“بين أنياب الظلم”
جلست رباب على شرفة المنزل ترتشف فنجان قهوة كعادتها، عله يخفف من ألم رأسها الذي بات صديقا لها منذ سنوات طوال، لدرجة جعل رباب تصرخ للمرة الاولى وتقول: ( أنا أتألم بشدة، أتألم حد الموت)…
رباب تلك الارملة الشابة ابنة الثلاثين عاما، التي ذاقت من مر الحياة ما ذاقت، تلك الفتاة الهادئة الطيبة الصبورة صدح صوتها بالألم والوجع لأول مرة منذ عشرة اعوام.
حملها الاهل الى أقرب مستشفى، وكانت بحالة صعبة جدا، وبعد الكشف طلب الطبيب اجراء العديد من الصور والتحاليل، لتأتي النتيجة الصادمة بعد عشرين يوما وهي ان الارملة الحسناء مصابة بسرطان في الدماغ، وفي مرحلة متأخرة جدا…
كانت الصدمة قاتلة للأهل، وكان عليهم البدء الفوري بعلاجها ، فتم اجراء عملية جراحية لاستئصال جزء من الورم الخبيث، الامر الذي جعلها شبه عاجزة عن المشي كما أثر على نظرها بشكل كبير، وبدأت مرحلة صعبة من العلاج الكيماوي والشعاعي في آن معا.
تساقط شعرها، وحاجباها، وحتى رموش عينيها….
كانت تنظر الى المرآة، والى شعرها الذي تساقط بأكمله، وتتذكر كيف تساقط عمرها وقلبها وحياتها لذنب لم تفعله…
عادت الى الوراء عشر سنوات، عندما جاء الشاب الخلوق احمد لخطبتها، وتم الزواج السعيد والذي زاد سعادة وبهجة بقدوم اول طفل ينجباه (محمد)،وعاشا بتفاهم وسعادة وحب كبير حتى ذلك اليوم الذي لا ينسى، فبينما كان احمد في زيارة لأهله ، اتصلت به رباب طالبة منه الحضور للمنزل لان طفلهما بحاجة للطبيب بسبب حرارة شديدة وضيق بالتنفس، وبالفعل خرج أحمد مسرعا الى بيته، لكن القدر كان أسرع حيث أصيب بطلق ناري طائش في الطريق أرداه قتيلا على الفور…
كان الصدمة كبيرة على الاهل والزوجة والاقارب، واصبحت ابنة الواحد وعشرون عاما أرملة ومعها طفل لم يتجاوز عامه الاول بعد…لكن اهل الزوج اتهموا رباب بانها السبب في موته.. فلولا ذلك الاتصال لما غادر واصيب ومات (من وجهة نظرهم)… وكانوا اصحاب مال ونفوذ ، فانتقموا منها وعاقبوها بحرمانها من ولدها وقرة عينها، فعادت رباب لأهلها كالطير المذبوح ،مكسورة الخاطر، تتمنى فقط رؤية طفلها واحتضانه…
فأي ظلم هذا الذي يحرم أما من فلذة كبدها بسبب قدر لا يد لها فيه …
وبينما هي غارقة في الذكريات الاليمة، هاجمها الالم بشدة، فألم الكيماوي يمزق الجسد وجعا، صرخت بأعلى صوتها: ولدي محمد، اريد ان اراه ولو لمرة واحدة قبل ان اموت، اريد ان احضنه، ان أقبله، أن أشم رائحته، أريد ان أسمع منه كلمة أمي قبل الرحيل، وأغمي عليها ونقلت للمستشفى…
وهنا ذهب الاخ الاكبر رغم المحاولات السابقة عند اهل الزوج، وشرح لهم وضع أخته وأنها في مرحلة الاحتضار، فاستجابوا لطلبه وذهبت الجدة والجد برفقة الحفيد (محمد) لكي يودع والدته…
دخلوا عليها، لم يعرفوها، فالمرض قد أكل من جسدها، وغير ملامحها، وجعل ابنة الثلاثين تبدو وكأنها في السبعين، وكأنهم في تلك اللحظة استفاقوا من غيبوبة الظلم والبطش الذي مارسوه لسنوات، وطلبوا منها السماح والعفو، وقالوا للطفل هذه أمك، اقترب منها واحضنها، لكن الطفل خاف ولم يستطع احتضان والدته التي لا يعرفها…
أي قهر هذا ؟؟
نادته رباب بصوتها الهزيل الضعيف ، وهي بين سكرات وكربات… ولدي حبيبي، يا قطعة من فؤادي، تعال ارجوك لاحتضنك وأبصم على جبينك قبلة الوداع، لكنه ظل خائفا تائها بين الاقتراب والابتعاد،وفي عينيه الف سؤال وسؤال…
وهنا انفجرت الجدة بالبكاء تأثرا بحالة رباب واقتربت منها مجددا وطلبت منها السماح، وقالت لها: سوف ننقلك الى افضل مستشفى لتتلقي افضل علاج علنا نعوضك عن ظلمنا ونعوضك عما مضى؛؛
أومأت رباب بعينيها، ولسان حالها يقول:
عن أي ماض تتحدثين، وهل الماضي يعود؟؟؟؟
عن ماذا وماذا سوف تعوضينني، عن أمومة سرقتموها مني؟ عن قلب مزقتموه دون رحمة؟ عن جريمة لم أفعلها دفعت ثمنها حياتي وحرماني من ولدي؟
عن ماذا؟؟؟
عن سنوات من الألم والضياع والشتات، عن عمر غرق بدموع القهر والظلم…
عن ماذا؟؟؟
عن كلمة (ماما) التي باتت أمنيتي قبل الموت ولم أسمعها؟؟؟ عن قبلة على جبين طفلي خبأتها لسنوات طوال ولم أنلها حتى وأنا على فراش الموت؟
عن ماذا؟؟؟
عن ضحكات طفلي التي تسعد قلبي؟ عن مشاركته وفرحتي بأول خطوة يخطوها؟عن احتفالي به بأول يوم دراسي له بالمدرسة ؟…
عن اي تعويض تتحدثون؟؟؟
هل تعيدوا لي صحتي التي ضاعت؟ وضحكة احترقت وتناثر رمادها على صخور العذاب؟
عن أي ماض سوف تعوضونني؟؟ إن الماضي لا يعود…
وعادت رباب تنظر لطفلها نظرة استعطاف عله يحقق لها اخر امنياتها في الحياة، لكن المسكين كان في ذهول ( خوف وارتباك وحيرة).
وبدأت نظرات رباب تتلاشى وتشخص الى السماء، وبدأ الجسد ينتفض ويرتعش، وتجمدت الحروف والكلمات في حنجرتها، وبدأ مؤشر نبض القلب بالانخفاض سريعا يرافقه انخفاضا في ضغط الدم ونسبة الاوكسجين…
أسرع الاطباء اليها لإنعاشها بشتى الطرق، لكن اذا ما أتى الموت حينها لا ينفع دواء طبيب، ولا بكاء حبيب ، ولا دهشة قريب…
ماتت رباب وغادرت الدنيا وقد سبقها بالموت أحلامها ، وفرحها، وأمنياتها، غادرت رباب ورحلت الى ذاك العالم الاخر الذي لا يوجد به مكان للظلم والافتراء…
انتهت القصة نهاية مأساوية مثل قريناتها من قصص الواقع التي غالبا ما تنتهي بمأساة ونحاول ننقلها بمصداقية، علها تكون عبرة لمن أراد أن يعتبر.