الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

ماركسية ماركس
كتاب الناقد والفيلسوف رايمون أرون

 

قراءة وترجمة وعرض : عبد الكريم وشاشا/المغرب
Editions de Fallois – Paris 2002

 

 

تقديم:

 

يعتبر هذا الكتاب عربون وفاء لفيلسوف ومفكر وعالم اجتماع مٌجدِ لفكر ماركس الذي ساهم مساهمة كبيرة في تكوينه الفلسفي والتاريخي والسوسيولوجي والاقتصادي، فرايمون آرون يصرح دائما، بأن خلاصاته تنتمي إلى المدرسة الانجليزية بينما تكوينه يعود إلى المدرسة الألمانية، وذلك بفضل قراءة وإعادة قراءة أعمال ماركس أكثر من 40 سنة..

 

 

ورغم تصنيفه أو حشره كمفكر “ليبرالي مأفون” فإنه يرى نفسه عكس ذلك، فهو “الماركسي الحقيقي ” والوفي لفكر ماركس وجوهر أطروحاته بينما فصائل اليسار بأفكارها المختلفة ثم تجاربها التوتاليتارية الفظيعة المخفقة، هذا اليسار، الذي لا ينفك يتبجح بماركسياته فهي لا تعدو أن تكون إلا ماركسيات “متخيلة” وهمية لا علاقة لها بماركس، لا من قريب ولا من بعيد؛ فجميع كتب رايمون أرون تقريبا، سواء في كتابه مدخل إلى فلسفة التاريخ، أو في دروسه الكبرى حول المجتمع الصناعي، وكتابه الصراع الطبقي، وكتاب الديمقراطية والتوتاليتارية ناهيك عن كتابه الأشهر المثير للجدل ” أفيون المثقفين” وأخيرا في كتابه ” تاريخ وديالكتيك العنف ” (1973)

 

هي كلها مواجهات دائمة مستعرة ضد هذه الماركسيات المتخيلة؛ مثل قراءة ماركس عبر هيغل أي جعل هيغل ماركسيا (ألكسندر كوجيف) أو انطلاقا من ماركس الشاب (جورج لوكاتش) وهذا ما سيفعله أو يعود إليه الوجوديون الفرنسيون بعد ثلاثين سنة أو في مواجهة ألتوسير الذي جعله اكتشاف قطيعة ماركس مع هيغل يعود إلى تأويل أرتودوكسي ” علمي ” لكتاب الرأسمال. فهو يفند هذه الأطروحات كلها ويعتبرها غير مبررة وواهية.

 

إن هذا الكتاب الذي صدر بعد وفاة مؤلفه بسنوات هو في الأصل تجميع لمحاضرات ألقاها في السوربون وكوليج دو فرانس ابتداء من 7 نوفمبر 1962 محللا ومتابعا بشكل يقظ كل مجموع أعمال كارل ماركس مبرزا الروابط الضرورية والأساسية الموجودة بين مختلف مراحل هذا الفكر بألمعيته ونبوغه وبإخفاقاته وهناته أيضا بدون تقديس أو تبجيل وأيضا دون إخفاء الإعجاب الشديد الذي يكنه لهذا المفكر الكبير بفلسفته النقدية وأفكاره الاقتصادية الغنية والرفيعة، والتي غيرت تاريخ العالم وساعدت وأنارت طريق المحرومين والمهمشين، ولكن أيضا، استعمله المستبدون أعداء الحرية والديمقراطية باختزال وديماغوجية في بناء كيانات كليانية تيوقراطية بوليسية أجهزت على الإنسان وكرامته…

 

إن الدراسة العلمية لفكر كارل ماركس، والتي هي دراسة فلسفية وفي نفس الآن دراسة تاريخية يجب أن تتم وفق شروط خاصة متفردة، وذلك بسبب عاملين أساسيين:

 

أولهما، تعقيدات الحياة التي عاشها ماركس نفسه، ثانيهما، أعماله التي لم تصدر إلا بعد وفاته.. فنحن نعرف جميعا بأن ماركس كان منظرا وفي نفس الوقت رجل الممارسة والفعل الميداني، هذا التنوع في شخصيته نتج عنه تباين في أعماله واختلافها.. فماركس كتب بغزارة، خاصة في الجرائد والمجلات، وكتب نصوصا في مختلف المجالات وفي أشكال متعددة من بينها المقالات والرسائل والبيانات والمنشورات والنشرات؛ ولنا كل الحق في أن نتساءل عن مدى الأهمية التي يوليها لهذه الأشكال المختلفة التي يصدر بها كتاباته. كما يجب أن ندرك المعنى والأهمية التي يوليها لرسالة موجهة إلى أحد المراسلين أو لأحد أتباعه، هل هي بنفس القدر الذي يوليه لنص مدرج داخل مؤلفاته الكبرى ؟

 

وعلى غرار كل المؤلفين الغزيري الإنتاج، فماركس تناول معظم المواضيع السياسية، والاقتصادية والتاريخية، ومع شيء قليل من المثابرة والمهارة، يمكن لنا أن نجد أن الكثير ما كتبه بقلمه وفي آرائه بعض التناقضات والتباينات، فوحدهم الذين يكتبون قليلا لا يتناقضون…

 

والقاعدة العامة للقراءة هي: يجب الاعتماد على الأعمال الرئيسية، والنصوص التي تمت كتابتها بتأمل كبير وروية، وخاصة الكتب العلمية، والاحتفاظ بالمعاني المتواجدة في الخطوط العريضة لفكر ماركس.
والصعوبة الثانية، قلنا، تأتي من تقلبات وصعوبة العيش والمراحل التي عاشها ماركس طيلة حياته . فمساره وأعماله تنقسم كرونولوجيا إلى مرحلتين أساسيتين.

 

المرحلة الأولى، كتابات الشباب (1835 – 1848)، هناك تردد ما في اعتبار أن “البيان الشيوعي” ينتمي إلى مرحلة الشباب أو إلى مرحلة النضج والاكتمال، لكن لا أهمية كبيرة لذلك، مادام أن البيان الشيوعي هو في نفس الوقت حصيلة وجهد معرفي وثقافي وجه ماركس من الفلسفة إلى السوسيولوجيا والاقتصاد، كما هو أيضا نقطة انطلاق في أبحاثه التي قادته إلى كتابة وإصدار الرأسمال (Le Capital) سنة 1867؛ شخصيا، أفضل أن أرى في “البيان الشيوعي” بداية للمرحلة الثانية…

 

المرحلة الثانية، تتوفر في نظري، على وحدة، لأن كتاب واحد يهيمن عليها: الرأسمال (Le Capital) وفي الوقت نفسه ومع توالي الأحداث الاقتصادية والاجتماعية، كتب ماركس نصوصا عديدة حسب هذه الظروف.
لكن هذا التقسيم إلى مرحلتين ما هي إلا نقطة البداية في المسيرة المتميزة والصعبة لماركس، وبالفعل فأعمال هاتين المرحلتين، تقدم كل واحدة منها تفردا وخاصية معينة.

 

كتابات الشباب

 

لنقر بأن من بين الأعمال التي كتبها ماركس في شبابه، فقط عملين هما اللذين تم إصدارهما في حياته: العائلة المقدسة سنة 1845، وبؤس الفلسفة سنة 1847، والذي هو كما هو معلوم رد على كتاب بيير جوزيف برودون Pierre Joseph Proudhon (1809-1865) فلسفة البؤس.

 

كما أن هناك على الأقل مقالين من ضمن كتابات الشباب تم إصدارهما: الأول هو ” مدخل في نقد فلسفة الحق عند هيغل ” والثاني : ” المسألة اليهودية “، ولكن العملين اللذين ربما يعتبران من أهم الأعمال في هذه المرحلة وهما على وجه التحديد ” المخطوطات: الاقتصادية – الفلسفية ” والتي كتبها ماركس في باريس سنة 1844 وكتاب ” الإيديولوجية الألمانية ” الذي تمت كتابته ما بين 1846 – 1847، وهي أعمال رئيسية لفهم المسار والتطور الفكري لماركس، لم يتم إصدارهما كاملة إلا ابتداء من سنة 1932. لقد تم نشر بعض المقاطع منها لكن لم يتم نشرها كاملة، إلا سنة 1932. وهذا يعني أن الأمر متعمد في عدم النشر، فلماذا الانتظار 30 سنة تقريبا ونحن لا نعلم شيئا عن هذه النصوص والتي يعتبرها ماركس نفسه وهو في كامل نضجه واستوائه المعرفي والفكري بأنها لا تستحق النشر.. فالعديد من الماركسيين المعاصرين ربطوا أهمية قصوى لهذه النصوص عكس ماركس تماما الذي رفضها.. وماركس نفسه بعد أن قال جملته التي تنطوي على الكثير من التهكم وبنبرة مشوبة بالاحتقار ” أنا لست ماركسيا “.. صرح بتخليه نهائيا عن مسودة ” الإيديولوجية الألمانية ” وأنه سيتركها كي تنتقدها الفئران…

 

إن المعنى أو الخلاصة العامة التي يمكن أن نخرج بها عن هذه المرحلة الأولى من حياة ماركس، هي، بأن الكل يقر بأن المسار الموالي وأعلى درجة في حياة ماركس نفسه، هو الانتقال من الفلسفة، خاصة الفلسفة الهيغلية، إلى الاقتصاد، وإلى السوسيولوجيا، وأيضا إلى بعض تصوراته في التاريخ مختصرة ومكثفة في المقدمة التي وضعها لكتاب إسهام في النقد الاقتصادي السياسي (صادر سنة 1859).

 

كتابات مرحلة النضج

 

لكن، إذا كانت الخطوط العريضة لمسيرة ماركس معروفة، هناك أسئلة أساسية كثيرة يتم طرحها. أعمها هي، معرفة ما هي الصلة الموجودة بين ماركس الشاب الفيلسوف وكاتب مخطوطات 1844 وبين ماركس الناضج صاحب كتاب “الرأسمال” ؟

هل يتعلق الأمر بمفكرين مختلفين ؟

والسؤال نفسه يتفرع إلى سؤالين على الأقل: ما هو رأي ماركس صاحب ” الرأسمال ” في ماركس كاتب المخطوطات الاقتصادية والفلسفية، وأيضا، كيف يرى ماركس في سنة 1867 الفلسفة الهيغلية، فينومينولوجيا هيغل ؟ ما هي المقاييس التي يعتمد عليها ماركس نفسه والتي تحدد بأن كتاب ” الرأسمال ” يشتمل على تطبيق اقتصادي لمنهج فلسفي مستمد ومستوحى من هيغل ؟

 

لكن سؤال العلاقة بين ماركس الشاب وماركس الناضج لا يمكن حسمه بتاتا بجواب أو برأي ماركس الناضج الذي أدلى به، فيمكننا أيضا التساؤل عن ما يقوله أو ما يجب أن يقوله النقد الحديث في العلاقة بين “الرجلين” أو بين المرحلتين.

 

هذا ليس كل شيء، فالمرحلة الثانية في مسار ماركس هي الأخرى معقدة بسبب طبيعة الأعمال التي أسفرت عنها. فباعتباره عالما، يمكن لنا أن نجزم بأن ماركس انكب على عمل واحد من سنة 1849 حتى وفاته سنة 1883؛ ومع شيء من المقارنة، مع وجود الفارق، فماركس ككاتب عظيم، يشبه مارسيل بروست (الروائي الفرنسي المشهور صاحب رواية البحث عن الزمن المفقود بأجزائها السبعة نشرت بين عامي 1913 و1927 ويطلق على هذا النوع الضخم من السرد والشخصيات برواية الأنهار roman-fleuve )، إنه كاتب لكتاب واحد متفرد، إن هذه المقارنة، هي حول هذه النقطة وحدها. فكلاهما كان يعملان على كتاب واحد طيلة حياتهما، ولم يستطيعا إنهائه. فماركس فعلا، ابتداء من 1849 – 1850، كان يشتغل على كتاب اسمه ” نقد الاقتصاد السياسي “، و”الرأسمال”، ما هو إلا عنوان لأحد فصول هذا الكتاب الضخم الغير مكتمل، وعنوان ” نقد الاقتصاد السياسي “، لم يتم الاحتفاظ به إلا كعنوان للجزء الذي تم نشره سنة 1859 تحت عنوان ” إسهام في نقد الاقتصاد السياسي ” ونحن نعرف أن هذا الكتيب ما هو إلا جزء صغير من مجموع الكتاب الذي لم يتوقف ماركس على الاشتغال عليه ما بين 1849 و1883.

 

من هذا الكتاب الشامل والذي لا زلنا لحد الساعة نجهله كله، لأن أجزاء من المسودات أو المخطوطات لم يتم نشرها، نتوفر فقط على نسخة جزئية. لكننا في الوقت نفسه نعلم، أو على الأقل بعض الأشخاص، بأن هناك كتاب ضخم تم إصداره أولا في موسكو، ثم بعدها في برلين، والذي هو مسودة “الرأسمال” 1857-1858، والذي هو في الحقيقة ليس مسودة الرأسمال كما نعرفه، ولكن جزء أولي وهو مشروع غير مكتمل وغير منقح للكتاب الوحيد الذي كان ماركس يشتغل عليه باستمرار والذي اسمه ” نقد الاقتصاد السياسي “.

 

قام ماركس سنة 1876 بإصدار الجزء الأول من هذا الكتاب تحت عنوان “الرأسمال”؛ وقام أنجلز بعد موت رفيقه بإصدار الجزء الثاني والجزء الثالث، واللذان يعتبران الآن كتكملة للجزء الأول الرأسمال ويحملان عنوانا فرعيا: نقد الاقتصاد السياسي …

 

السؤال الأكثر أهمية

 

إن المحصلة لكل ما عرضناه آنفا، هي أننا نتوفر فقط على أجزاء من مجموع الكتاب الذي أراد ماركس كتابته، وعن قصد، أقول أن أهم سؤال يمكن أن يطرحه القارئ النقدي واليقظ لفكر ماركس، يوجد في الاستفسار التالي، ماذا تعني عبارة: “نقد الاقتصاد السياسي” ؟

 

فبمعنى معين فإن شومبيتر (Joseph Alois Schumpeter) محق عندما قال بأن ماركس بتصوراته، وتصنيفاته، وبمنهجه في التحليل في الجزء الأول من كتاب الرأسمال، هو أحد تلامذة ريكاردو (David Ricardo) وينتمي إلى الاقتصاد الانجليزي في عصره، ولكنه في نفس الوقت، يوجد عند ماركس طموح يضعه جانبا ومميزا عن الاقتصاديين الكلاسيكيين: فهو يعتقد بأنه يستعمل بشكل مختلف تصوراتهم ومناهجهم من أجل إنتاج ما يسميه نقدا في الاقتصاد السياسي. فهذا النقد هو في نفس الوقت قراءة وشرح في أسلوب عمل الاقتصاد الرأسمالي ونمط الإنتاج، وفي تشكله التاريخي عبر مختلف الأنظمة الاقتصادية، وأخيرا هو تحليل لتطوره الضروري نحو مأساته وفاجعته النهائية… إذن فإن نقد الاقتصاد السياسي هو دراسة في نشأة وتكوين الاقتصاد الرأسمالي وفي موته ونهايته المحتومة، في قوة وفي ضعف الفكر الاقتصادي الذي يتم تطبيقه على الواقع الرأسمالي.

 

هكذا إذن، فنصوص ماركس التي لها أهمية قصوى، هي الأخرى مثل المرحلة الأولى، تبدو لنا بأشكال مختلفة وغير منتهية.. فهذه الأخيرة هي مسودات غير مكتملة ونجد فيها أثناء معالجتها شيء من نبرات التهييج والحذلقة في أسلوبها ولابد من بذل المجهود للقبض على المعنى الدقيق لكل جمل ماركس الشاب البالغ من العمر 25 سنة، والذي يكتب لنفسه تأملاته وأفكاره حول العالم وحول فلسفة هيغل. هناك اختلاف أساسي لدى كل الكتاب والذين يمارسون الكتابة، وماركس يدرك ذلك، بين المسودة أو المخطوطة المصححة والمكتملة والجاهزة للطبع ثم النشر، والمسودة أو المسودات الناقصة التي نحتفظ بها بين دفاترنا وأوراقنا، لأننا غير مقتنعين بها، وهي في رأينا لا تستحق النشر والقراءة.. بينما “الماركسولوجيا” وحتى الفكر الماركسي يعلل ويتكهن على أي مقطع لماركس الشاب كيفا كان، وماركس بنفسه هو غير راض عليه ويعتبره غير جدير للنشر، فهنا نرى بأن المقدس يمكن له أن يذهب بعيدا حتى في المجال العلمي.

 

وفي المرحلة الثانية من حياته، سوف نجد بشكل مختلف، وبمفارقة كبيرة، نفس الصعوبات. ففكرة أن أجيالا تلمذت على الاقتصاد الماركسي، أولا وخاصة على الجزء الأول من الرأسمال، بينما هذا الجزء كيفما كانت أهميته داخل مجموع الكتاب، فهو بعيد كل البعد في أن يستنفذ محتوى الكتاب الذي كان يمكن أن يحمل عنوان “نقد الاقتصاد السياسي” .. أما الجزء الثاني والثالث، فما هما إلا عبارة عن مخطوطات ناقصة… إن الباحث المتفحص سيكون أمام العديد من النصوص وعليه أن يتحلى بموضوعية كبيرة وتجرد ممكن كي يختار ويعتبر أيها يمثل الجوهر الحي للفكر الاقتصادي الماركسي…

 

إن ماركس، كان خارقا في اشتغاله، لكنه عاش ظروفا مادية قاسية، فهذه الظروف المادية القاسية، إضافة إلى الصعوبة الجوهرية المتعلقة بطبيعة أبحاثه، توضح بأنه لا يوجد لا في المرحلة الأولى ولا الثانية، نص يمكن أن نقول عنه بكل ثقة ” هذا هو العمل الذي يجب الاعتماد عليه ”

 

دور إنجلز

 

وأخيرا، الصعوبة الثالثة الرئيسية والتي تأتي من حياة ماركس نفسه والمتعلقة بالعلاقة التي تجمع بين ماركس وأنجلز، وطبيعتها بين الرجلين والتي تحولت إلى صداقة حميمية ابتداء من 1845-1846 وبقيت طوال حياتهما؛ إن هذه المسألة تحمل بعض العناصر البيوغرافية في نظري ثانوية وهي تكاد تكون غير مهمة، وتحمل أيضا عناصر توجد في قلب موضوع البحث الذي نتناوله.. عندما تم التعارف بين الرجلين، كان أنجلز ابنا لصاحب مصنع، كما أنه كرس جزءا كبيرا من حياته في مقاولة للنسيج بإنجلترا، جعلته يملك معرفة واسعة بالواقع الاقتصادي وهو الأمر الذي لا يوجد عند ماركس. وأنجلز أيضا نشر في الحوليات الفرنسية – الألمانية، مقالة نقدية لتصورات الاقتصاد السياسي، تتضمن بشكل أو بآخر الخطاطة الأولية للكتاب الذي يريد ماركس كتابته طول حياته. إذن ليس من المحتمل بل من المؤكد بأن أنجلز له دعم وإسهام في تكوين فكر ماركس ما بين 1845 و1848، ولكن في نفس الوقت، ليس هناك شك في أن ماركس هو العبقري فيهما. ربما من بعض الجوانب، أنجلز أكثر ذكاء وألمعية، وعلى أقل تقدير يمتلك حسا سليما.

 

وفي المقابل، تطرح هذه العلاقة التي تجمع بين ماركس وأنجلز، إشكالية ذات أهمية كبيرة تتجلى في الحكم الذي أطلقه ماركس آخر حياته على الأعمال الفلسفية التي كتبها ووقعها أنجلز، وهي على وجه التحديد الرد أو ضد دوهرينغ وكتاب ديالكتيك الطبيعة، فعرض الفلسفة المادية مرتبط بالمنظور المادي للتاريخ. لأن ماركسية اليوم بشكل عام، لم تنبثق من فلسفة ماركس الشاب، بل من الكتابات الفلسفية لأنجلز وهو في أواخر أيام حياته. وهنا نعود إلى نقاشنا الذي لم ينته بعد حول ………..ماركس الناضج في المواضيع الفلسفية…

 

وبعبارات أخرى، هل الفلسفة المادية لأنجلز، في آخر حياة الرجلين، يمكن اعتبارها كوصية فلسفية لماركس أم لا ؟ في هذه النقطة، يبدو هذا السؤال تاريخيا لكنه سؤال في العمق يفضي بنا إلى الإشكالية الأساسية في العلاقة الكامنة بين الفلسفة والاقتصاد.

 

اقتصاد وفلسفة

 

لنأخذ جون بول سارتر، فهو لا يعتقد بأن ماركس متفق مع الفلسفة المادية لأنجلز، لأن هذه الفلسفة المادية لا تروقه ويراها غير جديرة بهذا المفكر العظيم ….

 

فابتداء من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أصبح فكر ماركس اللاجئ بلندن، شيئا فشيئا هو الإيديولوجية الرسمية لتيار اشتراكي كبير، فمرور فكر ماركس إلى الماركسية تم بشكل أساسي بواسطة أنجلز والاشتراكيين – الديمقراطيين، أصدقاء لأنجلز، Bebel وخاصة ليبنخت Liebknecht ، ثم كاوتسكي Kautsky الذي يعتبر ما بين 1895 – 1900 و 1914 بمثابة المنظر الرسمي للأممية الثانية. فتأسيس الأحزاب الاشتراكية بأوروبا تَمَّ كأحزاب جماهيرية كبرى، وابتداء من الخُمس الأخير للقرن التاسع عشر فأكبر هذه التنظيمات الحزبية الجماهيرية، كان هو، الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الألماني، والذي هو في نفس الوقت، الأكثر ماركسية من الأحزاب الاشتراكية في أوروبا. والاشتراكي – الديمقراطي الروسي هو أيضا ماركسي بشكل كبير، ولكن كانت تتنازعه منذ البداية اختلافات حادة حول تأويل وقراءة الماركسية.

 

فهذا الرابط بين فكر ماركس والتيار الاشتراكي، من الطبيعي أن تخلق حالة ليس لها مثيل لا في تاريخ الديكارتية (Le cartésianisme) ولا في تاريخ الكانطية (kantisme) لأن هذين المذهبين لم يتحولا إلى أفكار فعالة تعتنقها الجماهير. بينما الماركسية ابتداء من 1890 – 1895 تحولت إلى دوافع ومحركات لتنشيط التيارات السياسية، والتي في قلبها يتم النقاش حول العلاقة بين الجزء الأول والجزء الثالث لكتاب الرأسمال وحول القيمة المضافة والربح وعلاقات الإنتاج…الخ فالنقاش العلمي حول مفاهيم الماركسية مرتبط بشكل وثيق بالخصومات أو الصراعات السياسية – الاجتماعية بالتأويلات والقراءات المتعددة للماركسية، مواجهات واحتدامات سياسية – اجتماعية التي تجعل كل فريق يتصرف وفق قراءته أو رؤيته الخاصة لماركس وللعالم في نفس الوقت. حتى سنة 1917، كانت هذه المواجهات العلمية – السياسية للماركسية تجري داخل الأممية الثانية… بين اشتراكيين وشيوعيين عندها أصبحت مذهبية وحول مواضيع حتى ماركس لم يفكر فيها ..

 

1- لقراءة حياة ماركس والاطلاع عليها يمكن قراءة كتاب جاك أتالي: Karl Marx ou l’esprit du monde

Éditeur : LE LIVRE DE POCHE (18/04/2007) (المترجم)

 

 

حوار
حول رايمون أرون
” لقد كان مدانا من طرف المثقفين “

 

 

 

 

قامت دومينيك شنابير (Dominique Schnapper) عالمة الاجتماع الفرنسية وهي ابنة عالم الاجتماع والفيلسوف النقدي الكبير رايمون أرون (Raymond Aron – 1905 – 1983)، بتجميع نصوص متتابعة ألفبائية (Abécédaire) مهداة إلى روح والدها، وهي التي كانت من قبل لا تجرؤ التكلم عنه..
من أهم ما جاء في هذا الحوار، الذي ٌيسلط بعض الضوء على أعمال وطبيعة أحد عمالقة الفكر في القرن العشرين..
ترجمة: عبد الكريم وشاشا

 

– سؤال: لماذا يجب إعادة قراءة رايمون أرون ؟

 

* بالنسبة للشباب، إعادة القراءة ممكنة ومرغوب فيها وهي تهم خاصة الديمقراطية ومستقبلها.. الكثير من المؤرخين الشباب أدهشتهم محاضرته التي ألقاها يوم 17 يوليوز 1939 حول : ” الدول الديمقراطية والدول الشمولية ” فالعديد من المدافعين عن الديمقراطية، مثل Victor Basch (فيلسوف ورئيس رابطة حقوق الإنسان والذي اغتالته الميليشيات سنة 1944)، لم يفهموا ذلك، بل لا يحتل أصلا أي حيز في رؤيتهم للعالم. لكن اليوم، الكل يلاحظ هشاشة ” الديمقراطية “، فعندما نرى الوضعية في الولايات المتحدة الأمريكية، في بريطانيا، إيطاليا، أوروبا الشرقية، وحتى في فرنسا، ينتابنا إحساس بالتراجع ليس إلى سنوات 1930 – فالعالم قد تغير- لكنه عودة عدم الارتياح حول قوة هذه النظم الديمقراطية وثبات قيمها والدفاع عنها..

 

– سؤال: هل تقولين بأن الإقبال الهائل للأجيال الصاعدة على قراءة وتداول فلسفة جون – بول سارتر هي ظلم في حق رايمون آرون ؟

 

* إن أعمال رايمون أرون غير معروفة كثيرا وبقيت بدون قراءة سليمة وعادلة، أما شخصيته السياسية فأكثر، وقلة من المؤرخين هي التي قرأت أعماله. المختصون في القرن العشرين يجهلون كتبه، كانت روح العصر في زمانه معادية له. وكقارئ نقدي وشارح للنصوص الفلسفية ثم وكعالم اجتماع، لم يكن تابعا لأي خط أكاديمي أو مدرسة مذهبية.. وأفكاره الفلسفية حول التاريخ لم يدركها الفلاسفة أو المؤرخين على حد سواء. علاوة على ذلك أن العالم الثقافي في تلك الفترة كانت تهيمن عليه أطروحات آتية من الماركسية سواء العقائدية الجامدة منها أو تلك المتجددة. وكان رايمون آرون بدون شك يعرف الماركسية جيدا أفضل من خصومه، لكنه يعرفها بطريقة نقدية، ولهذا السبب تم تصنيفه كشخصية يمينية، وبالتالي تمت إدانته من الجميع.

 

– سؤال: رايمون أرون هو أيضا، الشك، هناك ذلك الاعتراف المدهش بعد خروج ” المذكرات ” والتي كان يود أن يعنونها ب ” هل كان بإمكاني أن أفعل أحسن مما فعلت ” ؟

 

* لقد كان متواضعا بشكل كبير. وفي عالمنا هذا، مثل هذه الخصلة لا تدفع ولا تؤدي إلى أي نجاح. كان يقول: ” أنا أنتمي للأنوار “، وفي اعتقادي أنه كذلك، حتى ولو أنه، وهذا غريب أو تراجيدي، أن فكر الأنوار على امتداد القرن العشرين انتقل من اليسار الجمهوري إلى اليمين الجمهوري.. وكان يضيف قائلا: ” لست أنا الذي تغير، فلا زلت أحمل نفس القناعات الاشتراكية التي كنت أحملها في شبابي، إنه العالم هو الذي تغير.”

 

– سؤال: لكن، هل هو كان من اليسار ؟

 

* لقد كان دائما ينادي بالقيم، التي أطلق عليها “درايفوسية”، وهي قيم الجمهورية في العدالة والمساواة.

 

– سؤال: ألم يكن معجبا بأية شخصية؟

 

* في الواقع، لقد كان طيلة حياته من المعجبين بسارتر، بنفس القدر الذي كان فيه دائما يدافع عن مالرو. كانت له طيلة حياته، علاقات وفاء، برغم الاختلافات السياسية. وبحكم موقعه النقدي – بالمفهوم الكانطي – لا يمكن أن يكون تابعا أو متماهيا مع أي شخص.. نعم من جهة أخرى كان مفتونا بمارسيل بروست، ولكن بمسافة نقدية، فهو لا يستطيع أن ينقاد بشكل أعمى وراء أي شخص، كما أنه في نفس الوقت غير قادر على خيانته…

 

– سؤال: ” كلب “، ” عدو طبقي ” ، ” حقير ” … كيف عاش وهو يتلقى مثل هذا الهجمات؟

 

* لقد كان رقيقا، وأكثر الهجمات عنفا وشراسة كانت تأتي من سارتر، والذي رفض خوض مناظرة ومواجهة عمومية معه، لقد تألم كثيرا… لقد كان نصف مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية يرفض مصافحتي ….

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات