في التنوير وأزمة التنويريين العرب
المحور الثاني :
حول التحديات و المشكلات و العوائق التي عرقلت نمو الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية
ذ.أحمد الديين/الكويت
بعد تطرقنا في المحور الأول للمحة عن التنوير و نشوء الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية و تطورها سنتابع النقاش في هذا المحور حول التحديات و العوائق التي عرقلت نمو الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية و سبل خروج التنويريين العرب من أزمتهم.
التحديات و المشكلات و العوائق التي عرقلت نمو الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية
ـ حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي في معظم أنحاء البلاد العربية، خصوصاً خارج العواصم والمدن.
ـ سطوة الاتجاهات الدينية المحافظة والرجعية وما تتصف به من جمود وتزمت، ومحدودية تأثير الدعوات المستنيرة والإصلاحية التي أطلقها بعض رجال الدين المستنيرين.
ـ الاستبداد السياسي والقومي للدولة العثمانية، ثم السيطرة العسكرية الاستعمارية الإمبريالية الغربية على البلاد العربية، التي أبقتها في دائرة التخلف، ولم تتجاوز تحديثاتها إن جرت بعض قطاعات من العواصم والمدن الكبرى وفي نطاق اجتماعي ضيق من بين علية القوم والعاملين في الأجهزة الإدارية والعسكرية والأمنية والوكلاء التجاريين الكمبرادوريين.
ـ ضعف البرحوازيات المحلية الوليدة، التي يفترض أنها الحامل الاجتماعي للتنوير والتحديث، وتشكّلها بالأساس من رحم الإقطاع والزعامات الطائفية ومحدودية التطور الرأسمالي التابع المرتبط بالمراكز الرأسمالية الإمبريالية.
ـ فشل مشروعات التوحيد العربية، بدءاً من فشل مشروع محمد علي في بناء إمبراطورية تمتد من مصر إلى بلاد الشام وتشمل الأجزاء التي سيطر عليها في الجزيرة العربية، مروراً بفشل مشروع ما يسمى “الثورة العربية الكبرى” وإقامة المملكة العربية بقيادة الشريف حسين بالاعتماد على الإمبرياليين البريطانيين الذين كشفوا بعد الحرب عن حقيقة مخططاتهم الاستعمارية… وانتهاء بما أحدثته اتفاقيات سايكس – بيكو من تقسيم للبلاد العربية وما كرسته من انفصال، لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا… بحيث أصبحت عناصر التحديث والتنوير محصورة في نطاقات محلية ضيقة.
اطلالة على تعدد الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية
هناك نظرة سائدة في معظم الكتابات المتصلة بالتنوير في البلاد العربية تحصر الاتجاهات التنويرية ضمن ثلاثة توجهات:
- التوجّه الديني المستنير.
- التوجّه الليبرالي.
- التوجّه القومي أو العروبي الاستقلالي.
كما أنّ هذه النظرة السائدة تحصر نطاق الاتجاهات التنويرية في بلدان المشرق العربي متجاهلة الاتجاهات التنويرية في البلدان العربية المغاربية من جهة، وفي البلدان العربية في الخليج والجزيرة العربية من جهة أخرى.
وأتوقف هنا أمام ثلاثة أمثلة يتم استثناؤها في الغالب:
أولهما: التوجّه الماركسي والاشتراكي، الذي يجري تجاهل أهميته وتهميش دوره في حركة التنوير، مع أنّ هناك أسماء بارزة من رواد التنوير هم من الماركسيين والاشتراكيين، مثل: فرح أنطون، ورفيق جبور، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المصري في العشرينات… والماركسي العراقي منذ العشرينات عبدالقادر إسماعيل البستاني، واليساري العراقي خريج الجامعة الأميركية في بيروت عبدالفتاح إبراهيم مؤسس حزب الاتحاد الوطني في العراق، والسياسي العراقي الديمقراطي المستنير كامل الجادرجي، والمثقفان المصريان الكبيران محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس صاحبا كتاب “في الثقافة المصرية” في العام 1955، والمفكر والأديب الللبناني رئيف خوري، والمعماري انطوان ثابت، وعبدالله باذيب في عدن، وغيرهم كثيرون.
وعلى نحو ملموس وعلى أرض الواقع، وأبدأ بأهم مشروع تحديث تقدمي شهده وطننا العربي الكبير، يتمثّل في تجربة اليمن الديمقراطي في ظل قيادة الجبهة القومية، التي حررت جنوبي الجزيرة العربية من الاستعمار البريطاني ووحدت إماراتها وسلطناتها التي زادت عن الأربع والعشرين إمارة وسلطنة ومشيخة لتشكّل دولة حديثة هي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بين نوفمبر/ تشرين ثاني 1967 ومايو/ أيار 1990، قبل اندماجها في إطار الجمهورية اليمنية، حيث تبنى المؤتمر العام للجبهة الذي انعقد في مارس/ آذار من العام 1968 بعد أربعة أشهر من الاستقلال أهدافاً تنموية طموحة تمثلت في: تنفيذ الإصلاح الزراعي فوراً، وتحويل الاقتصاد من الخدمات إلى الصناعة، ومكافحة الأمية في الريف.
وشهدنا على الأرض في اليمن الديمقراطي أسرع وأنجح تجربة لمحو الأمية، في بلد ريفي صحراوي، حيث أعلنت اليونسكو في 6 أبريل/ نيسان من العام 1985 أن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تحتل المرتبة الأولى من حيث التعليم في دول شبه الجزيرة العربية، ومعظمها دول نفطية ثرية، وكانت نسبة الأمية حينذاك في اليمن الديمقراطي لا تتعدى 2% من عدد السكان، وذلك فقط بعد نحو 18 عاماً على الاستقلال .
وشكّل قانون الأسرة (الأحوال الشخصية) الذي صدر في الأول من يناير/ كانون الثاني من العام 1974 خطوة كبيرة في اتجاه الإقرار بحقوق المرأة وتكافؤ الفرص بينها وبين الرجل، وهو قانون متقدم لا يقل أهمية عن القانون التونسي بشأن المرأة الصادر في العام 1956 وقانون الأحوال الشخصية العراقي الصادر في العام 1959، ولا ننسى هنا أن نشير إلى أنّ أحد أبرز قادة تلك التجربة هو المناضل المثقف والشاعر عبدالفتاح إسماعيل.
أما التجربة التحديثية الأخرى في الجزيرة العربية، التي قلما يجري الحديث عنها، فقد تمثلت في الانجازات الاجتماعية والثقافية التي حققتها الجبهة الشعبية ذات التوجه الماركسي عندما كانت تقود الثورة في إقليم ظفار جنوبي عمان بين 1965 و1975 في ظل ظروف التخلف والبؤس والفقر والاستبداد، ناهيك عن الهيمنة الاستعمارية البريطانية، حيث حررت آلاف العبيد في “المناطق المحررة” التي تمكنت من السيطرة عليها، ومنعت استخدام كلمة “حريم” واعتمدت تعبير “نساء” ودفعت باتجاه تحرير المرأة ومنع التمييز ضدها ووضعت قواعد تقدمية للأحوال الشخصية، وخصوصاً في قضايا الزواج والمهور والطلاق، وأطلقت حملة مكثفة لمحو الأمية، وكانت نواتها “مدرسة لينين” التي أسستها المناضلة البحرينية الراحلة هدى (ليلى فخرو)، وأوفدت بعثات تعليمية للدراسة والتدريب وإعداد الكوادر المهنية إلى عدد من الجامعات والكليات والمعاهد في الاتحاد السوفياتي السابق وبلدان شرقي ووسط أوروبا وكوبا وبعض البلدان العربية.
أما ثاني التوجهات التنويرية التي يجري تجاهلها عند الحديث عن التنوير والتحديث في بلدانا العربية، فهو التوجّه السلطوي التنويري والتحديثي بالاعتماد على الريع النفطي وجهاز الدولة، وليس بالانطلاق من دور العناصر المستنيرة في المجتمع من البرجوازية الوليدة والضعيفة، وهي أمثلة شبيهة إلى حد ما بالتجربة الرائدة لمحمد علي في مصر، وتتمثّل على نحو ملموس في التوجّه التحديثي والتنويري الذي قاده بعض شيوخ القبائل من الارستقراطيات العشائرية الحاكمة في بلدان الخليج، وهذا ما نجد أبرز نماذجه بعيداً عن أية أوهام حول طبيعته الطبقية أو مبالغات حول مداه وأبعاده أو تبجيل تتمثّل في الشيخ عبدالله السالم بالكويت، المثقف الموسوعي المستنير، الذي رأس مجلس الأمة التشريعي في العام 1938 على الرغم من كونه أحد أقطاب الأسرة الحاكمة، وذلك قبل الانقضاض السلطوي الاستعماري البريطاني عليه، وما أحدثه لاحقاً من إصلاحات واسعة وتحديث وتغييرات في بنية المجتمع والدولة عندما استلم الإمارة في العام 1950 قبل الاستقلال… وكذلك الشيخ زايد في أبوظبي، الذي قاد أهم تجربة اتحادية ناجحة في البلاد العربية بقيام دولة الإمارات في بداية السبعينات بعد الانسحاب البريطاني… وما أنجزه سلطان عمان قابوس من تحديثات سريعة في المجتمع والدولة، بعدما أزاح والده السلطان الرجعي سعيد بن تيمور لقطع الطريق على نمو الثورة في ظفار وامتدادها إلى مناطق أخرى من عمان والخليج.
والأهم أو الأبرز ما تشهده السعودية من عملية تحديث واسعة في إطار مشروع بناء دولة رأسمالية إقليمية بقيادة رأسمالية الدولة التابعة والمعتمدة على الريع النفطي، حيث لم يقتصر هذا المشروع على مشروعات سياحية وعقارية مثلما هي الحال في بعض دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، التي تحولت بعض مدنها إلى مدن كوسموبوليتية، ولم يحصر هذا المشروع الجاري في السعودية نفسه ضمن نطاق التحديث بمعناه الاقتصادي والتقني رغم أهميته، والذي تتمثّل أبرز عناوينه في الاستراتيجية الوطنية للصناعة التي تستهدف إنشاء نحو 25 ألف مصنع قبل العام 2035 منتشرة في مختلف أنحاء السعودية وليس في منطقة انتاج النفط في الشرقية مثلما هي الحال منذ الأربعينات، مع دمج جدي لقوة العمل السعودية عبر سياسة حازمة لما يطلق عليه هناك “السعودة”، وإنما ارتبط هذا التحديث الاقتصادي والتقني بتدابير ذات أبعاد حداثية وتنويرية تمثلت في تقليم أظافر المؤسسة الدينية وتحجيمها، خصوصاً هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوسيع هامش الحريات الشخصية بعيداً عن وصاية المؤسسة الدينية، على الرغم من عدم توسيع هامش الحريات السياسية والعامة، وإدخال تعديلات ملموسة وتحديثات على مناهج التعليم، والانفتاح الفني والثقافي على نحو ملحوظ في المهرجانات الفنية والفعاليات الثقافية ومعارض الكتب.
ولعله من غير الممكن تجاهل هذه العملية التحديثية ذات الأبعاد الحداثية، التي تجري في السعودية، والاستخفاف بها، ولكن في الوقت نفسه سيكون من الخطأ الاكتفاء بالانبهار بها والحماس المفرط تجاهها، وإنما لابد من متابعتها في حركتها وتطورها ودراستها وتحليلها والانتباه إلى ما تنطوي عليه من تحديات جدية وما يعتمل داخلها من تناقضات وصراعات قائمة، وإن كانت محكومة، وكذلك استشراف ما ستفرضه عملية التحديث هذه بأبعادها الحداثية من استحقاقات مستقبلية ستفرض نفسها على مستوى البنية السياسية للدولة السعودية، وخصوصاً استحقاق الحريات السياسية والمشاركة الشعبية، بالإضافة إلى استحقاقات العدالة الاجتماعية في ظل سطوة التوجهات النيوليبرالية.
وثالثاً، من حيث النطاق الجغرافي عند الحديث عن الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية، فإنه قلما جرى الالتفات نحوه عند تناول التنوير وتاريخ التنوير في بلادنا العربية، وهو الصراع حول التنوير، الذي شهدته مجتمعات الخليج والجزيرة العربية، التي جرى التعامل معها وكأنها صحراء قاحلة وبداوة جاهلة وأطراف مستبعدة وحقول نفط مستنزفة… وكثيراً ما تردد مثال متعالٍ يستخف بعرب الصحراء، بالقول: لو ركب البدوي الذي يمتطي الجمل سيارة حديثة فإنه سيبقى بدوياً، ولكن الواقع أبرز على نحو ملموس أنّ البدوي لم يكتف بأن يكون راكباً، بل إنه ساق السيارة وأمسك بمقودها وعرف كيفية تشغيلها وقيادتها، ولاحقاً تدرب كحرفي على كيفية إصلاح أعطالها، بل أنّه هناك في بعض بلدان الخليج اليوم بدايات لمصانع سيارات، تبدأ بالتجميع نعم، ولكنها تجاوزت بالتأكيد الاكتفاء بجلوس البدوي على مقعد السيارة، مثلما يفترض المتعالون من أصحاب هذا المثال الكاريكاتوري.
وسأضرب أمثلة على الحال في الكويت، حيث شهد المجتمع الكويتي منذ بدايات القرن العشرين سلسلة من الصراعات الجدية والمعارك المتتالية بين عناصر الاستنارة والإصلاح والتحرر والتحديث من جهة وبين قوى الرجعية السياسية والدينية والاجتماعية من جهة آخرى، التي تستحق إبرازها كعناوين لمعارك التحديث والتنوير، ومن بينها:
ـ مبادرة المجتمع المدني لتأسيس التعليم الحديث عبر التبرع لإنشاء المدرسة المباركية في العام 1910، على الرغم من تحفظ الحاكم حينذاك، وبعدها مبادرة تأسيس المدرسة الأحمدية في العام 1921، والصراع الذي أثارته العناصر الرجعية ضد مناهج العلوم العصرية وتعليم اللغة الإنجليزية وتصدي العناصر المستنيرة مثل الشيخ يوسف بن عيسى القناعي والشيخ عبدالعزيز الرشيد، ولاحقاً الشيخ حافظ وهبة، وكذلك الأديب والشاعر خالد الفرج، الذي أعد ونشر رسالة في العام 1926 تحت عنوان “الدلائل البينات في حكم تعليم اللغات”… وهناك الضجة التي أثارها المتزمتون بقيادة الشيخ عبدالعزيز العلجي ضد إنشاء مطبعة في الكويت عام 1928.
ـ معركة الجهراء في أكتوبر/ تشرين أول 1920 التي شنتها جيوش القوى الظلامية المسماة “إخوان من طاع الله” ضد الكويت لفرض تصورهم الديني المتشدد على المجتمع الكويتي.
ـ معركة الاختلاط “الدراسة المشتركة بين الجنسين” في جامعة الكويت، التي اندلعت في 13 نوفمبر/ تشرين ثاني 1971 عندما اقتحمت عناصر الأحزاب الدينية ندوة تحت عنوان “عدم الاختلاط في الجامعة… إلى متى؟” التي أقامها الاتحاد الوطني لطلبة الكويت، عندما كان تحت قيادة اليسار، وأدت إلى حدوث اشتباكات وأعقبتها تداعيات وعقد جلسة خاصة لمجلس الأمة، وتمكنت القوى الدينية في العام من إقرار قانون بمنع الاختلاط حمل الرقم 24 لسنة 1995، ومع ذلك استمرت معركة الاختلاط قائمة إلى السنوات الأخيرة، إلى أن حسمت المحكمة الدستورية الأمر في العام 2015 بعدم دستورية قانون منع الاختلاط.
ـ حملات الملاحقة القضائية المتتالية التي نفذتها القوى الرجعية ضد الكتّاب والأدباء والفنانين المسرحيين المستنيرين، وبينهم د. أحمد البغدادي، والروائية ليلى العثمان، ود. عالية شعيب، والفنان عبدالحسين عبدالرضا لدوره في مسرحية “هذا سيفوه” في العام 1987.
ـ معارك المطالبة بإقرار الحقوق السياسية للمرأة، التي اتخذت منذ بداية السبعينات أشكالاً متنوعة من التحركات عبر عقد الندوات وتقديم التوصيات واقتراحات القوانين إلى مجلس الأمة والنزول إلى الشارع في مسيرات والحضور الحاشد لجلسات مجلس الأمة المقررة لبحث القانون، والمسلسل الطويل من التقاضي أمام المحاكم، إلى أن حسم الأمر لصالح إقرار الحقوق السياسية للمرأة في العام 2005.
ـ الصراع الذي دار بين نواب الأحزاب الدينية والعناصر الديوقراطية والمستنيرة في مجلس الأمة وفي المجتمع الكويتي حول محاولات تنقيح المادتين الثانية والتاسعة والسبعين من الدستور لفرض الشريعة الإسلامية، التي بدأت في العام 1973 وتكررت في الأعوام 1975، و1981، و1992 و1997، 1998، و2012، وصولاً إلى العام 2022.
ـ الصراع بين القوى المتشددة والعناصر المستنيرة في المجتمع الكويتي منذ العام 1999 حول الرقابة الحكومية المتشددة على الكتب بتحريض من نواب الأحزاب الدينية، واستمرت إلى العام 2018، وأدت إلى إسقاط حكومة في العام 1999، وقد اتخذت أشكالاً متنوعة من السجالات في الصحافة وتحت قبة البرلمان في مواجهة استجوابات نواب الأحزاب الدينية، ووقفات الاحتجاج المتكررة على الرقابة أمام معرض الكتاب وفي ساحة الإرادة وعقد الندوات العامة، إلى تراجعت الحكومة وخففت من تعسفها الرقابي على الكتب.
هل تواجه الاتجاهات التنويرية في بلادنا العربية مشكلات عابرة قادرة على تجاوزها؟ أم أنها تواجه أزمة مستعصية؟
هناك مَنْ يرى أنّ التنوير العربي قد فشل، وهناك مَنْ يرى أنّ التنوير العربي لم يفشل لأنه لم يبدأ، وآخرون يرون أنّ التنوير العربي تعطّل ولم يفشل ولكنه لما يكتمل بعد.
وأقترح هنا قراءة مقالة هامة للأستاذ الدكتور صالح شقير تحت عنوان “إخفاق التنوير العربي” نشرها في (مجلة جامعة دمشق، المجلد 30، العدد 1+2 العام 2014، الصفحات من 393 إلى 438). ومما جاء في تلك المقالة: “ليس منطقياً أن نحكم بالإخفاق على بدايات تجربة “التنوير” العربية” التي لم تتضح لنا تماماً، ولم تستمر، ولم تكتمل، إذ كانت الجهود أشبه بالفردية، فلم يشكّل التنويريون تياراً مترابطاً يرتكز على إنتاج معرفة جديدة، انطلاقاً من توجهات فلسفية، فالقاسم المشترك بين كثير منهم هو تأثرهم بالثقافة الغربية، خاصة الفرنسية، ومن ثمّ بفلسفة الأنوار الأوروبية، إلا أنهم لم يمارسوا القطيعة المعرفية التي تؤدي إلى نقد عميق للإرث الثقافي وشوائبه” (ص 394).
وفي موقع آخر من مقالته الهامة يطرح الأستاذ الدكتور صالح شقير في أسئلة مثل “لماذا أخفق وانتكس فكر التنوير ومشروع النهضة العربية منذ نشوئه في أواسط القرن التاسع عشر؟ ولماذا نجحت مشاريع متزامنة معه أو لاحقة عليه في مناطق ومجتمعات أخرى من العالم؟ وهل هناك إمكانية لاستئناف ذلك المشروع من جديد في مفاصله الأساسية ضمن بيئة وظروف داخلية وخارجية مغايرة ومعقدة؟” (ص 428).
كما ينقل الأستاذ الدكتور صالح شقير في مقالته عن المفكر طيب تيزيني أن سبب إخفاق التنوير العربي يعود إلى مسألتين: الأولى تزامن مرحلة النهضة الأولى مع ظاهرة الاستعمار، بحيث طغت قوة الاستعمار على فكر التنوير العربي الناشئ… والثانية هي التأثيرات السلبية للريع النفطي والانقلابات العسكرية والنظام العالمي الجديد.(ص 429).
فيما يستنتج الأستاذ الدكتور صالح شقير “أنّ أسباب انتكاس متعددة ومتنوعة بلا ريب، ولكن السبب جوهري يبقى في نظرنا غياب الدولة المدنية الحديثة القائمة على مؤسسات دستورية…” (ص 432).
ولست هنا في موضع التقليل من أهمية هذه العوامل والأسباب، ولكني أرى أنّ موضع العوامل والأسباب الأساسية التي تقف وراء تعثّر التنوير العربي يقع في مكان آخر، يتمثّل:
ـ غياب، أو لنقل ضعف الحامل الاجتماعي البرجوازي للتنوير، بل وللتحديث والحداثة، على خلاف الحال في أوروبا، وذلك بسبب الطابع الكمبرادوري الريعي الطفيلي الكولونيالي التابع للبرجوازيات العربية التقليدية، بالإضافة إلى تحوّل البرجوازيات الصغيرة الحاكمة في بعض البلدان العربية عبر الانقلابات العسكرية إلى برجوازيات بيروقراطية طفيلية، وسطوة الارستقراطيات العشائرية الحاكمة في البلدان ذات الأنظمة الوراثية بوصفها الفئات المهيمنة ضمن التحالف الطبقي المسيطر، مع محدودية أفقها وتخلف بنيتها وعقليتها، وهذا ما يفسر جانباً من ضعف ومحدودية تأثير التيار الليبرالي في المجتمعات العربية وعزلته، ولكن هذا التوصيف وكذلك الاستنتاج العام لا يعني القطع بانسداد أفق تحقيق مستويات من التحديث وبالتالي نشر التنوير في بعض البلدان والمجتمعات العربية في حال توافر عوامل موضوعية أو ذاتية تساعد على ذلك .
ـ على الرغم من نيل غالبية البلدان العربية استقلالها السياسي الشكلي، إلا أنه لا يمكن تجاهل علاقات التبعية القائمة للمراكز الإمبريالية، وتبعية البنى الرأسمالية الكمبرادورية في معظم بلداننا ذات التكوين الريعي والمؤدية لدور وظيفي متخلف في إطار التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل موجّه بالأساس نحو خدمة متطلبات تجديد الانتاج في المراكز الإمبريالية، وما رافق هذا من تعزيز للأنظمة السياسية التابعة بحكم ارتباطاتها ومصالحها الطبقية، بالإضافة إلى امتداد سياسات وممارسات التحكّم الإمبريالي لتشمل ليس الاقتصاد والسياسة والأمن فحسب، وإنما الثقافة والتعليم والفكر السائد في بلداننا، بدعم من الكيان الصهيوني العنصري العدواني بوصفه القاعدة المتقدمة للسيطرة الإمبريالية في المنطقة، ما أدى إلى تعطل التحديث وانسداد أفق التنمية والتقدم.
ـ استمرار البنى التقليدية السابقة للرأسمالية، مثل البنى القبلية والطائفية، بل إعادة احيائها وانتاجها على الرغم من تلاشي الأساس الاقتصادي لها، وذلك لتقوم بدور وظيفي في تقسيم المجتمع وخلق تناقضات وصراعات وهمية وبناء استقطابات بما يخدم تعزيز الهيمنة الأمبريالية والسيطرة الطبقية للبرجوازيات التابعة والارستقراطيات العشائرية الحاكمة، ونلاحظ هنا على سبيل المثال ما شهده العراق من نظام محاصصة طائفي من جهة وإحياء للمكون العشائري من جهة أخرى، ووجود ما يسمى “قانون العشائر” في الأردن أو ما يسمى “قانون الإشراف على البدو” الذي لا يزال معمولاً به منذ العام 1924، والانتخابات الفرعية الطائفية والقبلية في الكويت التي تسبق الانتخابات النيابية، وذلك قبل تجريمها، وامتدادها إلى الأجيال الشابة الجديدة عبر اختيار ممثلي القبائل في قوائم الانتخابية لانتخابات الحركة الطلابية.
ـ ما قامت به معظم الأنظمة العربية خلال عقدي السبعينات والثمانينات من تمكين للتيار الديني بأحزابه وجماعاته وثقافته وأدبياته الرجعية وفرض أنماط سلوكه تحت مسمى “الصحوة الدينية” وذلك لاستخدامه في تعزيز سيطرتها على المجتمعات وتصديها للتيارات الوطنية والديمقراطية والتقدمية والقومية واليسارية المعارضة لتلك الأنظمة والعمل على إضعافها، بالتزامن مع استخدام القوى الإمبريالية لبعض قوى هذا التيار الديني في مواجهة الاتحاد السوفياتي خلال فترة الحرب الباردة، مثلما حدث في أفغانستان… والدور الذي جرى استخدامه للعاملين الأخيرين في الحروب الأهلية والصراعات المسلحة في العديد من بلداننا العربية.
ـ تركيز التنويريين العرب، وبالأساس الليبراليون منهم، على توجيه سهام النقد إلى الموروثين الديني والاجتماعي التقليدي، وتجاهل النضال من أجل تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المتخلف الذي انتجها وأعاد انتاجها ووفر الأرضية لاستمرارها، ما أدى من جهة إلى عزلتهم وأدى من جهة ثانية إلى عدم التركيز على مصدر العلّة نفسه على أرض الواقع، والتركيز بدلاً من ذلك على انعكاس ذلك الواقع على مستوى الوعي.
سبل خروج التنويريين العرب من أزمتهم:
إنّ خروج التنويريين العرب من أزمتهم مرتبط بالأساس بفهم لأسباب هذه الأزمة وللعوامل التي أدت إلى تعطيل التحديث والتنمية وكرست التخلف.
وأظن أنه من الوهم انتظار تشكّل برجوازيات وطنية مستقلة في بلداننا، فهي بحكم مصالحها وارتباطاتها وظروف تشكلها ضعيفة وتابعة ومرتبطة باقتصادات وأنشطة ريعية وطفيلية مضاربية، والبديل في الغالب قد يكون عبر تشكّل بدايات مشروعات رأسماليات دولة، أو عبر طريق التنمية الوطنية المستقلة المعتمدة على الذات بالاستناد إلى مصالح الجماهير الشعبية الواسعة، ومن خلال إصلاحات سياسية ديمقراطية تفرضها حركة الجماهير وقواها التقدمية والوطنية والديمقراطية، أو تفرض التغيير بتحقيق مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية بمعزل عن دور قيادي للبرجوازية الوطنية مثلما كان سائداً.
وبحيث يتحقق في هذا السياق:
ـ تفكيك وكسر علاقات التبعية وصولاً إلى تصفيتها.
ـ تفكيك أنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف والفساد عبر انتزاع مكاسب ديمقراطية وصولاً إلى إقامة أنظمة حكم وطنية ديمقراطية عادلة اجتماعياً.
ـ بناء اقتصادات منتجة، ونسج علاقات اقتصادية متكافئة مع الخارج من خلال توثيق علاقات التبادل مع الدول الصاعدة والمتحررة.
ـ تفكيك البنى التقليدية القبلية والطائفية.
ـ التصدي للتيارات الدينية الرجعية، وكشف المحتوى الرجعي والطبقي الرأسمالي الطفيلي والدور الوظيفي المتخلف لها.
ـ تجنب فخّ الصراع مع الدين بشكل مستقل، والتركيز على فهم العلاقة بين الدين والمجتمع، وعدم الانشغال بالتركيز فقط على نقد للدين نفسه نقداً فكرياً معرفياً، أو توجيه النقد الأخلاقي والسياسي للمؤسسة الدينية، وإنما علينا أن نهتم بالصراع مع الفكر الديني من حيث هو فكر تبريري للمجتمع الطبقي وللظلم الطبقي وللتفاوت الطبقي ولعلاقات الانتاج الاستغلالية ودعوته الجماهير الشعبية للخضوع والاستسلام ونشره للأوهام ومحاربته للعلم والفن والثقافة ومشروعه الرجعي لإقامة دول دينية.