الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

الحلقة الثانية من قراءات فلسفية:

ماركس

 

Luc Ferry
EAN : 9782081349971
976 pages
Éditeur : FLAMMARION (03/09/2014

 

 

عرض وترجمة عبد الكريم وشاشا

 

 

 

 

تقديم

 

دعوة للقراءة في فصول وفقرات كتاب “Sagesse D’aujourd‘hui” فلسفات أو حكم الأمس واليوم للفيلسوف ووزير الثقافة الفرنسي السابق اللامع Luc Ferry ..

 

جاهدة تتوخى هذه الدعوة المتواضعة التحفيز الرفاقي وإعادة الاعتبار للقراءة بشكل عام وللفلسفة بشكل خاص ..
وهنا لا يتعلق الأمر كما جاء في مدخل هذا الكتاب الضخم الوازن بمختصرات أو خلاصات للمذاهب الفلسفية كما نجد في الدلائل والكتب المدرسية المملة المعقدة والمنفرة للقلب والعقل.. والتي هي للأسف غير أمينة بالمرة.. وحتى كاريكاتورية..

 

فإستراتيجية الفيلسوف القارئ في هذا الكتاب تقوم باختيار مجموعة من الأفكار محددة لفيلسوف معين والتي يراها أكثر قوة وعظمة بل هي مؤسسة لفكره وتعتبر بمثابة أعمدة تنهض عليها فلسفته ومفاتيح لفهمها .. بعيدا عن كل اختزال أو ابتسار..

 

الحلقة الثانية: ماركس

 

ولد ماركس سنة 1818، في راينلاند، وتوفي عام 1883 بلندن، من المؤكد بأن ماركس وتوكفيل يعتبران من أكبر مفكري السياسة في القرن التاسع عشر.. ماركس مثل توكفيل، لا زال لديه أشياء أساسية ليقولها لنا على عالمنا الراهن: رغم أن هناك من لا يتفق مع النتائج السياسية المتمخضة عن رؤيته للمجتمع البورجوازي، فإن تحليلاته الاقتصادية والاجتماعية للرأسمالية تعتبر إلى حد الساعة، ثاقبة ومن أفضل التحليلات وأعمقها نظرا، بفضلها، يمكننا فهم هذا العالم الذي نعيشه .. ومن جميع الجوانب يبقى ماركس من أكبر المحللين للأزمات التي تجتازها الليبرالية المعاصرة؛ وعلينا قراءته وإعادة قراءته وفهمه بعيدا عن الأحكام المسبقة المبتسرة وخارج كل سجال أو مهاترة سياسوية لا تجدي نفعا ..

 

في هذا الدرس سنعالج ثلاث ثيمات أو موضوعات كبرى خاصة لولوج حقيقي إلى قلب فلسفة وأعمال ماركس.

 

الموضوعة الأولى:

 

نظرية الأزمات والثورات. لقد قام ماركس بقراءة أساسية للثورة الفرنسية 1789، وأيضا لثورة 1848، ولمختلف إعلانات حقوق الإنسان المصاحبة لهما.. ما هو الرابط بين هذه الثورات المعاصرة له وتلك الثورة البروليتارية التي نظَر لها ورغب فيها واعتبرها آتية لا ريب فيها..؟.. وبشكل عام، نتساءل ما الذي اعتمد عليه ماركس ليفكر بأن المجتمع الرأسمالي علينا تجاوزه وبناء مجتمع آخر على أنقاضه، مجتمع خال من الاغتراب حيث الناس أخيرا على قدم المساواة أحرارا وسعداء… موضوعة أغرت بل أشعلت الحماس والتضحية في قلوب مئات الملايين طيلة القرن العشرين..

 

الموضوعة الثانية:

 

تتعلق بالتحليل الاقتصادي الذي يدعونا إليه ماركس، تحليل يتمركز حول نظريته المعروفة فائض القيمة التي تشكل قلب تصوره حول الرأسمالية، والتي أثارت الكثير من اللغط والعديد من سوء الفهم.. ومن المجدي التوقف لعرض عمق هذه النظرية لتبديد الكثير من التوهمات والتخرصات الرائجة حولها.

 

 الموضوعة الثالثة:

 

التي سنعرضها هي في حقيقة الأمر الانتقادات الرئيسية لماركس وهي التي ستمكننا من فهم أفضل وجيد لأعماله، وسترينا مدى القطيعة والرجات التي أحدثها في التاريخ الإنساني ، بدون شك أكثر من أي أحد آخر….

 

نظرية الأزمات والثورات: فلسفة التاريخ عند ماركس

 

قبل أن نشق طريقنا داخل هذه الموضوعة دعونا نستحضر فكرة عميقة وأصيلة، توجد من قبل عند ماركس، مفادها أن الرأسمالية في جوهرها نظام من ” الثورة الدائمة ” وهذا يعني أن الاقتصاد الحديث لا يمكنه المواصلة والحفاظ على نفسه إلا بتجديد مستمر لهياكله وبإحداث قطائع ومتغيرات دائمة..
بداية، هذه من الأوصاف الذكية والبليغة والمنصفة للعولمة الليبرالية التي نخبرها ونشاهدها اليوم.. حيث القطائع والتجديد من أجل التجديد هي قوانينها الخاصة وهي قوانين متحكمة في العالم …
إنه منطق (Benchmarking) المقارنة / المنافسة مع منافسين يجبرون الشركات والمقاولات على التجديد والإبداع الدائم في كل ما يتعلق بالإنتاج والتواصل والإدارة والموارد البشرية والنقل والتوليف والتخزين واللوجيستيك…، وتوجيه الأذواق والميولات والرغبات والتحكم فيها… وذلك من أجل الاستمرار حفاظا على الذات لكي لا تتعرض للافتراس من الآخر المنافس…

 

لقد كان ماركس بعينه الثاقبة، من الأوائل، الذين استطاعوا استشراف الرأسمالية الحديثة بجدارة وتحليلها بعمق، مشيرا إلى نمط الإنتاج الرأسمالي وإلى أنظمة تنظيم الإنتاج والتوزيع في المجتمعات الرأسمالية..

 

يقول: ” إن البورجوازية لا يمكن أن تحافظ على وجودها بدون ثورات دائمة ومستمرة لأدوات الإنتاج ، ومن تمَ علاقات الإنتاج، وبالتالي مجموع الشروط والعلاقات الاجتماعية. وبخلاف ذلك، كان الشرط الأول لوجود كل الطبقات الصناعية ما قبل الرأسمالية، هو الحفاظ والتمسك بنمط الإنتاج القديم..وخلال هيمنتها الطبقية التي لم يكد يمضي عليها قرن من الزمان، خلقت البورجوازية قوى إنتاج ضخمة وبأعداد هائلة تفوق بكثير كل ما خلقته الأجيال السابقة مجتمعة. ”

 

هذا إذن، في الواقع ماهية الرأسمالية، بمعنى جوهر المجتمعات الحديثة: فإذا كانت الطبقات المهيمنة السابقة هي بشكل عام محافظة، ولا يشغلها إلا همٌ وحيد، ألا وهو، عدم التغيير والحفاظ على الوضع الحالي وعلى التقاليد القديمة، فإن النظام الاقتصادي الذي يميز الرأسمالية، هو في ثورة دائمة، وقطائع وتحديث مستمر (…) في الواقع، الرأسمالية الحديثة، وهذا ما نراه جيدا اليوم أكثر من أي وقت مضى، في وجهها الجديد ، العولمة الليبرالية، العالم يتغير بدون توقف، والتجديد أصبح قسمتنا اليومية: ابتكارات علمية وتقنية، تجديد في أنماط الإنتاج، وأيضا في نمط الحياة والاستهلاك. لقد كان ماركس محقا في هذه النقطة: الرأسمالية، ثورة دائمة.

 

إن تحليل ماركس متجذر في فهم واستيعاب ما يسميه ب ” نمط الإنتاج ” مع مكونيه الأساسيين : من جهة ” القوى المنتجة “، ومن جهة أخرى نظام الإنتاج، وهذا الأخير غالبا ما نطلق عليه بترجمة غير موفقة ب” علاقات الإنتاج ” التي تفتقر إلى حد بعيد للمعنى الحقيقي.. ورغم ذلك سنحتفظ باستعماله لقوة شيوعه واستخدامه..

 

القوى المنتجة:

 

المكون الأول لنمط الإنتاج، يطلق عليه ماركس ب” القوى المنتجة ” ويشير إلى قدرة مجتمع معين على الإنتاج، ويتضمن ثلاثة عناصر مؤسسة لما يطلق عليه ماركس أيضا ب” البنية التحتية الاقتصادية “؛
العنصر الأول هو: الثروات الطبيعية، بحسب طقس وطبيعة البلد هل هي صحراوية جافة، أم خصبة ومطيرة، وهل باطن أرضها يحتوي أو لا يحتوي على المواد الخام التي يمكن استعمالها في الصناعة أو للتجارة، كل ذلك يؤثر بشكل واضح في القدرة على الإنتاج.

 

العنصر الثاني، حالة العلوم والتكنولوجيا في البلد أو الدرجة التي بلغتها، فكل ما تطورت التكنولوجيا وتقنياتها تقدمت العلوم، كلما أصبح المجتمع أكثر إنتاجية وقادر على استغلال ثرواته بشكل جيد.
العنصر الثالث وهو الأهم، وأكثر حيوية للغاية، وقابل للاشتعال والانفجار: الموارد البشرية،. العمال والشغيلة، هذه الكائنات من اللحم والدم التي تشكل الطبقة المنتجة، وهي التي تقوم بتحويل المواد الأولية والثروات الطبيعية مستخدمة في ذلك العلوم والتكنولوجيا…

 

فالعنصر الثالث هو في الحقيقة هو العنصر الرئيسي والأساسي في القوى المنتجة.

 

علاقات الإنتاج:

 

من جهة أخرى، نجد ” علاقات الإنتاج ” وللمرة الثانية، نؤكد على أن الصيغة الألمانية الأصلية واضحة المعنى بخلاف الترجمة الفرنسية (Les rapports de production)، لأنها تحيل بكل بساطة إلى الظروف والشروط العامة التي تجري فيها عملية الإنتاج داخل نظام اقتصادي معين.

 

من أكثر التعابير وضوحا لعلاقات الإنتاج، حسب ماركس، “نظام علاقات الملكية” والتي من خلالها نقف على حقيقة من هم أصحاب الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، هنا نجد سؤالا قد طرحه جان جاك روسو من قبل، في مقالته الشهيرة أصل التفاوت بين الناس (1755) : من يمسك بملكية وسائل الإنتاج، بمعنى من لديه القوة ليجعل الآخرين يكدون ويشقون لصالحه، يستعمل عملهم ليستخلص ربحه الخاص؟… ف “علاقات الملكية “، ليست في الواقع، حسب ماركس، إلا التعبير القانوني ل”علاقات الإنتاج”.

 

لنأخذ معا هذين المكونين، من جهة القوى المنتجة (بعناصرها الثلاثة) ومن جهة أخرى نظام الإنتاج والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وذلك لتحديد ما يطلق عليه ماركس ب نمط الإنتاج.

 

فماركس يميز عبر مسار التاريخ، خمس أنماط كبرى مختلفة للإنتاج، خمس حقب تاريخية متعاقبة ومترابطة فيما بينها، ومتصلة بلحظات الأزمات الثورية: إذن من المهم بمكان أن نأخذ على الأقل فكرة عن هذه الخطاطة العامة لمسار التاريخ الإنساني، لفهم واستيعاب كيف قرأ ماركس الثورات والأزمات بما فيها تنبؤه لأزمة الرأسمالية التي ستؤدي حتما إلى قيام المجتمع الشيوعي..

 

فالتاريخ الإنساني كله، بالنسبة إليه، هو، هذه السيرورة المترابطة المتعاقبة، صعودا، لخمس أنماط كبرى للإنتاج .
خمس فترات من التاريخ، خمس أنماط من الإنتاج. يعرف الجميع تلك الجملة الشهيرة التي نجدها في مستهل البيان الشيوعي (1848) الذي كتبه ماركس مع صديق عمره فريدريك أنجلز (1820 – 1895)، والتي هي: ” إن تاريخ كل مجتمع موجود إلى يومنا هذا هو تاريخ الصراع الطبقي ” ..

 

إذن فهذا “الصراع الطبقي” هو الذي سيشكل الخيط الأحمر لفلسفته في التاريخ، من خلاله، وبه، سنتمكن من معرفة كيفية تسلسل الفترات التاريخية، والمرور من حقبة تاريخية إلى أخرى، من نمط إنتاج معين، إلى نمط إنتاج مغاير، من مجتمع بنوع من المواصفات إلى مجتمع مختلف عنه.. ويبقى العامل الاقتصادي هو العنصر المحدد في النهاية.

 

 

الشيوعية البدائية:

 

 

فأول نمط إنتاج، هو ما أسماه ماركس ب ” الشيوعية البدائية ” (أو المشاعية البدائية بضم الميم)، يتميز بمميزات المجتمعات البدائية، حيث الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لا توجد بعد، وبالتالي لا وجود لتناقض أو صراع بين طبقة مهيمنة (التي تجبر الآخرين للعمل من أجلها) وطبقة مستغلَة.

 

فالتاريخ الإنساني ابتدأ بالشيوعية، لكنها شيوعية بدائية، طبعا، في مجتمعات لا تعرف الصناعة ولا الكتابة، لكنها شيوعية رغم ذلك، بمعنى، مجتمعات بدون ملكية خاصة وبدون صراع طبقي – يجب التأكيد هنا لتبديد سوء فهم رائج، فعندما يتحدث ماركس عن “الملكية الخاصة” فالأمر يتعلق دائما بملكية وسائل الإنتاج، وليس بالممتلكات الشخصية: فالفلاح، والقناص أو الصياد في المجتمعات البدائية له كامل الحق في امتلاك ملابسه، ومنزله وأدواته، فلا مشكلة في ذلك؛ لكن، ملكية وسائل الإنتاج، هي التي ستولد الصراع الطبقي، إنه إذن التقسيم الاجتماعي، وليس الممتلكات الشخصية…

 

 الشيوعية النهائية:

 

الشيوعية النهائية مختلفة، بكل تأكيد، عن الشيوعية البدائية، مادامت هي شيوعية صناعية، حيث الإنتاج، هو إنتاج التقدم التكنولوجي والعلمي، بينما المجتمعات البدائية هي مجتمعات تعيش على الكفاف وعلى أساس المقايضة فقط…. فمجتمعات التبادل والمقايضة لا تعرف لا النقود ولا الدولة، وهذه الأخيرة بالنسبة لماركس توجد في البنية الفوقية، بنية السلطة السياسية للطبقة المسيطرة (للمالكين)، إنها الأداة التي توظفها لتأبيد سيطرتها… وبما أنه لا توجد ملكية، في تلك المجتمعات الأولى فلا وجود لطبقة اجتماعية، وبالتالي، لا يمكن للدولة أن تكون أبدا. فهذه المجتمعات قبلية، إذن هي مجتمعات بدون دولة، بدون ملكية، بدون تاريخ، وبدون صراع طبقي.

 

من نمط الإنتاج العتيق أو القديم إلى نمط الإنتاج الفيودالي:

 

كيف ولماذا انتقلنا من هذه الشيوعية البدائية أو الأولية إلى نمط آخر من الإنتاج، نمط إنتاج عتيق، يتميز خاصة بظهور العبودية ؟ في كتابه ” أصل العائلة والملكية الخاصة، والدولة” يقدم أنجلز وصفا لظهور الصراع الطبقي قريبا إلى حد ما لما قدمه من قبل روسو في مقالته أصل التفاوت ما بين الناس: الجشع، الرغبة العارمة إلى حد الهوس التي تتملك البعض ليصبح أكثر ثراء لبسط قوته على الآخرين، مع قسط كبير من الخيلاء، أو كما قال روسو، “حب الذات” … بالإضافة إلى اكتشاف تقنيات جديدة تمكن من الإثراء السريع، والخروج من مجتمع يعيش على الكفاف، وانبثاق طبقة مالكة ثرية تستطيع أن تجعل الآخرين يشتغلون لفائدتها..

 

هذه العوامل المختلفة ساعدت على ظهور الملكية الخاصة ومعها طبقة مهيمنة وطبقة لا تملك شيئا مضطرة ومجبرة للعمل كعبيد من أجل أن تعيش، وهذا ما أطلق عليه ماركس بنمط الإنتاج العتيق لأنه وجد نموذجه الأكثر اكتمالا في العصور الرومانية واليونانية القديمة: في الطرف الأول رجال أحرار يملكون كل شيء، وفي الطرف الثاني عبيد لا يملكون أي شيء، حتى حياتهم ومصيرهم.. في هذا الوضع علاقات الإنتاج يدافع عنها مالكيها، وعلاقات الملكية في مكانها مصونة من قبل الطبقة المهيمنة بينما الطبقة المسحوقة المتكونة من الفقراء والعبيد يتم استغلالها.

 

من هذا النمط العتيق من الإنتاج، سننتقل بعض قرون إلى نمط الإنتاج الفيودالي، الذي يطابق الأنظمة الأوروبية القديمة، حيث نجد المالكين هم من الأرستقراطيين والنبلاء، وفي المقابل لم يعد هناك عبيد بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل الأقنان والفلاحين الذين يعملون من أجل ثروة النبلاء؛ فحول هذا النظام الجديد من الملكية اندلع صراع طبقي جديد، ليس فقط بين الأرستقراطية من جهة والفلاحين الأقنان من جهة ثانية، بل مع طبقة اجتماعية ثالثة والتي ستأتي لتقلب شكل الصراع بين قطبين: إنها البورجوازية.

 

من الرأسمالية إلى الشيوعية:

 

لقد مررنا بعجالة على هذه الأنماط الثلاثة من الإنتاج، بدون الدخول في التفاصيل: إن ما اهتم به ماركس ليس هو دراسة هذه الأنماط الثلاثة والوقوف عندها طويلا، بل إن تحليله كله قد انصب على نمط الإنتاج الرابع، الرأسمالية، وهو ما سنتوقف عنده نحن أيضا..

 

مع الرأسمالية، سنعاين فعلا، نظاما اقتصاديا، اجتماعيا وسياسيا جديدا كل الجدة بما أن المقاولات والشركات هي التي تمسك بزمام الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وبدقة أيضا فماركس يهتم بشكل كبير وخاص بالرأسمالية الصناعية، والرأسمالية المالية لا زالت جنينية في عصره.

 

فالصراع الطبقي سيتطور ويحتدم من الآن فصاعدا ما بين الطبقة البورجوازية، أي مالكي وسائل الإنتاج، والطبقة العاملة (أجراء) ” حرة ” في أن تبيع أو لا تبيع قوة عملها في السوق (حرية مقننة طبعا)هذا هو الذي سيأخذ أهمية مركزية في تحليل ماركس باعتباره سبب الأزمات في ذلك الوقت.

 

فلسفة التاريخ مستلهمة من هيغل:

 

وكما عرضنا من قبل، فالمرحلة الأخيرة من التاريخ ستعيد لنا إذن بشكل أو بآخر الشيوعية البدائية، ولكن بعد إثرائها بكل الاكتشافات وبكل المنجزات التقدمية الذي تم إحرازها خلال فترات أنماط الإنتاج الثلاثة السابقة (العتيق، الفيودالي والرأسمالي) بحيث أن هذه الشيوعية النهائية لن تعود أبدا مجتمعات الكفاف، ولكن عكس ذلك، مجتمعات الازدهار التي سيتم فيها تقاسم الثروات حسب معادلة: ” كل حسب حاجته ” وسيتمكن أخيرا الناس من أن يصبحوا أحرارا من كل استلاب والمرور إلى التنمية الكاملة والتألق الإنساني الرفيع… (..)

 

إننا هنا أمام خطاطة هيغلية بامتياز، مع فكرة أن بداية التاريخ تحمل في ثناياها بذور، وطاقات مختلف أنماط الإنتاج والتي سيقوم التاريخ بفردها لاحقا، وهذا هو السبب الذي جعل ماركس يرى أن الشيوعية النهائية سيتم إرساؤها على أنقاض مجتمعات لم تعد بدائية ومحتاجة، مجتمعات جديدة ستنبثق وتولد من رحم المجتمعات التي قامت بتطوير هائل لكل القوى الإنتاجية التي تتوفر عليها، مجتمعات ستنعم أخيرا بالرفاهية المادية مثلما ستنعم بالحرية، فالحرية والسعادة الإنسانية، هما في الواقع، بالنسبة لماركس، الأهداف الكبرى النهائية للتاريخ… (…)

 

الاتجاه نحو تاريخ مغاير:

 

تاريخ خال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ومن الصراع الطبقي، تاريخ من الحرية والازدهار والامتلاء الذاتي ومن السعادة.. علينا أن نستحضر دائما بأن ماركس لا يتطلع من خلال مشروعه الشيوعي إلى المساواة فقط بل إلى التحرير والرفاه ، والحرية والسعادة الإنسانية .. يبقى أن نرى إذن كيف قام بتحليل الأزمة الحتمية للرأسمالية.
فهذا هو موضوعه الرئيسي: لماذا الرأسمالية غير قادرة على البقاء والاستمرار.. ومن أين جاء هذا التأكيد المطلق بأن الرأسمالية سيتم القضاء عليها بثورة بروليتارية، والمرور لبناء الشيوعية.

 

تناقضات أزمات الرأسمالية: نحو ثورة بروليتارية

 

نجد في تفكير ماركس مقاربتين اثنتين للأزمات والثورات. المقاربة الأولى سطحية شيئا ما، لكنها غير حاضرة بقوة في الخطاب الماركسي العادي، تحلل بطريقة بسيطة، كي لا نقول تبسيطية، الطبيعة المتناقضة للرأسمالية بسبب أزمات ” فائض الإنتاج ” ..

 

بينما المقاربة الثانية أكثر عمقا وعادلة، تشكلت وتطورت ابتداء من ” نظرية القيمة المضافة “.. إنها مثيرة، وصعبة بعض الشيء، لكننا سنلقي عليها بعض الضوء لاستكناه خفاياها.

 

أزمات فائض الإنتاج: المقاربة الأولى لأزمات الرأسمالية

 

ماذا يعني بالضبط بعبارات محددة الفكرة التي مفادها أن الرأسمالية ستعيش ” تناقضات ” وبالتالي لا يمكن أن تستمر ؟ وكي نقولها بمفردات عصرية، لا يمكن أن يوجد حسب ماركس ” تطور دائم للرأسمالية “، لأن هناك فعلا تناقض يمنعها من الاستمرار والبقاء إلى الأبد بذاتها، ما هو السبب بالضبط ؟ لنحاول تتبع بقدر الإمكان المنطق الماركسي كما هو معروض في البيان الشيوعي.

 

ما يميز الإنتاج الرأسمالي، هو حرية المقاولات، هذا يعني أكثر تحديدا أن أرباب الشركات والمقاولات يحوزون الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.. فيمكن للعامل بشكل طبيعي أن يمتلك منزلا وحديقة، وسيارة.. لكن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ليست في متناوله… فأرباب العمل من شركات ومقاولات هم أحرار في عملهم، بما يعني أنهم يمكنهم إنتاج ما يرغبون، بالطريقة التي يريدون وفي أي وقت يشاؤون، وبالكميات التي يرونها .. لكن، في حالة إذا كان الإنتاج الرأسمالي غير مخطط وغير مهيكل وغير منظم جماعيا، بل مرتبط ب ” أشخاص مكتفين بذواتهم” الذين هم أرباب العمل، أحرار ، يعملون بطرق غير منتظمة، ، سيولد لا محالة ما أطلق عليه ماركس ب ” أزمات فائض الإنتاج “. وبعبارة واضحة: إذا قام أرباب العمل الرأسماليين، مثلا، بإنتاج نفس المنتوج وفي نفس الوقت، فالإنتاج سيتجاوز الاستهلاك، بحيث أنه من الضروري إتلاف هذه الموارد المنتجة من طرف العمال.

 

هنا يكمن، حسب المقاربة الأولى، التناقض الرئيسي للرأسمالية، ماركس مقتنع أيما اقتناع، بأنه عندما ننظم ونخطط جيدا للإنتاج، فإننا سنتجنب الأزمات. ففي لحظات معينة، الملكية الخاصة تصبح معيقة فعلا لتطور قوى الإنتاج عندما تخلف بطريقة أو بأخرى خسارات، وتدمر قواها.. ففائض الإنتاج، ليس هو فقط إتلاف للإنتاج، ولكنه الكساد والإفلاس ومن ثم تفشي البطالة والعطالة، والتي تعتبر بامتياز تدمير لقوى الإنتاج ..

 

هكذا قدم ماركس بنفسه هذا التعليل (إسهام في نقد الاقتصاد السياسي):

 

وتدخل قوى الإنتاج المادية للمجتمع، عند مرحلة معينة من تطورها، في صدام مع علاقات الإنتاج القائمة أو التي لا تعدو أن تكون تعبيرا قانونيا مع علاقات الملكية التي ظلت حتى ذلك الحين تعمل في نطاقها. فتلك العلاقات تتحول من أشكال تعمل على تطور القوى الإنتاجية إلى أغلال تقيد هذه القوى، عندئذ يبدأ عصر من الثورة الاجتماعية.

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات