الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

دموع أمي في جبال الريف،

 

 

بقلم: عبد الصمد الشنتوف – لندن

 

تدخل أمي لغرفة الجلوس كعادتها، وبمحاولات شتى تطلب مني أن أكف عن دس وجهي في شاشة هاتفي الذكي. منذ أن غادر أبي هذه الدنيا وهي تريدني أن أوليها اهتماما خاصا. أشعرها بوجودي داخل البيت. تريد أن تحضنني كطفل صغير، أن تسمع صوتي لأحدثها في أمور عديدة. تريدني أن أحدثها عن الطقس، عن العمل، عن الطبخ، عن الأولاد، عن أي شيء.

تطلعت إلي بوجه ممتقع، ثم أخذت مكانها بجواري. هي لا تدري أنني حين أكون منكسا رأسي أقلب نظري في شاشة هاتفي، أكون بصدد كتابة نصوص أدبية ذات قيمة. نحيت الهاتف جانبا وجلست متسمرا أشاهد التلفزيون، عزائي الوحيد بعد الكتابة. ولأنني إنسان مهووس بقراءة المذكرات، محب للتاريخ، وعاشق للنبش في صفحات الماضي، ضغطت على زر جهاز التحكم مقلبا عن قناة تبث برامج وثائقية. وإذا بفيلم يحكي عن حرب الريف يطلع على شاشة الجزيرة الوثائقية.

ظلت أمي تحدق في الشاشة بتمعن شديد. فجأة تململت في مكانها بعدما تسللت إلى مخيلتها ذكريات وأحداث بعيدة، ما لبثت أن أردفت بنبرة حزينة: آه لو تعلم يا بني عن أيام عصيبة قضيتها بجبال الريف، حينما انتقلت للعيش بقبيلة بني ورياغل في بداية الستينيات من القرن الماضي. حينئذ لم أفهم قصدها، إلى أن شرحت لي بقليل من التفاصيل، أنها زفت كعروس إلى قرية نائية معزولة عن العالم، تنعدم فيها شروط الحياة وهي ابنة الرابعة عشر من عمرها. كل ما تراه جبال موحشة تحاصرها من كل جانب، حيث لا ماء، لا كهرباء، لا تطبيب، ولا مسالك طرقية. والأدهى من ذلك أنها لا تستطيع التواصل مع ساكنة البلدة، لأنها لا تتكلم لغتهم الأمازيغية.

كانت أمي طفلة لم يكتمل نموها بعد. صعد بها أبي إلى قمة الجبل خلال أول تعيين له كمدرس بداية الاستقلال، ليبدأ مشوارا مهنيا صعبا من أعلى جبال وعرة تعانق السحاب. جبال شاهدة على كفاح وبطولات مجاهدي عبد الكربم في مقارعة الإسبان.

تحكي أمي أن القرية كانت شبه مقفرة من الرجال. وجوه الناس شاحبة طوال الوقت. عيونهم يملأها الخوف. يعيشون الانكسار والألم على وقع عصيان مدني مسلح قاده زعيمهم سلام أمزيان ضد سلطة الاستقلال الفتية، تم إخماده بوحشية مفرطة من لدن الرجل القوي أوفقير. معظم الشباب والرجال صعدوا إلى جبال محيطة فارين بأرواحهم من ملاحقة القوات المسلحة، حتى أن جل آباء تلامذة أبي داخل القسم كانوا بين معتقل وطريد وقتيل.
لم تستطع أمي التأقلم مع وضعها الجديد في الريف. لبثت تقاوم الحنين إلى أهلها وبلدتها الجبلية طيلة سنتين، لكنها ضعفت واستسلمت في الأخير. نفذ خزان صبرها. استبد بها اليأس والقنوط. وبعد تفكير عميق خامرتها فكرة طلب النجدة والمساعدة من أي كان. فما كان منها إلا أن طرقت باب عمها الشيخ أحمد مستعطفة تدخله لدى صديقه العلامة عبد القادر الساحلي المقيم بالقصر الكبير. هذا الأخير كان يمتلك شبكة علاقات واسعة مع أشخاص نافذين في وزارة التعليم. ظهرت نتائج الحركة الانتقالية. زف عمي أحمد الخبر البهيج إلى والدتي. سينتقل أبي إلى بلدة سيدي اليماني القريبة من موطنه الأصل. سيسهل عليهما التنقل لزيارة أهليهما من حين لآخر، ذلك أن المسافة إلى بلدتهما الرابضة فوق جبل سوماتة لا تتعدى ساعة ونصف.

وأخيرا تنفست أمي الصعداء. فرحت فرحا بحجم السماء. أطلقت زغرودة جبلية ورقصت. هللت دمعتها شوقا وإيمانا. دبت الحياة في عروقها من جديد، وعادت البسمة إلى محياها.

بعد أن ذرفت دموعا غزيرة، تبسمت الدنيا في وجهها وجاء الفرج. كادت تفقد عقلها وبصرها من شدة البكاء الطويل. صار لسانها يلهج بعبارات الحمد والشكر على الدوام.

أمضت سنتين تشتكي عسر الحال، وحشة العزلة عن العالم، قسوة الطبيعة، نقص في الخدمات، وضنك العيش وسط جبال الريف الصامدة. وها قد حل اليسر بعد العسر. طارت فرحا مثل عصفور محلق في السماء.

يستيقظ أبي في جوف الليل على صياح الديك، فيتوجه إلى فناء الدار. يحمل غلاية ماء ساخن، يستعد للوضوء لأداء صلاة الفجر. وإذا به يتلفت فجأة على صوت رخيم يصله من غرفة محاذية. تلصص عبر شق باب خشبي، ليجد أمي قد سبقته لصلاة الليل، رافعة يديها متضرعة إلى السماء، مناجية ربها في خشوع فائق. غشيته دهشة وسكون آسر. أرهف أذنيه، فسمعها تدعو بالخير والفلاح لعمها وصديقه العلامة الساحلي، فيما الدموع كانت تنهمر على وجنتيها كسيل جارف…

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات