شذرات 35
ضَحِك الحزين ..
عبد المولى المروري
إذا كانت الدموع لا تعبر ضرورة عن الحزن، فإن الضحك أيضا لا يعبر ضرورة عن السعادة ..
أحيانا نبكي من السعادة .. وأحيانا نضحك من شدة الحزن والألم .. ألم يقل العرب قديما شر البلية ما يضحك ! تلك البلية التي نكأت جراحا .. وأدمت قلوبا .. وأبكت عيونا .. ومن هولها أضحكت نفوسا مكلومة .. في انقلاب غير مفهوم .. يناقض حقيقة المشاعر .. ولا يعكس طبيعة الموقف ..
وهناك من الضحك الذي يعلو صفحة الحزين .. ويكسو وجهه ويخفي شجنه .. ويستر كمده .. ما يكون إلا بدافع الجلد التي تمليه القواعد الاجتماعية والمواقف الإنسانية..
فلا تغرنكم ضحكة الحزين المكلوم.. الذي غالبا ما يضحك إلا لأسباب اجتماعية فحسب.. حتى لا يزرع الكآبة في وسطه الاجتماعي، فليس من العدل أن يعمم الحزن على من لا ذنب لهم.. وليس من الإنصاف في شيء أي يدخل معارفه في قوقعة حزنه .. ليس من حقه ذلك ..
في أحيان كثيرة لا يعبر الضحك عن سعادة صاحبه، ولا يعكس حقيقة دواخله، بل إن الضحك تضحية منه من أجل الآخرين.. ومغالبة لنفسه وحملها على ما لا قبل لها به.. هو في الحقيقة تظاهر بالسعادة .. وادعاء بالفرح .. حتى ينشر سعادة لا يجدها في نفسه .. ويوزع فرحا لا يتذوقه قلبه ..
ضحك الحزين، رغم عبء تكلفه، ومغالبته لحقيقة مشاعره الحزينة.. فإنه تعبير مناقض للحقيقة، ويا للمفارقة، فإنه يحمل من الصدق والصفاء ما لا يحمله الضحك الطبيعي النابع عن سعادة حقيقية ..
فالحزن الداخلي قاتل لصاحبه.. يأكل من حياته في كل لحظة حزن يعيشها .. مثلما تفعل خلايا السرطان بجسم الإنسان ..
الحزن الخفي الذي يسكن عمق الإنسان، ويستوطن قلبه، وينتشر في عروق روحه يدخل صاحبه في عالم مظلم من الكآبة، وفي دوامة من الأسى المتراكم.. يضيق العالم الرحب به، فيصبح منطويا داخل قوقعة لا يكاد يتحرك فيها.. حيث يقل الهواء .. وتنعدم الرؤيا، ويتوقف التفكير .. ويأبى أن يخرج منها .. لأنها أصبحت عالمه الكئيب، وموطنه المظلم، وملاذه المر ..
إلا أن الحزين الضاحك الذي استطاع الخروج من تلك القوقعة الضيقة هو شخصية مضحية بامتياز .. لأنه أبى أن يتأذى بحزنه من لا ذنب لهم في ذلك، وهو قوي بما يكفي للانتصار على حزنه الداخلي.. وينطلق إلى العالم الخارجي الفسيح، وينير موطنه بنور العلاقات الاجتماعية، ويروي روحه بماء زلال من صبيب الصبر والتضحية.. هي مشاعر ليست كاذبة، وإنما مقاومة ومتحدية لخلايا الحزن القاتلة..
فلا يجب الاعتقاد أن كل ضاحك سعيد، فخلف تلك الضحكات الجميلة أحزان بأثقال الجبال .. تخفي دموعا بغزارة الأمطار .. فكم من فستان فرح يخفي تحته هموما وأشجانا لو وزعت على ضيوف العرس لفاضت عليهم .. فيضان النهر الذي تحطم سده.. ولكنه حمل أثقال الجبال، ووقف سدا منيعا أمام فيضان الدموع ليُسعد من حوله، ويشاركهم سعادتهم التي لم تعد لها طعم عنده .. ولم تعد لها وجود في حياته .. ولكنها الرسالة الإنسانية .. التي يحملها العظماء .. عليك أن تسعد الآخر مهما بلغ بك الحزن ..