعين متابعيه، واغتياله رمزيا، فينهار ذلك الرصيد الفكري والثقافي والنضالي الذي راكمه خلال سنوات أو عقود من التعب والجهد المضني، والعمل الفكري والنضال الميداني.. بإشاعة واحدة كاذبة، أو جريمة مصطنعة، أو شكاية كيدية تتلقفها وتنشرها المنصات والمواقع المسخرة لهذا الغرض الدنيء.. وهذا المآل هو أخوف ما يخافه كل مثقف أو سياسي أو حقوقي.. فيؤثر السلامة على المغامرة، ويفضل الانسحاب على المواجهة..

 

فهل يجب أن يكون المثقف بلا قلب حتى لا يخاف التهديد، وبلا أخطاء كي لا يتعرض للتشهير والفضح؟ وهل يجب أن يرتفع إلى منزلة الملائكة الأطهار الذي خلقهم الله معصومين من كل خطيئة، مبرئين من كل ذنب أو عيب؟ هل يجب أن يصبح المثقف ملاكا طاهرا حتى يسلم من التشهير والفضح، وبذلك يستطيع ولوج القضايا الحارقة ويتناول المواضيع الشائكة؟

 

هذا الواقع المأساوي دفعني بقوة إلى النظر بعمق فيما تعرض له السابقون من العلماء والمفكرين والمثقفين عبر الزمن، دون الأنبياء والرسل، بدءا من فلاسفة الإغريق، مرورا بالعلماء والفلاسفة المسلمين، ومثقفي وفلاسفة عصر النهضة الأوربية، وانتهاء بالعصر الحديث والمعاصر.. فوجدت أنه لم تخل حقبة أو مرحلة في هذه الرحلة الطويلة من حالات المطاردة والتعذيب والتشهير والقتل، كان ضحاياها علماء ومثقفون ومفكرون وفلاسفة..

 

لقد وثق التاريخ كيف حوكم سقراط ظلما وأعدم بطريقة مأساوية، ولماذا بيع أفلاطون كعبد لأحد الأغنياء، وكيف انتهت حياة أرسطو، وكيف عذب الإمام مالك بن والإمام أحمد بن حنبل، وكيف انتهت حياة الإمام البخاري منبوذا في أزقة سمرقند، وتعذيب أبي العلاء المعري، ومقتل عبد الله بن المقفع، وانتهاء حياة أبي الكيمياء العالم جابر بن حيان، وكيف مات شيخ الإسلام ابن تيمية في سجن القلعة بدمشق، كيف خضع جاليليو لمحاكمة ظالمة بسبب نظرياته، والمحنة التي تعرض له الفيلسوف ابن رشد في آخر حياته بنفيه وحرق كتبه، وسيد قطب، وباقر الصدر، والمهدي بن بركة واللائحة طويلة وطويلة جدا لأولئك العلماء والمثقفين والعلماء والمصلحين الذي ضحوا بحياتهم وحرياتهم وامتيازاتهم من أجل مبادئهم وأفكارهم دون جبن أو خوف أو وجل..

 

لماذا قدم هؤلاء العباقرة كل هذه التضحيات التي وثقها التاريخ إلى يومنا هذا؟ وأين أمثال هؤلاء في زمن التفاهة؟ ومن سيقاوم هذا التوجه الخطير؟ وكيف سيتم القضاء على الإسفاف الإعلامي والتفاهة الثقافية إن لم يكن بعلماء أجلاء، ومفكرين عظام، ومثقفين كبار، القاسم بينهم جميعا هي الشجاعة والجرأة والقوة، مهما كلفهم ذلك، مثل السابقين الذي ما يزال التاريخ يحتفظ لنا بأمجادهم وبطولاتهم العلمية وتضحياتهم الخالدة..

 

من المخجل جدا أن ينتظر هذا الواقع الموبوء التافه مثقفين من جنس الملائكة الأطهار حتى يتم تغييره واستبداله بواقع ثقافي آخر يرفع من وعي الشعب، ويرتقي بفكره، ويسمو بأخلاقه، ومن العيب أن تتوارى نخبة المجتمع من علماء ومفكرين ومثقفين وإعلاميين إلى الوراء خشية على سمعتهم من تافهين سيطروا على الإعلام، ويخافون على حريتهم من متابعات كيدية باطلة، ومن العار أن ينشغلوا بامتيازاتهم ومصالحهم ومناصبهم عن قضايا المجتمع والشعب، فهذا مخالف لرسالتهم الأخلاقية، ومناف لقيم العلم ونبل الثقافة.. فمتى تعود النخبة الجادة إلى مهامها في مسرح الحياة تأسيا بالسابقين؟

 

 

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات