الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

اليسار في العالم

 

 

قراءة وترجمة: عبد الكريم وشاشا

 

يقدم الكاتب Shlomo Sand توليفة تاريخية قيّمة عن تاريخ اليسار في العالم في كتابه( Une brève histoire mondiale de la gauche ) يسار متعدد تخترقه تيارات وفصائل سياسية مختلفة ومتباينة .

 

إن مصطلح اليسار يشمل حقائق متنوعة وبعيدة للغاية. فما بين الأنظمة الشمولية والثورات العفوية، يغطي مصطلح اليسار العديد من الحقائق المختلفة والمتعارضة إلى درجة كبيرة من التشويش والالتباس .

 

والكاتب هنا يعرض مفهوم اليسار بارتباطه بمبدأ المساواة، ولكنه يشير أيضا إلى الدكتاتوريات التي تفرض تسلسلا هرميا بين الحزب أو الطبقة البيروقراطية وبقية الشعب، كما يعني التيارات الراديكالية التي ترفض هذا المصطلح الذي ترى في أصله التاريخي ارتباط بالبرلمان ومؤسسات الدولة القهرية التي تناهضها.

 

 

 

إن مقاربة الكاتب فضلت أن تنهج تأريخا للأفكار، بالتأكيد هي رائعة ووفيرة. تستعرض لنا المنظمات العمالية ومختلف التنظيمات اليسارية التي وصلت إلى السلطة.

 

لكن هذه المقاربة المثالية أفضت إلى إهمال أهمية الصراع الطبقي والثورات الاجتماعية،فبدت لنا انتفاضات وهبّات القرن التاسع عشر وثورات 1917 وسنوات 1968 مجرد ستارة خلفية للمسرح. فقد تمّ تقليصها لتعطي مساحة أكبر للمناقشات والمناظرات بين المثقفين والقادة السياسيين .

 

هناك مقاربة أخرى تؤكد على أهمية استقلالية النضالات والثورات العفوية والاضرابات العمالية باعتبارها القضايا والرهانات المركزية في التاريخ، ففي قلب هذه الحركات تتم النقاشات السياسية الحقيقية .

 

والكاتب أيضا ساق بعض الاعتبارات التي يمكن تفنيدها والاعتراض عليها، وهي مرتبطة بالخلط بين اليسار والنضالات الاجتماعية.

ورغم ذلك لا تزال ملاحظته حول تراجع المنظمات اليسارية، أحزابا ونقابات ذات أهمية. وأيضا ملاحظته حول المآزق الاستراتيجية بدون آفاق سياسية حقيقية لليسار وحتى للثورات لا محيد عنها ويجب الاعتراف بها.

وأيضا، فإن الانتفاضات والاحتجاجات الجديدة لا تحتاج إلى برامج أو إيديولوجية، فهي تفتقر قبل شيء إلى بلورة نقاشات حول استراتيجية ناجحة ووجهات نظر عميقة .

 

والأكثر إثارة للشك، فإن الكاتب يعتقد بأن الطبقة العاملة عليها أن تظل إصلاحية وأن تعتمد على الطبقة الوسطى لتحديد أهدافها السياسية. فهو لم يقم هنا في الحقيقة إلا بإحياء الايديولوجية المتقادمة التي تصر على مركزية الحزب لتوجيه الجماهير .

 

بالطبع فإن الطبقة العاملة تناضل قبل كل شيء لتحسين فوري لشروط عيشها، كما أنها دائما حذرة من الديماغوجيين الذين يسعون فوق الأرض ويبشرون بالثورة.

 

ومع ذلك، يبدو واضحا بأن الطبقة العاملة لديها مصلحة كبيرة في بناء عالم بدون هرمية ولا طبقات، بدون استغلال؛ عالم تنتفي فيه الطبقة والدولة. وهذا لا يمنعها من النضال من أجل أهداف آنية وذلك للبقاء والنضال ضد هذا العالم الرأسمالي المتوحش.

 

ففي مقابل انهيار الإيديولوجيات اليسارية العتيقة، يمكن لنا أن ننشأ وجهات نظر جديدة من الاحتجاجات والثورات الاجتماعية.

 

الخطوط العريضة للكتاب :

 

يقدم اليسار نفسه كتيار سياسي رئيس منذ القرن العشرين، مرتبط بالمثل والقيم التحررية… ظهر تاريخيا أثناء الثورة الفرنسية متميزا عن الايديولوجيات والديانات الأخرى بمبدأ المساواة …

 

يبدو اليوم تقليديا متجاوزا ومنهكا وفصائله الشائخة تنهار وتختفي، بينما الحركات والنضالات الاجتماعية لا زالت مستمرة تزعزع الأنظمة القائمة،لكن هذه الحركات لا تساهم في تقوية الأحزاب اليسارية التقليدية، ولا في خلق تنظيمات حزبية جديدة….

 

الثورات الاجتماعية

 

ابتداء من القرن السادس عشر، بدأت أوروبا تهتز بسبب ثورات الفلاحين المطالبة بتخفيض الضرائب التعسفية وإعادة توزيع الأراضي، لكن هذه الثورة التي أطلقوا عليها اسم( La Grande Jacquerie)،ثم إخمادها بالقمع والعنف. فاندلعت الثورة الانجليزية ضد النظام الملكي دفاعا عن البورجوازية كي تصبح فاعلا سياسيا، وقد ركّز معارضو الحكم المطلق على تيار أنصار المساواة ( Levellers )، ويدافع هذا التيار الذي يتألف من صغار الحرفيين عن المساواة أمام القانون؛ وينص ” اتفاق الشعب” على أن كل السلط يجب أن تكون للشعب ومن الشعب، وينادي بديمقراطية تمثيلية وبرلمان منتخب.

 

وعلى الرغم من دفاع هذا التيار عن المساواة فإنه لم يطرح مسألة المِلكية، في مقابل ذلك يصر على المساواة الاقتصادية والاجتماعية …

نادت الثورة الفرنسية بالمساواة أمام القانون، ولكن في سنة 1789 ثم تهميش مطلبي السيادة الشعبية والمساواة السياسية، وكان الهجوم منصبّا قبل كل شيء على الامتيازات التي يحظى بها النبلاء، وبقي المنظور الى المساواة نخبويا وبورجوازيا وليس مطلبا شعبيا وديمقراطيا. فقد سمح إعلان 1793 لجميع المواطنين الفرنسيين الذكور الذين لا تقل أعمارهم عن 21 سنة بانتخاب ممثليهم. لكن اليعاقبة بقيادة Robespierre فرضت الإرهاب على كل معارضيها واعتبرتهم من الثورة المضادة. كما أنهم لم يترددوا في قمع الاحتجاجات الشعبية في باريس.

 

وقد استهدفوا بشكل خاصLes Enragés المسعورون، فبدأت تدور دوامة العنف، وانقلبت على أولئك الذين أطلقوها وأدت إلى إعدام Robespierre نفسه.

 

وطيلة أربعينات القرن التاسع عشر (1840) اندلعت موجة من الانتفاضات هزت العديد من الدول الأوروبية:

” إنه فعلا ربيع حقيقي للشعوب “،

 

فقد التحمت المطالب الاجتماعية والسياسية والقومية، ونصبت المتاريس في باريس لتأسيس الجمهورية الثانية؛ وارتكزت الحركة الليبرالية على مطلب المساواة المدنية والسياسية من خلال قيام الأنظمة البرلمانية.

 

واعتمد هذا التيار الذي تتبناه البورجوازية والتجار على الطبقة العاملة لفرض نفسه.. واستولى الليبراليون المعتدلون على السلطة في فرنسا.

وظهر لويس بلان ( Louis Blanc ) الذي أطلق حلقات العمل الوطنية كشخصية يسارية إصلاحية يزعم بأنه يمكن خلق مناصب شغل وتحسين الخدمات الاجتماعية بدون خوض صراع طبقي.

 

وأدى انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام إلى فوز نابوليون بونابرت عنوانا على عودة النظام، يدعمه المالكون والبورجوازية خشية من انتفاضات عمالية أخرى.

 

مناظرات نظرية

 

ظهر التيار الفوضوي مع برودون (Proudhon)، المنظر للإدارة الذاتية بمشروعه حول التعاضديات والتعاونيات وسط الحرفيين الممولة من بنوك الائتمان؛ بدون أن ينتقد المِلكية الفردية.

 

أما الوجه الآخر البارز للفوضوية باكونين Bakounine ، فقد انضم إلى انتفاضة باريس سنة 1848 ، وطفق يجوب أوروبا طولا وعرضا، ينشئ بؤرا ثورية في المناطق الملتهبة مناديا باشتراكية تحررية ترفض كل شكل من أشكال السلطوية.

 

في عام 1864 تأسست جمعية الشغيلة العالمية (الأممية الأولى)؛

 

وأثناء كومونة باريس سنة 1871 كان أتباع برودون، باكونين، ماركس وبلانكي أعضاء في المجلس الثوري الذي حكم المدينة لفترة وجيزة قبل مواجهتها بقمع دموي.

 

في فرنسا القرن التاسع عشر، قاد الفوضويون العديد من حركات العصيان والاضرابات، فيوجين فارلين ( Eugène Varlin ) و ( Fernand Pelloutier ) ساهما في خلق النقابة الثورية التي كانت تهدف إلى تحسين وضع البروليتاريا من خلال العمل المستقل، وتعميم فكرة الاضراب العام لفرض ميزان قوة مع الدولة وأرباب العمل. في عام 1906 أصر “ميثاق أميان ” على استقلالية النقابة من الأحزاب والجماعات، وركزت نضالاتها في تحسين ظروف العمل والعيش من خلال الاستراتيجية الثورية للإضراب العام تؤدي إلى الملكية الجماعية لوسائل الانتاج. وقد تحول الشيوعيون الاسبان والعمال الأمريكيون هم أيضا إلى النضال النقابي، والاعتماد على استراتيجية الاضراب العام…

 

في سنة 1844 أسس كارل ماركس وفريدريك أنجلز، المثقفان الألمانيان الشابان المنفيان بباريس العصبة الشيوعية، ونشرا البيان الشيوعي الذي دعا شغيلة العالم جمعاء إلى الاتحاد في نضال مشترك، واعتبر البيان أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ، وقدم البيان نقدا لاذعا وعميقا للاستغلال الذي يحرّم البروليتاريا من حياة كريمة وعادلة…

 

الحركة العمالية

 

انطلقت الحركة العمالية الألمانية سنة 1862 بقيادة Ferdinand Lassalle،الذي رأى بأن الدولة ستظل الرافعة الأفضل لتحسين شروط العيش للشغيلة، وأن النضال عليه أن ينصبّ على الاقتراع العام في إطار الملكية البروسية.

 

وفي سنة 1869 أسس August Bebel الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وسينخرط هذا التنظيم على سكة استراتيجية Lassalle، دون التفريط في الإرث الماركسي، وسيصبح الحزب الاشتراكي الديمقراطي بحصوله على عدد من مقاعد البرلمان تنظيما جماهيريا حقيقيا.

 

وفي بريطانيا العظمى، تمّ إنشاء حزب العمال سنة 1900، وكانت النقابات الانجليزية الكبيرة وراء تأسيس هذا الحزب الجماهيري. وعلى عكس الأحزاب اليسارية الأوروبية، فإن أعضاء حزب العمال المنتخبون ينتمون إلى الطبقة العالمة، لكنهم يعتمدون على مثقفين من داخل جمعية فابيان (Fabian Society ) يعملون على صياغة وتطوير اشتراكية إصلاحية تدعو إلى تغيير اجتماعي يأتي فقط عبر الوسائل القانونية والسلمية.

 

أما في بلدان شمال أوروبا، فالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية تعتمد أساسا على النقابات الجماهيرية لخوض نضال من أجل إقامة دولة اجتماعية.

بدأت تباشير الثورة الروسية مع مطلع سنة 1905، ففي شهر فبراير 1917 تمّ تشكيل حكومة مؤقتة من خلال ائتلاف ليبرالي – ديمقراطي من أجل تنظيم الانتخابات. وبموازاة ذلك تشكلت هيئات تمثيلية أخرى: مجالس السوفييتات، تّم انتخاب مندوبيهم مباشرة من قبل العمال والفلاحون والجنود؛ وقد كان هذا الشكل من التنظيم الذاتي قد ظهر إلى الوجود أثناء انتفاضات 1905.

 

وقد تمكن البلاشفة الذين كانوا يشكلون مجموعة صغيرة، من الاستيلاء على السلطة، فقد سيطروا سريعا على الأحداث وطبعوها بشعارهم الذي سارت به الركبان “خبز، أرض، سلام”،

 

بفضل تصميمهم وعزيمتهم وبراغماتيتهم وقدرتهم التنظيمية العالية، لقد مارس هؤلاء المثقفون الشباب تأثيرا متزايدا على الطبقة العاملة في المدن الكبرى وداخل السوفييتات.

 

وفي أبريل من عام 1917 وصل لينين إلى مدينة Petrograd ، وكان غير راض على أن الحزب البلشفي يعطي الأولوية للجمعية التأسيسية بدل إقامة السوفييتات خاصة في المدن الكبرى.

وقد تبنى لينين موقفا أناركيا براغماتيا يتوافق مع تطلعات الثورة الروسية، ودبّج كتابه ” الدولة والثورة ” لنقد كل أشكال الدولة وأصبحت عبارة ” كل السلطة للسوفيات ” ، ومرسوم ” الأرض لمن يحرثها ” شعارات مؤطرة للمرحلة،

وفي مقابل ذلك اندلعت ثورة مضادة قادتها الأرستقراطية وجنرالات عسكرية ممولة من قبل قوى أجنبية. وتمكن الجيش الأحمر بقيادة ليون تروتسكي من سحق هذه الثورة المضادة، لكنه انتصار تمّ في سياق أزمة اقتصادية خانقة وانهاك للنفس الثوري.

 

قام النظام الجديد على المركزية والسلطوية، فاختفت التعددية السياسية وأصبحت الماركسية إيديولوجية الدولة.

 

اليسار الجديد

 

في سنوات 1950 تطورت حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح مطلب المساواة السياسية بين البيض والسود مطلبا أساسيا.

 

بينما شكّلت المظاهرات واحتلال الأماكن العمومية والعصيان المدني وكل أشكال المقاطعة، استراتيجية للفعل المباشر الغير العنيف.

 

فقد ندد لوثر مارثن كينغ الشخصية البارزة لهذه الحركة بمستنقع حرب الفيتنام التي تورطت فيه الدولة، وساند الإضرابات. وأثار اغتياله سنة 1968 موجة من الاضطرابات والاحتجاجات.

 

وقد رأت حركة الفهود السود (Les Black Panthers) في هذا، مأزقا للنضال السلمي، وبلورت في مقابل ذلك حركة مقاومة مستقلة قائمة على الدفاع عن النفس داخل أحياء الغيتو السود، تندد بالعنصرية وأيضا بالاستغلال الاقتصادي .

رغم التحقيق النسبي للرخاء والتوظيف الكامل، لكن ذلك لم يخفف من الشعور بالاستياء والنقمة لدى شباب سنوات 1960، فقد رفض التلاميذ والطلبة أسلوب الحياة البورجوازي تضامنا مع المقهورين والمستغلين والمضطهدين.

 

انبثق يسار جديد يرفض الرأسمالية وكذلك النموذج البيروقراطي للاتحاد السوفياتي بماركسية غير أرثوذوكسية تصر على نقد اغتراب الأفراد .

 

وفي فرنسا انطلقت حركة 22 مارس من داخل جامعة Nanterre باحتلال مكاتب الإدارة. واندلعت احتجاجات صاخبة من الحي اللاتينى صدتها الشرطة بقمع وحشي أدى إلى تضامن العمال مع الطلبة، فعمت حركة إضراب شاملة المصانع، لكن هذه الحركات العفوية سرعان ما احتوتها التنظيمات النقابية وقامت بالتفاوض باسمها للعودة إلى ما كان عليه الوضع من قبل.

 

ومع ذلك فإن انتفاضة ماي 1968 خلخلت بأسئلتها القلقة الهرمية التقليدية وأزعجت سكينة المجتمع .

 

ففي فرنسا وألمانيا وإيطاليا أفضى غياب رؤية ثورية إلى نشوء جماعات مسلحة.

 

أصبح يظهر يسار القرن 21 كأنه بعيد عن المراجع التاريخية، فسياق البطالة الجماعية والتفكك الاجتماعي عاكس اليسار، وبدت الأحزاب والنقابات كأنها فقدت مصداقيتها، ومع ذلك تظهر إلى الوجود مناهج وجهود ومبادرات جديدة:

تبنت فصائل اليسار الجذري الاستراتيجية الشعبوية، بينما فصائل أخرى ترفض مركزية الصراع الطبقي، وقام André Gorz ببلورة نقد للعمل وللمجتمع الاستهلاكي. إن هذه المقاربة سمحت بإعادة النظر في المنطق الانتاجوي السائد داخل اليسار، لكن تحليله قاد إلى رفض نضالات البروليتاريا.

 

ونما تقارب بين المدافعين عن البيئة والأحزاب اليسارية التقليدية، واستقطبوا بشكل أساسي من داخل الطبقة الوسطى الفئات الحضرية أصحاب الشهادات؛ وفي مقابل ذلك ظل حماة البيئة بعيدين عن الطبقة العاملة والفئات الهشة خاصة الشباب..

 

المصدر

• Une brève histoire mondiale de la gauche
La Découverte, 2022

•Zones subversives

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات