حول مفهوم التطبيع
هل هو ممكن مع دولة الاحتلال ؟
يوسف بوستة/المغرب
“التطبيع” اصطلاحا يعني اعادة الأشياء والعلاقات الى طبيعتها السابقة، وقد ظهر هذا المفهوم مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر و”اسرائيل”، وهذا المصطلح هو “اسرائيلي” المنشأ فهو يعبر عن المصالح الصهيونية الصرفة من جهة، كما ينطوي على مغالطة تاريخية واضحة من جهة ثانية، فالتطبيع بهذا المفهوم يقتضي أن تكون هناك علاقات سابقة بين أطراف الصراع حتى يكون بالامكان اعادتها الى طبيعتها الأولى، وهذا يعني اقامة علاقات طبيعية بين الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل للارض العربية وبين الدول العربية وبين الفلسطينيين انفسهم وبين هذا الكيان النقيض لهم.
كما أن هذه العلاقات الطبيعية “التطبيع”، تشمل المجال السياسي والاقتصادي والاعلامي والثقافي، ويشكل هذا الاخير آخر أنواع التطبيع واكثرها خطورة على الاطلاق، ويعني ازالة التناقض بين ثقافتين متناحرتين كما هو الحال بين فرنسا والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. فكان التطبيع بعد القضاء على الأيديولوجية العنصرية العرقية النازية، وقد بادرت المانيا من تلقاء نفسها الى شجب النازية، واقتناع الشعب الألماني بخطا هذه الايديولوجية العنصرية، فهل زال التناقض التاريخي بين الصهيونية والمشروع القومي العربي التحرري؟ وهل اعترفت اسرائيل بخطا الايديولوجية الصهيونية العنصرية ؟
إن التطبيع مع العدو الصيهوني وانطلاقا عن تجربة كامب ديفيل والمناطق المحتلة عام 1967 لم يكن الهدف منه هو تجريد الصهيونية من مكوناتها العنصرية الاستعلائية التسلطية، بل ان ما يجري هو محاولة تشويه الأهداف وتاريخ النضال القومي العربي التحرري، ولذاكرة الشعب المصري من قبل والعربي الجاري الأن وخلق وجدان غير معاد وربما مؤيد للنموذج الصهيوني “المتفوق”.
وهذا ماسعى “النظام الدولي الجديد” بعد حرب الخليج الثانية الى تكريسه، بفرض الهيمنة الصهيونية والامبريالية في المنطقة العربية ثقافيا بعد تحقيق التفوق العسكري، وتسابق الأنظمة العربية نحو التطبيع بعد توقيع اتفاقية غزة اريحا أولا، وما تلاها من اتفاقيات استسلامية كان اخرها اتفاقيات الذل التي وقعتها الامارات والبحرين بدعم ورعاية من السعودية، وتسارع وتيرته بانضمام المغرب باسم الدفاع عن القضية الوطنية، وجر السودان المتخن بالجراح واسعداد حراس الحرمين الشريفين للاعلان جهرا عن الصفقات السرية، وتدشين سلسلة من تبادل الزيارات، وما صاحب ذلك من اندحار بعض مثقفينا وجنوحهم نحو والسلام والتسليم بالهزيمة الثقافية.
أن الوقوف ضد هذا التطبيع يعني رفض تزوير وتشويه الوجدان العربي والذاكرة الوطنية والقومية للشعوب العربية، كما يعني كذلك الوفاء لروح الشهداء الذين سقطوا على درب النضال والتضحية، فالهزائم العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية للشعوب لم تكن تعني على امتداد التاريخ استسلام هذه الشعوب، ولن تشكل بحال من الأحوال نهاية التاريخ والتسليم بالهزيمة الأبدية والحتمية.
كما أن عملية التطبيع الجارية لا تعدو ان تكون تواطا بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني، اما الشعوب العربية وقواها التقدمية والتحررية، فانها ترفض هذا التطبيع وهذا الأمر الواقع، وعجز هذه الشعوب وقواها المناضلة عن مواجهة هذا الواقع وتغييره، فمرده کونها مسلوبة الأرادة ومجردة من وسائل المقاومة، وتتعرض باستمرار للقمع وللتضييق، رغم ذلك فان هذا العجز لا يعني الاستكانة لهذا الوضع أو التراجع عن الثوابت، لان اهداف الصهيونية ومشروع اسرائيل الكبرى ما زالت قائمة، ولفرض تراجع الايديولوجية الصهيونية العنصرية يفترض انتصار أيديولوجية التحرر والانعتاق، وهذا لن يتحقق مالم تحقق هذه الشعوب حقها في تقرير مصيرها بنفسها.