الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

الاستقلال العسكري والاستعمار اللاعسكري

من القابلية للاستعمار إلى القابلية_للاستقلال

عبد المولى المروري – المغرب

 

لقد مر على “استقلال” المغرب من الاستعمار الفرنسي حوالي خمس وستين سنة، هذا الاستعمار الذي عمر – فقط – أربع وأربعين سنة، هذه المدة كانت كافية ليعيش المغرب تداعياته إلى حدود اليوم، ويربط مصيره واقتصاده وقراره السياسي بفرنسا.. وهذا ما يصطلح عليه “التبعية”، هذه التبعية أخذت أشكالا متعددة (سياسية، ثقافية، واقتصادية).

 

لقد لعب الوجود العسكري الفرنسي دورا مهما في إخضاع المغرب، لا يجادل في ذلك كل قارئ متتبع للتاريخ، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن أن ننكر وجود خونة سهلوا مهمة فرنسا من أجل بلوغ ذلك الإخضاع والاستمرار فيه، منهم خونة من داخل الدولة الرسمية آنذاك، ومن السياسيين والمثقفين والتجار .. ومن بعض عوام الشعب الذين كانت تربطهم مع فرنسا مصالح معينة، أو استفادوا من عطاياها ومزايا قدمت لهم..

 

إلا أن الوجود العسكري كان مكلِّفا لفرنسا ماليا (الإنفاق)، ولوجستيكيا (العتاد)، وبشريا (قتلى من الجانب الفرنسي)، فكان من الضروري – ومع ظهور موجة حركة التحرر العالمي وحصول العديد من الدول على استقلالها – أن تُخرِج جيشها من التراب المغربي مع الإبقاء على أخطر شكل من أشكال الاستعمار، وهو الاستعمار الثقافي والاقتصادي، ورهْن القرار السياسي المغربي بيد فرنسا.. وفي رأيي أن ذلك تم بتوافق الإرادتين الإداريتين الفرنسية والمغربية، أي إلغاء الشكل العسكري الذي يعكس المظهر الخارجي للاستعمار، والإبقاء على الشكل الاقتصادي والثقافي الذي يعكس الوجه الخفي للاستعمار..

 

لقد خرجت فرنسا عسكريا وبقيت ثقافيا واقتصاديا، وهذا واضح من خلال مئات الشركات الفرنسية في السوق المغربية، والتحكم في أهم القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، والتمكين الفعلي المؤسساتي للمثقفين الفرنكفونيين العلمانيين في الساحة الثقافية (يتامى وغلمان فرنسا)، الذين ينادون بإقصاء اللغة العربية لفائدة اللغة الفرنسية والدارجة المغربية في قطاع التعليم.. وتهميش التربية الإسلامية وإلغاء بعض سور وآيات القرءان الكريم في التدريس…

 

إن الحديث عن الاستقلال يكذبه واقع التبعية الواضحة لفرنسا، التي لا ترغب الجهات الرسمية من إنهاءه وفك الارتباط الاقتصادي والثقافي مع الدولة المستعمِرة.. لترابط وتشابك المصالح التي لا يعلم الشعب المغربي عنها إلا القليل، الذي رشح وطفى على السطح الإعلامي عبر وسائل الإعلام الأجنبية على وجه الخصوص..

 

لن يتحقق الاستقلال الحقيقي عن فرنسا إلا بتحقق وحلول القابلية للاستقلال محل القابلية للاستعمار. لقد سبق للمفكر الكبير مالك بن نبي أن تحدث عن ظاهرة قابلية الشعوب العربية للاستعمار، موضحا ومسهبا في أن ذلك كان مقدمة لدخول الاستعمار بكل أشكاله.. لقد كانت الشعوب العربية قبل وخلال ذلك مهيأة لدخوله بسبب جهلها وتخلفها الفكري، وكانت الأنظمة السياسية مهيأة بضعفها وتواطئها، وكان العلماء والمثقفون مهيأون لذلك بسبب انشغالهم بهامش الدين والخرافات، والبعد عن العلوم الحديثة والمعاصرة حينها.. كل هذه المعطيات والمقدمات شكلت في مجموعها قابلية هذه الشعوب لاستقبال الاستعمار والتمكين له عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، والتمكين الأخير هو الأخطر والأدهى.

