الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

 

في إستحضار شفير سفركَ الأخير:  بكائية في استعار النار

عندما آلت شمسك للإنستار

عبد العزيز المنتصر /اسبانيا

 

 

     ويسألني:من أنت؟     

خجلت أقول له : 

 “قاومت الإستعمار  

                    فشردني وطني”.                   

    مظفر النواب   

 

 

 

 

 

 

سامحني يا  صاحب الهمة و الهامة، يا عبير طيب الإستقامة؛ سامحني و أنت المتربع في الحب العذب على القلب، سواءا عند الإنتكاس، أو في الإبتسامة؛ سامحني عن  أفولي عنك، عند إضمحلال الصحة و السلامة، عَليّ َالتَّأنيب المَعيب، عَلي قَتامةُالملامة.

 

بخُفي حُنينٍ في يأسي أعود منكسرا إلى نفسي، لكي أتمالك أنفاسي؛   أعود و أنا أقاسي، بعد مَغيب؛ أعود و أنا بنار الفراق مُضرمٌ، و مُيتَّمٌ، و مُغيَّبٌ، و غريب؛ أعود و قد إغرورقت عينيي بعد نحيب؛ فلا صميمي صميم في فداحة الإصابة، ُمُصاب مُنتاب بديمومة الكآبة، و لا أنا في النسيان كمرور السحابة؛ و أنا بعدك المُأجج المُتَوّج بنار الجحيم في الهشيم، لا دم القلب نجا كلما إستبدت بي حرقة الشجا، كلما إستذكرت النَّعش بَلَّلَ ندى العينين الرَّمش؛ و لست إلا التعيس البئيس، أسير المنافي، يا خيبتي، نعشك الذي لم أحمله نائحا، رفقة أحبتي فوق أكتافي، كي أواريه الثرى في الفيافي؛ و لو أنني ما إستحببت بتاتا، يا أبي، أن أُقبرك بيدي رفاتا؛ ما إستحسنت يوما في كفن أن تُسكَنَ، و لا في قبر أبدا أن تُدفَن.

 

يا سيد أمري، في الظاهر و السر، يا سنديانة عمري، في الحياة و في القبر، و أنا في ميتمي الدائم يغلي دمي،كلما تذكرت النازلة حلت بي الهزيمة القاتلة؛ في أتون جذوة جنون الحنينن، بطلي الأمين، في الواحد بعد عشرينية هذا الهجر اللعين، كم أموت شوقا لعناقك، كي أداعب بر الأمان في حرارة الإحتضان؛ فبين جناحيك يستكين الشريد، الذي يسكنني، في المكان الوحيد  الذي لن يخونني، و لن يبتر في نحري الوريد.

 

و أنا أتَجرَّعُ أحزاني كم إبتَغَيتُ في ذروة الأماني،كم تمنيت أن تكون ها هنا بين أحضاني، بين ذراعَيَّ، بين شراعَيَّ، و أنت تُقَارع المَمات، و تناجي الحياة، و أنا نائح أرجوك، كي لا تموت، و كأني أبوك، يا أبي  الأَبيّ.

 

أكوي بالنار ثنايا التذكار، حسرة في مُقاساة فجاعة ذاك الإحتضار؛ إحتضارك كان في البديهة إحتضاري، و في القريحة نكبة أشعاري؛ و لمُعاداة النُّكران، لنَبذ النسيان، و إبداء العرفان في الواحد بعد عشرينية الفقدان، أحشد قي ياسي ما تبقى في نفسي من رتابة أنغام، و تَفجّر ألغام، كي أنشطر من أجل الأمين في الأنين، فلا أَحيد في السبيل عن العويل الطويل.

 

صنديدي الرصين، أسد في الميدان، و في العرين؛ سندي المتين؛ ثَريٌّ في فقرك و فقرنا الثمين؛ شهامةَ جَأشي المكين، مَعقلي الحَصين؛ وا سَيّد قلبي، يا المُتربّع على الخَفقان الصّعب؛ وا خيبتاه من المَنيّة، كيف يُردم الحُرّ أسيرا في قبر، كيف تَحتَضر الكائنات الأبيّة، كيف يأكل التراب تلك العيون البهية.

 

تسافلوا و تراذلوا عليك منذ  الفتوة، في التعديب و الترهيب، تصهينوا و ما تنازلوا عن خساسة الإتسام بالإجرام، في التكالب على الثوار بالإقتصاص، في سنوات الرصاص؛ و بعد مَنفاكَ تواكبوا و تكالبوا علينا منذ الصبوة، في التسلط و القوة، أكثر من أسيادهم، من أشرار الإستعمار من ضواري البهائم، ذوات الأربع قوائم؛ لفيف مُخيف يتراوح بين مجرم غبي، و قَتَّال سخيف؛  و  في الإختلال إدعوا مثل الإحتلال أنهم رجال، و أنهم أعظم من سباع، و ما هم إلا عَلَق يعتاش من النّزَيف، أو ضباع من آكلي الجيف.

 

كم أتذكر يوم قُلتَ: إن ورثة الإحتلال من رهط الإحتيال، و الإغتيال،  يُفترض فيهم أنَّهم أبناء جلدتنا، و لكنهم عدبونا عادة أفظع من آمريهم و مُناصريهم، ذون أن يَحيد بطبيعة الحال أنذال الإحتلال قَيد أُنمُلة عن وجع التنكيل، و التقتيل، و التمثيل  بالمخطوفين، المُعَلّقين من الرجلين، من مفقودي السبيل؛ في التعديب بإمتهان بعض أبشع أساليب الترهيب، بالكيفية في معاملة الضحية يَتَوافقُ و يَتَطابق المستعمرون القتلة بتلامذتهم الجهلة.

 

قاحل قلبي، إستبد به القحط لما إقتلعك مني الموت، حينما إنتزعك الرَّدَى من المَدَى؛ تَعتَّم فؤادي عندما تَيتّمَ، و هَجرتَني، كم هجرنتي، اللعنة على الموت، و على جنود الموت من كلاب الوقت.

 

و لو أن المهجة فيَّ طوال العمر أَبصرت، و سمعت عن خزي أطوار مهولة، و لو إنها ما إدخرت وسعا، و لكنها ما زالت لا تفهم، و لن تعي قَطعًا، كيف سُدًى تذهب رجولة المناضل في الهباء، و يُعمّرُ في الدنيا الهُرَاء، و شقاء العملاء؛ و أنا ماثلٌ في الخيال إجلالا للأبطال، قدام أشلاء الثوار الأبرياء، ألعن الفقدان، أبصق على النسيان، و ما يُلازم دواخلي، ما يَمكُث في طوايا الأحشاء غير تعابير الخزي، و الإستياء.

 

يسكن الشيطان في التفاصيل، و التكالب علينا في  الحبس و الرفس و التّقتيل، بإصظناع كل أنواع التَّأثيم و التجريم، و إختراع أكاذيب الإتهامات و الأحابيل، للمعتقلين و المتهمين، ذون دليل؛ يا ليث يوما يكتمل بناء الإختيار الثوري، و التحرر الفكري، و تنجلي عن العيون الغشاوة، وتنفرج الضراوة، فتلين القساوة، قبل ان نُشيعَ في المقابر؛ يا ليت يوما تصحو أكثرية الضمائر، و نَبتُرُ مُكابرة المُكابر، فَيَدفُنُ المستقبل لعنة الحاضر، و يَنجلي عنا قهر القاهر،  فينقلب السحر على الساحر، و الفجور على الفاجر، و الضامر على الظاهر، فتنبض لنا في مغرب المُغَرّبات البشائر.

 

وا أبتاه الأمين، وا نغم الرَّبَاب، يا المحكوم بالإعدام في الغياب، ما تقمّصتَ، ولا إسأَسدتَ يوما بجنسية الغير كي تَقيك، و بعدك ما تَلبّستُ، و لا إستقويتُ بها كي تحميني، وفاءا لسيرتك، و مسيرتك؛ ما إنغمستَ و لا إنغمستُ بعدك، في هوية المستعمرين، و لا أَقسمتَ و لا أقسمتُ يوما الولاء لغير أصل الآباء، في التَّحصُّن بتعَدُّد التجنس و التّقَمُّص، فبقينا إلى الأبد في البعد، في منفى النبذ، كالأيتام المحرومين المظلومين، حتى في موضع إنفتاح العينين، فلا المَوطنُ المُدمنُ على القهر و الغدر يناصرنا، و لا أمصار المنافي و الهجر تساندنا، ولا غَصَّةُ القلب الفقير الأسير تغادرنا، فبقينا كالمقتول المجهول، عرايا في الوهن، ضحايا لتكالب الزمن، و لسُعار خنازير الوطن.                          ِ

آه، كلما جئتني، كلما نَبَضْتَ لي في الشرايين إسْتبدَّ بي الحنين، حل الأنين، و إخْتلجتْ في العيون نداوة، و على القلب غشاوة، و حَلَّت بالنَّبضات ضراوة، فيرتعش الفُؤادُ المُبَادُ في الخفقان، بعد الفقدان؛ و ها هو  ذا اللّحد الحزين، الذي إستبد   بالمقاوم المناضل السي أمين؛ و في وقائعِ أَزْمِنتي المغدورة، ظلما في هذا المدفن الذي لم أَرَهُ يوما، على الصورة المبتورة، على القبر  يظهر كيف تفتق العشب، و بعض الزهر، من تفسخ لحم العمر، و من جفون و عيون، يا ويحي، أكلتهما البسيطة اللقيطة؛ كيف يوارى القلب الطيب تحت التراب، و تبقى شاخصة في الدنيا وجوه الكلاب، متطاولة علينا في كل الرحاب؛ يقطن المغوار الآن في عزلة خلاء القفار، و يبدوا من صورة اللّحد الوقورة كيف مر الدهر، و الحَرُّ و القَرُّ على القبر،  و محا كلمة من جملة، تترأس لحد الفذ: “كل نفس ذائقة  الموت”؛  أمام رفاة المُستَكين ما لاحت في اليقين ذائقة للموت اللعين.

 

و بعد منفىً سحيق عتيق عميق، و في العيون  و على الجفون الدموع، دُفِعتَ دفعًا للرجوع، و إلا فما                  تبَقّي للعائلة المنفية من عير العودة إلا مقاساة الجوع؛ و عِشتَ في إستقامة النَّسَق إلى آخر الرَّمَق؛ في الهيجاء و الهوجاء رفض حُطَامُكَ المساومة، و أن يتقاضى كتعويض فرنكا واحدا، كي لا يكون بقاؤك رهين بيع مبادئ النضال و المقاومة؛ و أنت المداوم المقاوم، رغم خريف العمر، و قسوة الدهر إعتَرضْتَ على  أي مَزيَّة، و أنت الأصيل، و العليل المستحيل، و كم مَرِضتَ، و لكنك رفضتَ، في نَخْوةٍ أَبِيّة،  حتى َأُعْطِيَّة الوقاية الصحية.

 

ماذا أصنَعُ بقلبي الآن بذون الحب، بذون الشَّغَف بالسيد الأمين، من غيره فؤادي رهين، سجين العداب في الإكتئاب، ف: “القلب بلا حُبٍّ هو قطعة لحم تصلح أن تكون طعاما  للكلاب”.*


*محمود درويش.

 

 

 

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات