الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

” أحلامٌ خـــديـــجــــــةٌ “

 

 

حسن برني زعيم – المغرب

 

 

ولدتُ في الدقيقة الأولى من اليوم الأول من الشهر الأول من عام لا يتوقف عن الجري والجريان ، وبعد حوالي سبع ساعات ، أخرجت من المهد ، ولست أدرى من رماني في “أحضان” الشارع …كانت أشعة الشمس المعتدلة أول من استقبلني، أحسست بشيء يحز في أمعائي ، تحركت أبحث عن الماء والغذاء ، وجدت الشارع نظيفا، والرصيف فارغا من كل الزوائد…سمعت الناس يتساءلون:” أين الكراسي والموائد التي كانت تستولي على الملك العمومي ؟ ومن قضى على السلالم والأغطية والأخشاب التي كانت تعترض سبيلنا، وما مصير قنينات الغاز التي كانت “تزين” الرصيف ؟ و أين اختفت أوراق القمار التي كانت ، مثل الجراد ، تغزو جوانب الشارع ؟ وأين عربات “البنان ” و”الكرموس” و”الشريحة” التي كان الناس يتحلقون حولها؟

هذا يوم غريب: الشارع والرصيف ليسا كما وصفهما لي فاسق آت من مدينة أخرى !!..

 

في الطريق… رأيت الناس يتوقفون عند ممر الراجلين في انتظار إشارة الضوء الأخضر، ليعبروا الشارع نحو الضفة الأخرى…سائقو السيارات يحترمون كل إشارة أوعلامة مرور، ولا يتجاوزون السرعة المبينة في لوحات التشوير، “العربات ” التي “قرأت” عنها قبل “ولادتي” لم يبق لها أثر ، سألت عنها الناس فقالوا:” انقرضت …وإلى الأبد”، استفهمت عن أحوال الحمير والبغال والخيول التي كانت تجرها، فقال أحد مناصري الحمير كلفوه بقراءة آخر بلاغ مدني عن الوضع الجديد:” نعيش الآن وضعا لا نحسد عليه ؛بطالة واضحة بعد بطالة مقنعة منذ عقود…نحن محتجزون في “فنادق” من غير نجوم في انتظار يوم “ترحيلنا” الذي لاشك سيكون غير معلوم … لا بأس ، فقد اعتدنا طول الانتظار في كل مكان وبأي مناسبة…إلى أين سيرحلوننا ؟ لا ندري …ربما إلى البلاد التي سقطت فيها رؤوسنا…أو إلى إسبانيا أو أو روسيا أو أوكرانيا أو إلى أوروبا كلها…. ، فهي لا محالة ستستقبلنا بالأحضان وستذرف بعض المسؤولات – هناك – الدموع تماما كما فعلن مع اللاجئين من بلاد الشام … فقد سبقتنا إليها ، من بلادنا، أفواج من الحمير المدربة على تسلق الجبال وأداء الألحان الشجية والأناشيد… وبقينا نحن هنا لأنهم اشترطوا ” الذكاء” مقابل منحنا التأشيرة، وبحثنا عن جهاز أو طبيب أو دواء يرجع إلينا ذكاءنا ، فلم نفلح …لقد ضاع ذكاؤنا بين العربات والسويقات ومنبهات السيارات والشاحنات والهراوات والسياط…وأمام المدارس والمستشفيات والجامعات…ومباريات كرة القدم و استوديوهات منافسات الأصوات والغناء …وحساب فواتير الكهرماء …وكأس العالم والبنك الدولي والمحطات التلفزية والإذاعية المأجورة ….

 

في هذا اليوم، أحسست بالراحة تسري في جسدي …فالهدوء غمر المدينة … وبفضل النظام والأمن السائدين ظننت أني في باريس أو نيويورك أو طوكيو…
رجال الشرطة يسهلون عبورالراجلين في حزم وهدوء متناغمين …الحافلات نظيفة لا تنفث الدخان وراءها كما سمعت ، وراكبوها مرتاحون جالسون على مقاعد ناعمة جلهم يتصفح كتابا أوجريدة أوشاشة كمبيوتر محمول.

الدراجات النارية والعادية تمر على يمين الشارع …رأيت رجال النظافة منشغلين بجمع الأزبال وتنظيف الحاويات بالماء الساخن، وبرش مواد كيماوية وقاية من تسرب الجراثيم والميكروبات إلى فضاء المدينة…يلبسون بذلات أشبه بما يرتديه رجال الفضاء، لايتركون ورقة صغيرة ولا عقب سيجارة إلا وأخذوها إلى غير رجعة…
في هذا اليوم ، رأيت الصغار يحترمون الكبار، والكبار يعطفون على الصغار…

 

فجأة ، وقع اصطدام بين سيارتين خفيفتين ، حضر رجال الشرطة والأمن والإسعاف والإطفاء بعد أقل خمس دقائق من إخبارهم، فقلت في نفسي :” أليس ممكنا أن يكون سائقا السيارتين قد أخبرا الشرطة قبل وقوع الحادثة بنصف ساعة على الأقل ، وأن الحادث متعمد” !!! ، سيارة الإسعاف مجهزة بأحدث الوسائل والأدوات الطبية، حمل المصابون بسرعة إلى المستشفى القريب من مكان الحادث، تقدم سيارة الإسعاف شرطي مرور دراجي لتسهيل عبورها ، في الوقت نفسه أخذت السيارتان المعطوبتان إلى مركز التحري والتحقيق في أسباب الحادث لتحديد درجات المسؤولية ، بعدما أخذت صور متعددة ومتنوعة لمكان الحادث ومن زوايا مختلفة، تطوع عدد لا بأس به من الشهود وسلموا بطاقات تعريفهم وأرقام هواتفهم، وأصروا على تقديم شهاداتهم في النازلة.

 

المستشفى في حالة استنفار وطوارئ…الحركة في كل الاتجاهات والمرشدون والمرشدات في كل جانب من المستشفى…المصابون أطفال ونساء…
وصلت سيارة الإسعاف ، الغرفة جاهزة ومجهزة بأحدث التقنيات والأدوات الطبية ،نقل المصابون إلى الغرف المتخصصة … حضر ممثلون عن الحكومة والبرلمان وجمعيات حقوق الإنسان والبيئة والرياضة ، والتربية الوطنية والتعليم العالي، وعن رجال الأمن والشرطة والعدل وإدارة السجون، والفلاحة والصيد البحري… وعن القنوات الفضائية،والمحطات الإذاعية،ومراسلو جرائد محلية ووطنية وعالمية…

من حين لآخر يخرج من المستشفى مسؤول عن الاتصال والتواصل ليطلع الناس عن أخبار المرضى والمصابين ، ويخبرهم بكل ماجد في أحوالهم ، وفي جانب آخر من حديقة المستشفى الشاسعة نصبت لوحات إليكترونية تقدم كل معلومة جديدة على مدار الساعة،وتذكر بمجمل الموضوعات والمستجدات عن حوادث السير والأمراض المعدية والمزمنة ،وأحوال الطقس ، والسياحة والفنادق والمهرجانات والفنون ، ومقالع الرمال والغاسول، والثروات البحرية والغابوية ، ومناجم الفحم والفوسفاط وآبار النفط ، والمحصول الفلاحي من حبوب وخضر وفواكه وقنب هندي ، وأوقات الصلاة وموسم الحج والعمرة ، والوقفات التضامنية مع الشعوب المظلومة في كل بقاع المعمور، وتستجيب بطريقة تلقائية لاستفسارات المتصلين بالمستشفى عبر الهاتف أو الإنترنيت أو الفاكس أو الرسائل البريدية ، والناس جالسون في قاعة واسعة مكيفة ومزينة بصور الأطباء عبر العصور ومن كل الحضارات واللغات والثقافات…من أمثال أبوقراط اليوناني وابن سينا وغيرهما…
في حديقة المستشفى، أشجار وارفة الظلال، ومياه جارية،وطيور مغردة تواسي الحزين وتؤنس السعيد…

 

رآني أحد الأطباء منزوية مستغربة وحيدة أراقب ما يجري داخل المستشفى ، فأخذني برفق إلى غرفة خاصة…ولما فحصني بأحدث أجهزة الأشعة قال: ” أنت لست منا…فما ترينه غير موجود في مدينتنا ولا في عصرنا… عودي إلى حيث كنت … لا تسابقي الزمن …ولا تحلمي كثيرا”

– قلت:” كلا ثم كلا ، يا طبيبي العزيز ، دعني أعش الحقيقة ، فأنت من يسحبني إلى عالم الأحلام ، بهذا المستوى من الكلام…. – قال:” لا، لا يا صغيرتي …أنت ما زلت كعصفورة صغيرة ، عيشي في العش سنين ، وحين تكبرين…سوف تحلمين ، لكني ، أنصحك بألا تطيري قبل الأوان… ،

– قلت :” لا يا سيدي أنت تراني طفلة وأنا كبيرة…فكيف أصدق، إذن، كلامك اليوم لأحلم وغدا لألا أطير ؟

– قال: فأنت اليوم ، فعلا، في حلم سحيق يخفي عجزك عن إدراك حقيقة ما يجري، ولست أدري كيف ستختارين نهاية لأفلامك وأحلامك ؟

– ثم قال :” حلمك أطول من عمرك،وأثقل من جسدك” ولذلك كانت أحلامك خديجةً ياخديجة! …

…فجأة، أيقظتني جدتي عبر الهاتف… وقالت:” عودي إلى البيت “سالمة”… إن الفطور جاهز يا حبيبتي…وقال الأولاد بعدها: لا تسرعي يا ماما إن أبي الغالي في انتظارك!

 

* توضيح: خديجة تعني حصلت قبل أوانها مثل الجنين الذي يولد قبل الشهر التاسع.

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات