الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

عمر بنجلون يقود عساكره القراء…ويهبط من فوق السحب ليصحح خارطة الأشياء

في الذكرى 48 لاغتيال الشهيد عمر بن جلون

 

 

عبد الكريم أوشاشا/المغرب

 

عمر المتعدد

 

تقدم لنا قصيدة الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي “يستطيع ابن جلون أن ينهض الآن ” بورتريه (Portrait) متكامل لشخصية الشهيد عمر بنجلون المتعددة، بكل أبعادها النضالية، فليس من الغريب أن تبدأ القصيدة، قبل كل شيء، بالإرث النضالي والكفاحي الذي تركه الشهيد المهدي بن بركة ، والذي يعتبر عمر بن جلون هو الوريث الشرعي والحقيقي له،ثم البعد القومي الحاضر بقوة من خلال القضية الفلسطينية، وتخاذل الأنظمة العربية وتبعيتها وبيعها لأوطانها ولشعوبها ليرتع فيها “البقر الوحشي والطاووس ” حسب معجم القصيدة وهي كناية للغرب الإمبريالي والصهيونية.

 

كما تبرز لنا القصيدة في قولها ” وأراه يقود عساكره القراء ويهبط من فوق السحب ليصحح خارطة الأشياء …” الجانب الفكري المستنير في كتابات الشهيد عمر بصفته صحافيا ومحاميا ونقابيا وحزبيا منخرطا بقوة وبشراسة في معركة التغيير ضد ما يسميه دائما وأبدا وبدون مواربة، النظام الفيودالي ، بمعنى أنه نظام قادم من القرون الوسطى..

 

 

 

 

فالشهيد عمر بن جلون تنطبق عليه المقولة المستمدة من عنوان إحدى دواوين الشاعر الكبير أدونيس ” مفرد بصيغة الجمع ” .

لكنه جمع غير منفصل، جمع متكامل، ففي كل المعارك التي خاضها- رغم القمع الوحشي المزدوج الذي تعرض له، من الاتجاه البورصوي، أو من النظام المخزني العتيق في السجون والأقبية السرية.

 

ناهيك عن القمع الرمزي والنفسي من رقابة يومية وخنق للأنفاس وتهديد ومحاولة اغتيال مباشرة – واقعة الطرد البريدي الملغوم الذي توصل به في ليلة عيد الأضحى، عام 1973- لأن النظام المغربي كان يعتبر عمر بنجلون عائقا حقيقيا أمام عميلة تطويع حزب الاتحاد لضبط استقراره…

 

معارك مستمرة ومفتوحة :

 

ففي كل المعارك التي خاضها: سواء على المستوى النقابي: وهو أول من قام بتشخيص للعمل النقابي تشخيصا جريئا، وعمل على تفكيك آليات بيروقراطية الوضع النقابي داخل الاتحاد المغربي للشغل المتمركزة أساسا على شخصية الزعيم المحجوب بن الصديق المتخاذل أمام الاعتقالات التي طالت مناضلي النقابة سنة 1963، والذي وصفه عمر بدون تردد بأنه عدو الحركة التقدمية المندس، بخداعه ومواربته من أجل فصل الحركة النقابية عن محيطها السياسي، وعن معركة النضال من أجل الديمقراطية والعدالة والكرامة. وجعل النقابة في خدمة البيروقراطية (كما قال الفقيد الكبير أحمد بنجلون)، ورهينة لأهوائها الكسيحة .. وأنه بذلك كان يهدف إلى إضعاف ليس فقط الحركة النقابية المغربية بل والافريقية أيضا.

 

معركته الصحافية : من خلال ما كان يكتبه في زاويته “بكل صراحة” بجريدة المحرر التي يعتبرها مدرسة في الفكر والكفاح والنضال والعمل الجماعي وتمرين في الديمقراطية والاختلاف؛ فقبل الشروع في إعداد العدد المقبل من الجريدة، يقوم هو وفريقه الصحفي على قراءة نقدية لكل مواد العدد السابق بكل ديمقراطية وحرية يغيب فيها الرئيس والمرؤوس.

مقاربته حول قضية الصحراء المغربية: التي كان ‬يربطها دائما وأبدا ‭ ‬برباط وثيق بقضايا‭ ‬الديمقراطية، بروح وحدوية تنشد تصفية‭ ‬الأجواء‭ ‬السياسية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إطلاق‭ ‬سراح‭ ‬المعتقلين‭ ‬السياسيين‭ ‬وعودة‭ ‬المنفيين‭ ‬وانتخاب‭ ‬مجلس‭ ‬تأسيسي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬دستور‭ ‬ديمقراطي‭ ‬وبرنامج‭ ‬استعجالي‭ ‬اقتصادي‭ ‬واجتماعي.. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

 

رهاناته السياسية حول الشباب المغربي : الذي ينطر إليه كغيره من الشباب في باقي مناطق العالم ينفر من الغموض والتعقيدات، ويعيش عطشا وقلقا مستمرا، بحثا عن التماسك الإيديولوجي، والذي يؤدي به تعبيرا عن خيبة الأمل إلى تقليد النماذج المتطرفة يسارا أو يمينا …

أما القضية الفلسطينية : خاصة ورقته “سلوك أطرنا تجاه المشكل الفلسطيني”، التي نشرها سنة 1969 باللغة الفرنسية في أحد أعداد مجلة “أنفاس”، في ملف خاص بعنوان “من أجل الثورة الفلسطينية”، هي قضية مركزية في الصراع الذي تخوضه حركات التحرر الوطني والتي أنشأ من أجلها الشهيد عمر مجلة “فلسطين” وذلك لأنه يرى بأن الشعب الفلسطيني البطل قد مَرَّ بمرحلة إضافية من النضال والتضحيات بالنسبة إلى جميع حركات التحرر الوطني .

 

ثم معركته التنظيمية : داخل الحزب (بدءا من المذكرة التنظيمية 1965) ومجابهته سواء للقيادة الانتهازية التي تتفاوض مع القصر من تحت الطاولة التي كان يقول لها بسخريته المعهودة التي لا يتقنها إلا هو : إن‭ ‬كنتم‭ ‬مستعدين‭ ‬لإنزال‭ ‬ـ‭ ‬سراويلكم‭ ‬ـ‭ ‬فأنا‭ ‬غير‭ ‬مستعد‭ ‬لذلك‭ ‬سواء‭ ‬بالقوة‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬طيب‭ ‬خاطر‭.‬‭”‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬،

أو القيادة البلانكية المغامراتية الرومانسية التي دخلت في معارك قال عنها ” بأنها تجارب بدائية تنقصها المنهجية والكفاءة والتي تسببت في سقوط ضحايا دون أن تزعج قطا “.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

 

الثقافة سلاح لمحاربة الغموض والتضليل :

 

كان عمر طيلة حياته يحارب الغموض والتشويش والتعمية، وقد تضمن التقرير الإيديولوجي الشهير لسنة 1975 أفكارا مركزية من إبداعه تطالب بالتوضيح والوضوح الإيديولوجي، وباعتماد اشتراكية علمية غير مستوردة قادرة على تحليل المجتمع المغربي بخصوصياته؛ قوة أفكاره وصدقيتها دفعت الحزب إلى تغيير اسمه من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.

 

وكانت الراية الايدولوجية والخندق الثقافي، عصب هذه المعارك جميعها؛ مواجها بقلمه ولسانه وجسده وروحه كل الالتباسات والتضليلات الايدولوجية والحقائق الزائفة وكشفه لنتائجها على سلوك المناضلين قيادة وقواعد، وخاصة المثقفين والأطر ضحاياها بما فيهم “مثقفي شمال إفريقيا الذين كَوَّنتهم المدرسة الرأسمالية الاستعمارية الفرنسية.”

 

فالمشكل الفلسطيني مثلا ضلل الفيلسوف الفرنسي الكبير الذي رفض جائزة نوبل، والذي كان في الأمس القريب مناهضا للاستعمار الجزائري ومساندا لضحايا الامبريالية في الفيتنام، لكن جون بول سارتر نتيجة عناصر الالتباس والتشويه، أصبح يدافع عن إسرائيل وعن سياسة موشي ديان.

 

وهو نفس ما ذهب إليه مقال ساخر للمفكر النقدي الكبير الفلسطيني إدوارد سعيد نشرته صحيفة الأهرام المصرية في أبريل 2000، عن لقائه مع فوكو ومع جان بول سارتر، في مارس 1979، وكان قد دُعي لحضور ندوة حول السلام في الشرق الأوسط التي كان من المقرر عقدها في شقة ميشيل فوكو، وكان سارتر تحت تأثير (Benny Levy) الملقب ب (Pierre Victor) غير قادر على أي تحليل نقدي للسياسة الإسرائيلية…

فعدم القدرة على عولمة نقد الاستعمار الآتية من عند فوكو وخاصة سارتر هي مثبطة ومروعة ومخيبة للآمال؛ فخارج هذه المركزية الأوروبية، لا يتصور هؤلاء أية إمكانية للجماعات المضطهدة أن تحرر نفسها.

 

عمر بنجلون مفكر جذري من فلسفة الأنوار

 

فعمر بنجلون هنا بعقله النافذ النقدي المتحرك يرفض القوالب الجاهزة سواء تلك القادمة من باريس أو تلك التي تسقط من سماء موسكو، أو المنبعثة من الماضي السحيق، ما هي إلا دوغمائيات متحجرة محايثة لنظم الطغيان والاستبداد ولقيم الخنوع والعبودية. وتحليله لنظام الاستعمار القديم الجديد ومخلفاته الوخيمة على الشعوب مع سبر كل الأغوار والطرق والشروط الممكنة للتحرير من التضليل؛ والتزامه النضالي والفكري بتفكيك الحضور الثقافي والإيديولوجي للاستعمار الجديد والصهيونية؛ إن الصهيونية في نظره قامت بعملية تسميم مستفيدة من الوجود الاستعماري الجديد ونتائجه المباشرة. في كل هذا يكمن عمق انتماء عمر بنجلون في علاقته مع فكر فرانز فانون وتشومسكي وإدوارد سعيد.. وآخرون.. إنهم أولئك الذين ساهموا في “إنتاج لغة ذهنية مشتركة”.

 

إنه بسعة أفقه، ومواجهته للأزمنة المظلمة وللجحود والنكران، وقيود الاستلاب، وسعيه الدؤوب من أجل ثورة ثقافية عقلانية متنورة يندرج وينتمي فكره إلى فلسفة الأنوار؛ فهو مثل غرامشي في تصوره للصراع الطبقي الذي يراه كحرب مواقع مريرة ومعقدة، تجري على مدى طويل وتتطلب بناء هيمنة بديلة عن هيمنة الطبقة المسيطرة.

 

فمساهمة عمر بنجلون في الارث الاشتراكي المتمثلة في إرساء استراتيجية النضال الديمقراطي هي مساهمة جريئة وغير مسبوقة في زمانها وتمثل تجديدا خلاّقا ووفيا للماركسية. هي فعلا فلسفة ممارسة متحررة من كل عنصر إيديولوجي أحادي، ورفضا للنظرة الحتمية للتاريخ.

 

في الحاجة اليوم إلى فكر وممارسة عمر بنجلون

 

كان يحب الحياة ويحب الناس وعاش حياته المتوهجة القصيرة الصاعقة بين الجماهير الشعبية، بتواضع العظماء.

بتواضع لا مثيل له، ولكن بصلابة وإرادة قوية واقفا كالأشجار. منحازا انحيازا كاملا للطبقة العاملة وللطبقات المهمشة والنضال بين صفوفها من أجل تحريرها روحا وجسدا من الاستغلال ومن الفكر الخرافي والأسطوري، وقد قدم حياته ثمنا لذلك..؛

 

نحن اليوم في أمس الحاجة إلى فكر عمر وإلى نضالية عمر وإلى صدقية عمر أكثر من أي وقت مضى؛ بعد هذا الانهيار القيمي الكبير والتزييف للعمل الحزبي والسياسي في عصر يعمه الغموض واللا يقين والتضليل والالتباس.. نحن في الحاجة إلى شجاعة عمر وجسارة عمر لخلق جديد في التنظيم يقطع مع كل النماذج الطوطمية المقدسة والمراسيم المتخشبة العتيقة التي أدت بتنظيماتنا اليسارية إلى الجدار، ووزعت اليأس والاحباط في القلوب تارة باسم المركزية الديمقراطية وتارة باسم المرحلة ومقتضياتها؛ نحن في الحاجة إلى ذكاء عمر وإلى نباهة عمر لتكوين أطر فكرية وثقافية متحركة تخلق الحدث تقضي على الخمول والاستكانة الذهنية، وتربط الفكر بالممارسة، والممارسة بالفكر، نحن في الحاجة إلى عزيمة عمر وسخرية عمر وتواضع وديمقراطية عمر لضخ دماء شابة جديدة تبعث الصحة والعافية والقوة في عروقنا المنهكة الشائخة.

 

فهل يمكن أن تكون هناك سياسة تحررية بدون طرق وأشكال ديمقراطية لممارسة السياسة؟

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات