صراع الوعي والتدجين
سيرورة وصيرورة
عبد المولى المروري – كندا
أعتبر أن أخطر المهام التي يمكن أن يضطلع بها أي عالم أو مثقف أو حقوقي.. صادق وشريف ومهموم هي نشر الوعي بين الناس والجماهير المدجنة.. فتلك مغامرة محفوفة بكل أنواع المخاطر والمهالك، ورسالة مطوقة بكل أنواع المكائد والمصائب، رغم نبل الرسالة وصدق أصحابها.. لأن نشر الوعي هي عملية تستهدف الإنسان من خلال أبعاده المتعددة، العقل والروح والوجدان، والجوارح.. في مواجهة سلطوية مستبدة، وواقع سياسي غارق في الانسداد والاستبداد، ووضع اجتماعي مسكون بالظلم والفساد..
فالوعي يساعد العقل على الفهم والتحليل والفكر، ومن تم اتخاذ مواقف مبنية على فهم سليم للواقع، وفكر ناضج قادر على التحليل.. والوعي يطهر الروح من درن المادة ومتعلقات الحياة التافهة، ويرتفع بها إلى السمو والتعفف والاستغناء.. ويزرع في الوجدان معاني الإباء والعزة والكرامة، والتفاعل الجاد مع قضايا الأمة في مناشطها ومكارهها، في سراءها وضراءها.. ويدفع الجوارح إلى الحركة والفعل والتأثير في الواقع والناس.. وهذا أخطر ما تتخوف منه الأنظمة الاستبدادية..
وهذا ما يفسر انزعاج الأنظمة الاستبدادية والسلطوية عبر التاريخ من أي عمل يهدف إلى نشر الوعي بين الجماهير، فتعمل على مضايقته ومطاردة حملة رسالته.. وملاحقتهم والتضييق عليهم بكل وسيلة تمنع انتشار فكرهم وتأثيرهم على الناس.. فلم تكن رسالات الأنبياء إلا شكلا من أشكال نشر الوعي بين الناس، وتحريرهم من الأفكار الوثنية والمعتقدات الخرافية، وتحرير الناس من رق العبودية لغير لله، وكذا من أسر الطغاة والمستبدين، ونشر الفضيلة، وإقامة العدل .. فأي حركة تهدف إلى نشر الوعي إلا وتهدد عروش المستبدين، وتهدد مصالحهم المتسترة تحت الحفاظ على الاستقرار وحماية العامة من “دجل” هؤلاء الأنبياء التي تستهدف إثارة “الفتن”.. فمن صراع قابيل وهابيل، وصراع ابراهيم عليه السلام مع قومه، وصراع لوط عليه السلام مع عشيرته، وصراع موسى عليه السلام مع فرعون.. إلى صراع محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، ما هو إلا صراع دائم وسيرورة مستمرة بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين القسط والطغيان، بين الخير والشر.. إلى قيام الساعة..
وكذلك كان دأب حواريي الأنبياء وأتباعهم والعلماء من بعدهم، وكل المفكرين والزعماء الذين عرفهم التاريخ.. فمنهم من قُتِل، ومنهم من عُذب، ومنهم من سُجن، ومنهم من طُرد، ومنهم من فرَّ أو هاجر ..
وهذا ما يفسر تخوف العامة من أي فكر تجديدي ووعي استنهاضي.. حفاظا على الواقع بكل مساوئه وعِلّاته، وإيثارا للاستقرار على ما به من ذل وفقر وظلم على مستقبل مجهول قد يستدعي تضحيات جسام لا قِبَل لهم بها. فبالنسبة إلى هؤلاء، استقرار مع ذل، وحياة مع فقر، ونظام تحت الظلم والطغيان أهون من حرية قد تتطلب سجنا، وعدالة اجتماعية قد تكلف تضحية، وكرامة قد تستدعي مقاومة ومواجهة، وهذا راجع إلى انخفاض منسوب الوعي الذي استأنست به العامة، وتسببت فيه الأنظمة الاستبدادية، وسعت إلى ترسيخه ووضع الجماهير تحت وطأته..
وفي «سيرورة» نشر الوعي، قد يكون من أشد مناهضيه هم العامة أنفسهم، مدفوعين – بغير وعي منهم – من طرف الأنظمة التي تضعهم في الصفوف الأمامية للمواجهة، وفي خط الدفاع الأول ضد من يسعى إلى إنقاذهم من الجهل والظلم والاستغلال.. وهذا من أغرب المحن وأعجبها التي تعترض طريق الأنبياء والمصلحين والمفكرين والزعماء.. ويبقى ذلك من أصعب سنن التغيير وأشدها إيلامًا على ناشري الوعي.. لأن أخطر عدو هو الجهل.. فالإنسان إذا جهل شيئا عاداه.. والجهل ليس عدوا للمجتمع ودعاة الإصلاح فحسب، بل إنه عدو لصاحبه أيضا.. ألم يقل بنو إسرائيل لموسى عليه السلام كما بين ذلك القرآن الكريم: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾..
فمعركة نشر الوعي هي في الوقت نفسه معركة محاربة الجهل.. ذلك الجهل الذي عشش وعشعش في عقل ووجدان وروح ذلك الشخص المراد إنقاذه، وإعادته من جديد إلى حياة قائمة على وعي مرتفع وفكر نير وروح طاهرة وجوارح متحركة .. فهذه «الصيرورة» والانتقال من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع تعرف أحيانا مقاومة عنيفة من طرف من يجهل فضلها وفائدتها، وبسبب الجهل تتعطل حركة الجماهير المدجنة نحو الخير والإصلاح والحرية، وتنحرف صيرورتها، وتنطلق حركتهم في اتجاه مقاومة ما ينفعهم ويصلح حالهم، فتقاوم كل جديد وإن كان مفيدا، مندفعة بالجهل من جهة، ومدفوعة ومدعومة من الأنظمة الاستبدادية من جهة أخرى..
وهذا ما يفسر – أيضا – انضمام بعض المثقفين والعلماء والمفكرين والسياسيين.. إلى جوقة المطبلين للأنظمة الاستبدادية، تأصيلا لبرامجهم الفاشلة، وتبريرا لمواقفهم المخزية، ودعما لمشاريعهم الظالمة، أو على الأقل التزامهم الصمت، أو الانحياز إلى الحياد المرصع بالجبن والمزين بالتملق.. لأن مهمة نشر الوعي مجلبة للمحن، ومصدر كل الفتن، ومهددة للحياة الناعمة، بل وتأتي على الحرية الهانية.. فهناك مصالح يجب حمايتها، ومنافع يجب تحصيلها، ومخاطر يحسن تجنبها، ومهالك يُحمد درؤها.. والاكتفاء بالهامش من القضايا، والتافه من المهام.. فلا جهلا حاربوا، ولا ظلما قاوموا، لا وعيا نشروا.. فكانوا عبئا على الشعب، سندا للاستبداد، أعداء لكل حركة تغيير نبيلة، أو رسالة وعي سامية.. يحاربون بأسلحة العلماء والمثقفين.. من أجل أهداف تخدم الاستبداد وتُجهِّل العباد.. بشكل يعطل اتجاه السيرورة، ويحرف معنى الصيرورة.. وهذا ما جسده هامان الوزير مع فرعون، وحققه الحجاج بن يوسف الثقفي في زمن خلفاء بني أمية مع سعيد بن جبير وغيره، وأبدع فيه رأس الفتنة قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد مع إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل في زمن الملكين العباسيين المعتصم والواثق.. ولم يسلم من ذلك الإمام البخاري الذي مات منفيا على أطراف المدينة، ولا ابن خلدون، ولا ابن رشد مع علماء ومثقفي زمانهم.. وما تزال هذه النماذج حاضرة في زماننا هذا، وفيهم العلماء والمثقفون والإعلاميون..
إن هذا النوع من النخب المزيفة تضعها الأنظمة الاستبدادية خلف الجماهير المدجنة مباشرة، حتى إذا تمكن دعاة الحرية والإصلاح ونشر الوعي من اختراق خط الدفاع الأول من تلك الجماهير المدجنة، واستطاعوا التأثير على نسبة منها بنشر الحق والوعي في أوساطها، وجدوا أمامهم النخبة المثقفة المتملقة، تتهم نواياهم، وتشكك في أهدافهم، وتزاحمهم منابرهم ومواقعهم، ويماثلونهم في ملابسهم وأشكالهم، منطلقين من مراجعهم ذاتها، ومستعملين لغتهم وخطاباتهم عينها، للمزيد من التضليل ونشر اللبس والارتباك في عقول الجماهير.. حتى لا تستطيع التمييز بين هذا وذاك.. فتتعطل حركة التغيير والسيرورة، وتتأثر عملية التأثير والصيرورة، وتهتز رسالة التوعية في كينونة الجماهير أمام خطاب يماثل خطاباتهم من حيث المراجع والمنطلقات، إلا أنه يعارضه من حيث الأهداف والغايات.. وهذا معروف في كل زمان ومكان.. ومعلوم في كل مسارات التاريخ القديم والحديث كما سلف ذكره.
إذا كانت مهمة نشر الوعي ومحاربة الجهل والتجهيل مهمة اجتماعية عظيمة، ورسالة إنسانية نبيلة، ميزت مسيرة الأنبياء والعلماء والمصلحين عبر التاريخ، فهي في الوقت نفسه مهمة اجتمعت فيها كل أنواع المخاطر والمهالك التي تعصف بحرية وحياة أصحابها.. ورغم ذلك فإنهم يركبون مخاطرها، ويتحملون بلائها، ويقبلون أذاها.. فَنُبْل الرسالة أعظم من ألم البلاء، وشرف المهمة أكرم من وعثاء الأذى.. وركوب مخاطر الإصلاح أسلم من الركون إلى الظلم والاستبداد..
إن قادة الوعي وزعماء الإصلاح الشرفاء لا تغريهم المنافع، ولا تستهويهم المناصب، ولا تستدرجهم المصالح، ولا ترعبهم السجون، ولا تخيفهم المنايا.. لا يركنون لظالم، ولا يهادنون طاغية، ولا يحبطهم إعراض الناس عنهم، ولا يزعجهم تكالب علماء القصور عليهم، ولا تحامل الإعلام بحملات التشهير والبهتان ضدهم.. ما داموا على الحق قائمين، وفي سبيل الحق صامدين، ونحو الحق سائرين.. تحقيقا لقوله تعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ»، وقوله تعالى: «لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ».