رسالة المثقف والإعلامي ..
في زمن الإسفاف
عبد المولى المروري – المغرب
لقد كانت للمعلم هيبة ووضع اعتباري كبيرين في المجتمع، وليس داخل قسمه أو مدرسته فقط، كان موضع احترام وتقدير من طرف الكبير والصغير، التلميذ والأب، بالنظر إلى مهمته التعليمية ورسالته التربوية… وكان وجوده في السوق والشارع والحي، وفي أي مكان هو امتداد طبيعي واستمرار موضوعي لمهمته ورسالته التي يبدؤها في فصله الدراسي ويواصلها خارجه…
استمرت هذه الرسالة لسنوات طويلة، بل لقرون طويلة.. حتى أدركت الأنظمة الاستبدادية خطورته ودوره في التربية والتوعية، فقررت استهداف المنظومة التربوية التي يشكل المعلم مركزها ومحورها.. فبدأت النكت المسيئة، وتجميد الأجور والترقية وتخريب المناهج والمقررات…
فأصبح المعلم فقيرا يلتمس طرقا أخرى لتحصيل المال.. غير مواكب للتطور التربوي بعد توقف وابتذال التكوين والتكوين المستمر، وانتهى به الأمر إلى شخص عادي بسيط فكريا وثقافيا، بل أضحى من عامة الناس ودهماءها..
لا يمكن إنكار مسؤولية المعلم فيما آل إليه حاله وواقعه، ذلك أنه استسلم لما يقع له استسلام المنقاد والمسير، لم يبد أي مقاومة أو انتصار لموقعه الاعتباري… بل قبل بالوضع وأقر واقعا خطيرا مفاده أن رسالة المعلم ودوره “سجين” جدران فصله الدراسي، ولا يمتد ذلك إلى فضاء المجتمع والعلاقات العامة.. ذاب بسبب استسلامه في ثقافة المجتمع الهابطة سلوكا وأخلاقا وفكرا ولغة.. ويتضح ذلك جليا في فضاءات التواصل الاجتماعي، حيث تتساءل بألم، هل فعلا من يكتب هذه التفاهات والالإسفافات وبلغة الشارع هو فعلا معلم مكلف بتربية وتعليم النشء.
الواقع المأساوي ذاته سقط فيه وبشكل فظيع ويبعث على الشفقة المثقف والإعلامي اللذان يعتبران في الوقت الراهن ( أو كما نعتقد ) من نخبة المجتمع وصفوته…
فالمثقف، ذلك الشخص المثالي في ثقافته، المتحفظ في سلوكه، الرصين في فكره، المعتدل في مواقفه، والأنيق في لغته وخطابه، المرتفع في علاقاته، والمترفع عن خلافاته وخصوماته، هذا الشخص الذي خصصنا له برجا عاليا في أذهاننا نظرا للمكانة الفكرية والثقافية التي يعتليها، ذلك المثقف الذي غالبا ما يكون أستاذا جامعيا متخصصا في الفلسفة أو علم الاجتماع أو التاريخ أو الفكر والحضارة، والقانون والعلوم السياسية والافتصادية … وكنا نجد لتخصصه الذي يبدع فيه في المدرجات الجامعية امتدادا واستمرارا، ليس فقط في الندوات والمحاضرات العامة والمقالات والحوارات، بل في علاقاته العامة والخاصة، ويزيد ذلك من احترامنا وتقديرنا له، ومنشأ ذلك ما يتمتع به المثقف من نضج فكري وسمو أخلاقي ورقي في لغته وكلامه …
أما الإعلامي، فذلك الشخص الذي ينقل الخبر بأمانة ومسؤولية، في قالب مشوق، بعبارات وأساليب تُسَهِّل على القارئ الوصول إلى المعلومة بلغة أنيقة وكلمات بسيطة يفهمها الجميع.. وبذلك يساهم في نشر الوعي وتهذيب الذوق وتنوير الرأي العام وفتح عينيه على واقع ومعطيات لن يصل إليها إلا عن طريق الصحافة النظيفة والإعلام الراقي، وبالتالي فإن دور الأعلامي هو تكملة لدور المعلم والمثقف…
إن دور المثقف ورسالته لا تقف عند المدرج وقاعة المحاضرات، ودور الإعلامي ورسالته لا تقف عند جريدته الورقية أو الالكترونية ومقره، بل إن المثقف والإعلامي يحملان رسالتهما النبيلة والعظيمة أينما حلا وارتحلا، في الشارع والسوق والمنتديات والعلاقات العامة والخاصة، وفي صفحات التواصل الاجتماعي، وفي كل فضاء أو مكان، لأنهما يعتبران ذلك امتدادا ضروريا وطبيعيا لرسالتهما في توعية الفرد وتهذيب الذوق والارتقاء باللغة والفكر إلى أسمى مرتبة ممكنة..
ولكن – ومع الأسف الشديد – أصبح الأغلبية الساحقة من قبيلة المثقفين وفصيلة الإعلاميين أبعد ما يكونون عن تمثل هذه الرسالة وقيمها، والحفاظ عليها وعلى استمرار دورها وترسيخ نبلها، بل تجدهم أقرب ما يكونون إلى مستنقع الابتذال وبرك الإسفاف، يستهويهم التجول في المنتديات النسوانية البئيسة ثقافة وسلوكا وتعاملا، ينهلون مِن معجم مَن هم أدنى من العامة وأسوأ من الدهماء.. تنتهي علاقة المثقف بالفكر بمجرد خروجه من المدرج أو قاعة المحاضرة، وتنتهي علاقة الإعلامي بالصحافة بمجرد إغلاق الصحيفة، ليتخلصوا من عبء التقيد المفروض عليهم بقيم المهنة وقواعدها، فهم ينضبطون كرها واضطرارا لتلك القيم والقواعد، وليس حبا واختيارا، وذلك يظهر جليا على صفحات التواصل الاجتماعي، فهو الشارع الافتراضي والسوق الافتراضي … الذي يكشف مخبوء الإنسان، ويكشف عن حقيقة شخصيته وأخلاقه ومستوى فكره وطبيعة ثقافته…
هذه الفئة المدسوسة في الوسط الثقافي والدخلية على الجسم الصحفي والإعلامي تكشف عن حقيقتها المأساوية عندما تختلط مع العامة في الفضاء الأزرق، فلا تكاد تميز بينها وبين منحرفي المجتمع، فهم يختارون من الكلام أرذله، ومن القول أفحشه، ومن الشتم أقبحه، ومن القذف أسوأه، ومن الإفك أفدحه، ومن التشهير أنذله، فهم شر مستطير وعدو مستتر.. لغتهم تزينت بالفحش، وتوشحت بالقبح، وتعطرت بالزنخ… هم للثقافة ملمة وللصحافة نائبة.. وللفكر رزيئة وللكتابة نكبة..
ألسنتهم بالسوء تلهث، وأفواههم السم تنفث، وكتاباتهم بالعقول تعبث..كأنهم أعجاز نخل منقعر، بل كأنهم أعجاز نخل خاوية، وعقول خاوية، ونفوس واهية، وضمائر بالية.. في أجساد كأنها خشب مسندة.. بعقول مجمدة.. وقلوب من الرحمة مجردة..
عطلوا الرسالة، بل دنسوها.. حرفوا القيم، بل عفنوها.. داسوا على الفضيلة، بل دمروها..
إن المثقف الملتزم والإعلامي المستقيم يواصل رسالته التثقيفية والإعلامية في كل فضاء ومكان.. ينتقي لكلامه أحسنه، ولتعبيره أجوده، يختار الأنقى والأرقى لغة وفكرا وتعبيرا، وليس الأدنى والأتفه والأسوأ.. فنقاء اللغة ورقي الكلمات يعبر عن نضج صاحبها ورقي فكره وسمو أخلاقه.. والكلام المتسخ، واللفظ النتن، والتعبير العفن، يعبر عن اتساخ صاحبه، وتدنس أخلاقه، وتعفن فكره..
المثقف القوي والإعلامي النظيف يقاوم السقوط في مهاوي الإسفاف ومهالك الاستخفاف.. من أجل البقاء في كنف العفاف، مبتعدا عن الرداءة باستنكاف.. فمهاوي الإسفاف محفوفة بالشهوات، وكنف العفاف محفوف بالمكاره.. وأن أقبض على الجمر أهون عندي من السقوط في الكلام الرديء، واللفظ البديء، والتعبير المسيء.. والسلوك الدنيء، فكل إناء ينضح بما فيه، وكل إنسان كلامه يساويه، وكل حقود خبيئته على لسانه تجاريه..
فأسلوب هؤلاء داء، وتجاهله دواء.. ووجودهم بلاء، والإعراض عنهم شفاء..
وأعرض عن الجاهلين .. كي لا تسقط في بركهم العفنة..
حتى يخوضوا في حديث غيره .. كي لا يصيبك شيء من روائحهم الأسنة..
الصمت قوة، والإعراض جُنَّة، والصبر عزة، والترفع عن الخصام وسام، وعن المشاحنة خلق الكرام.
فبين هذا وذاك نحن نختار مكاننا ومكانتنا، نختار فصيلتنا وفئتنا، نختار مرتبتنا وموقعنا، نختار وسطنا وأصحابنا… فمع من أنتم ؟