 

فخلال بقاء الاستعمار لما يقارب من أربع وأربعين سنة، استطاع أن يغير الكثير من الأمور في البنية المغربية، على المستوى الإداري والقانوني والاقتصادي والسياسي والثقافي.. وهو “الاستعمار اللاعسكري” ، أما الوجود العسكري فما كان إلا أداة من أدوات الإخضاع والتمكين للاستعمار الأخطر والأطول والأعمق.. حيث استهدف الاستعمار اللاعسكري أجهزة العقل والفكر والنفس كما استهدف الثقافة والاقتصاد والسياسة.. هذا الاستعمار الذي بإمكانه أن يعمر أطول من الاستعمار العسكري، والدليل هو وجوده واستمراره إلى حدود اليوم.. وما يزال مرشحا للاستمرار..

فقبل خروجه، أمن الاستعمار الفرنسي لوجوده وبقاءه من خلال شركاته ومؤسساته الثقافية، ومن خلال صناعة أتباع ومريدين مخلصين له من طبقة السياسيين والمثقفين ورجال الأعمال ورجال الدولة، يسهرون على استمرار مشروعه الاستعماري في شكله اللاعسكري قليل التكلفة، بل أحيانا بأموال هؤلاء الموالين له الخدام على بقاء وجوده ومشروعه.

 

لذلك، ومن أجل الإنهاء الكلي للاستعمار اللاعسكري وتصفية تركته وبقاياه (من البشر والمؤسسات)، لابد من الخروج من حالة القابلية للاستعمار التي ما تزال حية في أوصال وشريايين البلد إلى حالة القابلية للاستقلال، وهذا الأمر لن يتحقق إلا بحركة ثقافية وعلمية، أو بالأحرى بثورة ثقافية وعلمية كبيرة وعامة يقودها شرفاء هذا الوطن من مثقفين وعلماء ومفكرين من مختلف التخصصات، وعلى رأسها تخصصات العلوم الإنسانية والإسلامية من أجل تحرير العقل المغربي من التخلف الفكري والعلمي، وتحرير نفسه من الخوف والضعف وعقدة الدونية أمام الغربي عامة والفرنسي خاصة..

 

حتما إن الثورة الثقافية والعلمية ستكون مكلفة وشاقة ومحفوفة بشتى أشكال المخاطر والمكاره والمهالك على هؤلاء .. ولكنها مرحلة ضرورية ومحطة حتمية في تاريخ التغيير والإصلاح، من منطلق رسالتهم الإنسانية ودورهم الحضاري، دأبهم دأب الأنبياء والرسل وكل قادة وزعماء الإصلاح الذين عرفهم تاريخ الإنسانية بالبذل والعطاء والتضحية والتجرد، منهم من عاش لحظة الانتصار والتغيير، ومنهم من هلك دون ذلك وخلد سيرته في تاريخ الرسائل الإنسانية المكتوبة بمداد ودماء الفخر والعزة..

 

هؤلاء هم من باستطاعتهم مساعدة الشعوب المقهورة والمغلوبة والمنقادة كرها من أجل الخروج من القابلية للاستعمار إلى القابلية للاستقلال من المستعمر الخارجي والاستغلال الداخلي..

 

فإذا تحرر فكرنا، وتحررت ثقافتنا، وتخلصت نفوسنا من الخوف، وارتفع منسوب الوعي، وارتقى مستوى النضج، أصبح المجتمع حينها مهيئا لكل أشكال الإصلاح، السياسي والإداري والاقتصادي.. ووقتها ستنهار الدولة العميقة، وتحل محلها الدولة الوطنية، ويتم التخلص نهائيا من الاستعمار اللاعسكري بكل تركته وخدامه، ويتحقق الاستقلال النهائي والشامل.. وفي أنتظار ذلك من السابق لأوانه الاحتفال بالاستقلال .

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات