الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

محن اليسار المغربي

 

 

مبارك المتوكل/المغرب

 

 

لفظة اليسار بالمعنى السائد اليوم مفهوم جديد على المجتمع المغربي لأن الصراعات التي كانت تقوم من أجل تضارب المصالح وخاصة حول الكلإ أو الماء لم تتخذ شكلها ولا بعدها الطبقي الذي كثيرا ما كان يغلف بغطاء قبلي أو سلالي، لأن المعرفة التي كانت سائدة آنذاك كانت معرفة يتساوى فيها المعلمون، المتعلمون والأميون، ولم تكن تتجاوز حفظ القرآن وبعض المتن في الفقه أو الشرع أو اللغة .

 

إلا أنه كان على كل متطلع للترقي في سلم الجاه والحضوة الاجتماعية أن يتوفر ولو على نصيب يسير مما توفره وسائل التعلم المتاحة حينئذ، مع ما يتلقاه طالب العلم من شروح على يد شيخ يجيزه في إحدى المعارف، من خلال حفظ و ضبط محتوى متن يوفر الاستجابة لما يحتاجه المجتمع من معرفة تتعلق بالدين والدنيا . وكانت تطلعات حملة المعرفة غالبا ما تواجه من طرف السلطة المستبدة إما بتسخيرها واستغلالها أو بقمعها وإرهابها.

 

وإذا كان بعض “العلماء” قد نالوا الحظوة عند السلطان فأصبحوا قضاة شرعيين أوموثقين (عدول) أوحجابا أو كتبة ومدرسين للأمراء، ومؤرخين لفتوحات السلطان وبطشه بخصومه ومعارضي سياساته، فكونوا بذلك حاشية تمجد الاستبداد وتبرر فضائعه، أو في أحسن الأحوال تسكت عنها.

 

وبالطبع كان من أول من سيكتوي بنار الطرفين أولائك المتنورون الذين نالوا حظا من المعرفة السائدة، لكنهم اطلعوا على القيم الإنسانية التي بدأت نسائمها تهب من الشرق ومن الغرب، والتي بلغت إلى المغرب عبر ما يرد عن طريق الرحلات والأخبار والصحف والكتب القادمة من المشرق وما تحمله من دعوات وآراء جديدة كان لها تأثيرها على النخبة المدينية وعلى المتنورين من أبناء البادية .

 

رفعت شعارات تعبر عن مطالب تجاوزت ما كان يطلب في شروط البيعة التي تربط بين السلطان والرعية، والمبنية أساسا على حماية الحدود والدفاع عن الملة. وكثيرا ما كان الإخلال بشروط البيعة يفضي إلى طرح المطالب والدفاع عنها سلميا أو بالقوة، وكانت الفتنة لا تنتهي إلا بالقضاء على دعاة الاصلاح بطرق لا تمث بصلة للقيم الدينية ولا لأبسط المبادئ الإنسانية.

 

ولعل معاناة الشيخ الحسن الريسوني و محنة الشيخ عبد السلام جسوس أبلغ وأوضح نموذجين لمعاناة حملة الفكر المتنور. فإذا كان السلطان إسماعيل قد فرض على الأول عدم الاستقرار أكثر من أربع سنوات في مكان واحد حتى لا يخلق أتباعا ومريدين، فإن نصيب الثاني وعلى يد نفس السلطان كان التتريك (مصادرة الممتلكات وتشريد الأسرة) والاعتقال والتحقير لعالم رفض أن يفتي في نازلة لم يقتنع بها و بمشروعيتها. وتعتبر حالة الشهيد محمد الكتاني أوضح وأفضح نموذج لتعامل السلطان عبد الحفيظ مع دعاة الاصلاح في مطلع القرن الماضي.

 

إن ظاهرة المحميين الذين استغلوا علاقتهم بالقنصليات كتراجمة ومستخدمين، أو ارتبطوا بالتجار الأجانب كسماسرة و مشاركين أو مخالطين،الذين نالوا حماية الدول الغربية التي كانت تسعى إلى إضعاف المغرب الضعيف أصلا، عبر اقتراح عدد من الإصلاحات جعلت السلطان عبد العزيز يحاول أن يرضيهم بإشراك بعض من رعاياه في تدبير شؤون الدولة، فكون مجلسا للأعيان لم يلبث أن استضم بالتطلعات الدستورية لأفراده الذين دعوا إلى نوع من الملكية البرلمانية متأثرين في ذلك بما عرفته الدول الغربية، أو ما بدأ يعرفه الشرق العربي وما واجهته الدولة العثمانية من دعوات دستورية، غير أن الاستبداد المخزني لم يكن مستعدا لهذا النوع من التنازل لينتهي به الأمر الى حل ذلك  المجلس .

 

إن شراسة المخزن واستبداده أديا إلى انتشار الفساد بكل أنواعه من رشوة ومحسوبية واختلاس مما سيؤدي إلى النتائج والكوارث التي سيعرفها مغرب بداية القرن العشرين، والتي لا زلنا إلى اليوم نعاني من نتائجها ومن استفحال مظاهرها.

 

ولعل من أبرز مظاهر هذا الفساد تلك الملفات التي وقفت عليها مؤسسات كلفت رسميا بمحاربة الرشوة ومراقبة الحسابات، وحاولت جمعية حماية المال العام جاهدة تحريك ملفاتها لدى السلطات القضائية لمحاسبة المفسدين .

 

يجب أن لا ننخدع بالمظاهر والشعارات، لأن الفساد والمحسوبية والنهب على رؤوس الأشهاد ودون محاسبة أو عقاب هو العام والسائد، ولا يعتبر اعتقال السيد مبديع ومن معه إلا الشجرة التي لا يجب أن تحجب غابة الفساد التي يمرح فيها كبار المفسدين المحميين من مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة، لأن دولة المخزن تمنع أو تعطي من غير الخضوع لأي حساب، ومن اعتبر نفسه فوق المحاسبة لن يحاسب خدامه على تجاوزاتهم.

 

تلك سنة الأنظمة المستبدة إلا استثناءات قليلة، ومن هنا تبدأ محنة اليسار.  فلا إنصاف كان لضحايا الريف ولا محاسبة على اغتيال شهداء ومغيبين، لا قبور لهم ولا أخبار عنهم لرفاقهم ولذويهم . ولعل ما كشف وفضح الاختفاء القصري أكثر هو ما رافق اختطاف واغتيال الشهيد المهدي بنبركة، الذي اجتمعت كل قوى الشر في العالم على تصفيته. لقد تعاون سدنة النظام المخزني مع شياطين الصهيونية وخبثاء وكالة المخابرات الأمريكية وحثالة مجرمي فرنسا وشرطته، لأن المهدي كان يزعجهم جميعها. غاب المهدي وظل القابضون على الجمر من يساريي المغرب يقدمون التضحيات، ولا زال اليسار يقدم قرابين من خيرة شبانه وشاباته وأطره.

 

اعتقد الناس أن نهاية القرن العشرين قد جلبت معها تحولا في العقلية والسلوك وخاصة بعد محاولة طي صفحة الماضي عن طريق ما سمي بالإنصاف والمصالحة، وكنا حينها قد نبهنا إلى أنه لا يمكن أن نطوي صفحة تحمل كثيرا من الآلام والهموم والمعاناة من غير أن نقرأها ونرتب عليها رد الاعتبار للضحايا، والمصالحة مع الجلادين بضمان عدم الرجوع الى نفس السلوكات و الممارسات . وأنفقت أموال وسمح للمغتربين بالعودة، وأعتقد البعض أن عهدا قد بدأ وأن أبواب السجون لن تفتح مجددا إلا في وجه اللصوص والمختلسين وعتاة المجرمين. لكن المفاجئة كانت كبيرة  عندما بدأ اعتقال الصحفيين والمدونين والنقابيين، وكل من سولت له نفسه المطالبة بحق من الحقوق. ولعل قسوة الأحكام على نشطاء الريف وجرادة وزاكورة…لا تكفي لتظهر أن شيئا لم يتغير في هذا الوطن السعيد .

 

لقد أصبح على اليساري أن يختار بين أمرين أحلاهما مر، فإما أن يلتزم الصمت وينتظر التغيير الذي يأتي و قد لا يأتي، أو أن يتحمل مسؤولية فضح زيف الديمقراطية التي تسمح بقمع حق التظاهر وحرية التعبير، وتقدم الخصوم إلى المحاكم بأحط التهم.

 

إن مسؤولية اليساري في هذا الواقع الرديء هي التصدي لكل أنواع التضليل والبهتان وكشف الأكاذيب المتسترة وراء شعارات الدولة الاجتماعية ومشاريع التنمية، لإخفاء كل أشكال التسلط والنهب والاختلاس والفساد وتبادل المصالح، والبحث عن كل الصيغ التي تخول حرمان الشعب المغربي من أبسط حقوقه في حياة كريمة، لينعم الأسياد بالوفرة في الزاد ورفاهية الأقرباء والأولاد، والتباهي بفائض النعمة غلى الأقران والأنداد. و لعمري، ذلك ما استهوى العديد ممن يدعون الانتماء الى  اليسار  للتهافت على فتات موائد الأسياد ناسين أو نابذين الزمان الجميل وما رفعوا خلاله من شعارات وما رافقتهم من أحلام وتطلعات.

لقد كنا صغارا وكانت احلامنا كبيرة. ولما كبرنا أخذت أحلامنا تتقلص وتصغر كجلد الفرا في رواية بالزاك .

 

إن إخطر ما يهدد اليسار ويؤدي إلى تفككه وشردمته، هو ذلك الإحساس بالتفوق لدى البعض، أو التمسك بشعارات كان لها دور في مرحلة ما لتعبئة الجماهير وحشد عزيمة المناضلين لمواجهة التحديات والصمود في وجه أعتى العتاة المفسدين، الذين يسخرون كل أدوات القمع والتضليل لتفكيك كل التنظيمات عن طريق الإغراء حينا والإرهاب والقهر في أغلب الأحيان.

 

لقد استطاعت الدولة أن تقضي على كل أدوات الفكر والمعرفة التي كانت تنور أفكار المتعلمين وذويهم للتوعية و الانتشار بين الجماهير، حيث كان اليسار يجد فضاءه المناسب لممارسة نشاطه و نشر مبادئه وقيمه. فتم عن قصد تدمير المدرسة العمومية والاستغناء عن تدريس مادة الفلسفه واغلاق معهد الدراسات الاجتماعية… الى جانب منع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب كمنظمة طلابية جماهيرية، تقدمية،ديمقراطية و مستقلة واستحداث دار الحديث الحسنية الى جانب شعبة الدراسات الإسلامية، الأمر الذي أدي إلى تحويل الجامعة من مركز تنوير إلى مؤسسة للتضبيع. إهذا السلوك كان يترجم بشكل واضح أن النظام المخزني كان على علم و قصد  بخطورة اختياراته هذه.

 

لقد استفاد النظام من التجربة التي كان اليسار يوفرها عبر تنظيماته السياسية وعبر الجمعيات التي كان يؤطرها. وكما أنه استفاد من خريجي الجامعة عندما كان الاتحاد الوطني لطلبة المغرب مكملا للتكوين الجامعي بل كان أحيانا كثيرة مكملا ومصححا لما قد تقدمه الجامعة من معلومات وآراء لا تنسجم مع الحداثة وما يعرفه العالم من تحولات.

 

التجأ النظام بتوجيه من المؤسسات الدولية إلى تهميش المدرسة العمومية وفتح المجال للتعليم الخصوصي الذي وفر أطرا للدولة تخرجوا من مدارس البعثات أو تلقوا تكوينهم في الخارج، فأصبحوا بمتابة غرباء لا يربطهم أي رابط بالشعب المغربي ولا بقيمه وتقاليده وأخلاقه وعاداته، لذلك تراهم وقد تقلدوا المواقع العليا لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية، فهم لا يختلفون عن المعمر الذي استغل البلاد والعباد إلا في الأسماء المسجلة على بطاقات التعريف، والتي لم تكن البطاقة الوطنية المغربية إلا واحدة منها. فليس غريبا أن يتحول هولاء إلى ناهبين للمال العام ومستعدين لتبني كل الأفكار والمبادئ التي لا  تتناقض مع قيمنا و أخلاقنا  فقط بل مع  كل القيم والأخلاق التي تواضع البشر على أنها الحدود الدنيا للعلاقات الاجتماعية.

 

إن قمع اليسار وتهميشه وضرب الخدمات العمومية من صحة وتعليم وتشغيل وسكن أدى إلى تفسخ المجتمع وانتشار الرذيلة والاستهتار بالقيم وتحقيرحماتها، وشيوع الدجل وانتشار الخلاعة والشعوذة، واستغلال التراث العربي والإسلامي كوسائل للارتزاق والنصب والاحتيال، من أجل بلوغ غايات وأهداف أنانية تخدم المصالح الخاصة لكنها تعود بالوطن والمواطن إلى عصور الجهل والظلام، وكأن المغرب لم يعرف ثورة اجتماعية ولا نهضة فكرية سعى اليسار إلى ترسيخها وقدم جسيم التضحيات في الدفاع عنها.

 

إن لجوء الدولة إلى الإغراء حينا وإلى القمع والإرهاب في أغلب الأحيان، وإلى التضليل كأخطر أنواع القمع، حسب تعبير الشهيد عمر بنجلون بمهارته وباعه الطويل، جعلها تبدع وسائل وأدوات أدت إلى شرذمة اليسار نتيجة ما زرعت أجهزتها وعملاؤها المأجورين من دعايات واتهامات لحملة الرأي، من المناضلين الأوفياء للتراث الفكري الذي نتج عن تلاقي الفكر العربي الإسلامي الأصيل بأمهات النظريات الإنسانية المستفيدة من تطورات الفكر البشري، وما أنجزته الثورات الاجتماعية من اكتشافات طورت علاقة الإنسان بمحيطه وقضت على ما رافق العقل البشري من أساطير وخرافات.

 

لقد استطاعت أجهزة الدولة المتخصصة في التدليس والتضليل أن تخلق الفرقة بيت مختلف مكونات اليسار، وذلك عن طريق بث عناصرها بين صفوفه أو استقطاب بعض عناصر برزت في حضنه وتمكينها من مواقع داخل السلطة . وقد توفقت  في دمج عناصر كانت يسارية متطرفة رفعت في مرحلة معينة شعارات جرتها إلى السجن بأحكام ثقيلة لكن أدوات النظام استطاعت أن تجرها الى صفوفها و تحولها من فعاليات يسارية إلى وسيلة لقمع اليسار، أو أدوات تنظر للنظام ثقافيا وفكريا، مما أساء إلى سمعة اليسار وزرع  الشك والريبة لدى عموم الجماهير خاصة في غياب أدوات إعلامية تنور الطريق وتفضح المتخاذلين وتواجه الإعلام الرسمي المضلل بالحقائق الدامغة وتقرع الحجة بالحجة، مما يؤكد أن توحيد اليسار بدمج مخلصي اليساريين في تنظيم موحد لا يكفي، بل الضرورة تقتضي السعي إلى تمكين حزب فدرالية اليسار الديمقراطي من أدوات الإعلام والتواصل حتى يستطيع أن يوصل آراءه إلى مختلف الشرائح الاجتماعية ويتمكن عن طريق الصراع النظري من الكشف عن زيف ادعاءات الحاكمين، وتعرية كل من يدعي الانتماء إلى كل الجهات التي تعمل عن قصد أو قصور في الإدراك، على تضليل الشباب حتى يقدم الخدمة مجانا أو مقابل أجر إلى الطبقة المسيطرة، وإلى شرائحها العليا المالكة لأدوات الإنتاج والمتحكمة في أدوات القمع والتضليل .

 

بعد هذه الاطلالة المختصرة، يحق لنا أن نتساءل: هل حزب اليسار الديمقراطي، بنجاح مؤتمره الاندماجي وإرساء أجهزته التقريرية والتنفيذية قد خلق الحدث؟  هل سيكون تلك الأداة السياسية و الجماهيرية التي ستترجم عودة اليسار بشكل قوي في الساحة السياسية؟ هل سيسجل تغييرا جديدا في تاريخ السياسة في المغرب علما أن هيكلته كحزب جديد، تمت عن طريق تجميع أحزاب و فعاليات يسارية تقدمية إلى جانب حملة الفكر المرتبطين عضويا بعموم الجماهير والمدافعين عن قيمها ومصالحها، بدل الانشقاقات و النزاعات الزعماتية  كما هو الشأن بالنسبة  للأغلبية الساحقة للأحزاب السياسية المغريية؟

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

One Response

  1. من المؤكد أن اليسار يعيش ازمة فكر ونظرية تفاقمت بشكل مهول بعد 2020.
    الأخطر من وجهة نظري ليس التأخر في معالجة هذا النقص بل في تبعاته المتمثلة في فراغ استراتيجي قاتل و غياب خط سياسي واضح و فعّال كل هذا يترجم في تفسخ تنظيمي ……..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات