أطروحات مخالفة ونقدية
تقديم و قراءة و ترجمة:
عبد الكريم وشاشا
مقدمة :
تشبه تجربة بعض الأحزاب اليسارية والشيوعية إلى حد بعيد بطل رواية ” اللجنة ” ذات الأجواء الكابوسية الغرائبية والذي انتهى بأن ” أكل نفسه “.
وتحتل الرواية موقعا هاما في تطور الرواية المكتوبة باللغة العربية، كما أن الروائي والمناضل صنع الله إبراهيم ؛ كان سباقا ولافتا في التمرد على القوالب السردية التقليدية الجامدة، وفي إبداع الأساليب والتقنيات الروائية الجديدة المنفتحة على التجارب العالمية المبهرة، منذ روايته الأولى:
تلك الرائحة
ثم : رواية – ذات
ورواية – بيروت بيروت
و – شرف
ثم – نجمة أغسطس …
والجدير بالإشارة أن الموضوعة المركزية للرواية نفسها والذي كشفته القراءة النقدية للناقدة المجدة سيزا قاسم يلامس المشكلة الجوهرية داخل الهياكل التقليدية للتنظيمات والأحزاب الشائخة كما هي متفشية في المجتمع، وهي :
تزييف المعرفة وحجبها، بواسطة ما يمكن تسميته بالقمع المعرفي، من خلال التمسح والتبرك المزيف بالشهداء والرموز . ،
وتبقى الإجابة السليمة على هذا الواقع هي:
العمل على فتح آفاق رحبة في النقاش والمقارنة والاختلاف والرؤية بعيدا عن لغة الشعارات، وعن الكهوف والسجون الذهنية المظلمة والتقاليد الأبوية البطريركية.
من هذه التجارب التي يجب استحضارها، و قراءتها بعمق هي تجربة الحزب الشيوعي الفرنسي ، الذي أنتج سياسيين مرموقين ومفكرين وفلاسفة كبار مثل لويس ألتوسير، وروجي غارودي، ولوسيان سيف …
قدموا للفكر الإنساني وخاصة الفكر الماركسي إضاءات مهمة وخالدة.
لقد كان الحزب بالفعل مدرسة ثقافية ومدرج جامعي للتحصيل المعرفي والنقاش الفكري المحتدم الحامي الوطيس، ثم نموذجا للعلاقات الرفاقية النضالية.
وتعتبر العلاقة المثالية التي جمعت مدى الحياة بين الفيلسوفين لويس ألتوسير ولوسيان سيف من أرقى العلاقات الفكرية والنضالية في تاريخ الأحزاب اليسارية،
وقد تركت لنا هذه العلاقة التاريخية مئات الرسائل المتبادلة بين عامي 1949 و1987 تحمل في طياتها مناقشات فكرية وأطروحات حية.
في هذه المراسلات التي كانت ثرية جدا وخاصة بين سنة 1963 و1973 طرحت أسئلة ذات أهمية نظرية وسياسية عالية، نسبة للسياق والتحديات الذي تمر منه الشيوعية، مثل:
هل مساهمة ماو تسي تونغ في الديالكتيك جائزة؟
هل مادية ماركس التاريخية معادية للإنسانية (antihumanisme) ؟
ما هي تصوراتنا حول علم النفس ؟ …
وقضايا أخرى.
وبعد نقطة معينة ينقطع الحوار، لكن الصداقة تستمر وتدوم حتى النهاية.
وقد قام ( Roger Martelli ) الكاتب والمؤرخ المتخصص في تاريخ الحزب الشيوعي الفرنسي بتجميع هذه المراسلات وطبعها في طبعة نقدية من أجل نفض الغبار عن هذه المساهمات الفكرية الأصيلة ولفهم لحظة فارقة في تاريخ الشيوعية وفي الحياة الفكرية للقرن العشرين.
كما كانت تعتبر دورات اللجنة المركزية حدثا سياسيا بارزا، فالدورة المنعقدة في شهر مارس من سنة 1966 لها مكانة خاصة ومفصلية في تاريخ الشيوعية الفرنسية، إنها تجسد لحظة التجديد وانتقال وإرادة التغيير، كما يعبر عنه المصطلح الإيطالي:
Aggiornamento
( Aggiornamento est un terme italien signifiant littéralement « mise à jour ». Il fut utilisé à la fois par les évêques de l’Église catholique et les médias pendant le concile Vatican II pour désigner une volonté de changement dans la religion, )
محاولة قام بها الأمين العام الجديد للحزب آنذاك (Waldeck Rochet )، لدفن الثقافة الستالينية الحديدية إلى الأبد. وأصبحت هذه الدورة للجنة المركزية رمزا للانفتاح، ومرجعا وأسطورة؛
كما أن دورات اللجنة المركزية بعد تداعيات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي المنعقد سنة 1956 حبلت بصراعات فكرية وعقائدية متشابكة؛ وظهور تيارات جديدة في الفن والأدب والعلوم الاجتماعية، ومحاولات المثقفين الشيوعيين لمجابهة تطور المجتمع والجهود المبذولة لتشكيل جبهة مناهضة للديغولية.
ولأول مرة تقوم لجنة مركزية لحزب شيوعي بطبع ونشر مداخلاتها من سنة 1953 إلى سنة 1967 مسلطة الضوء على غنى مناقشاتها حول قضايا المجتمع والأحداث الثقافية في ذلك الوقت.
سنعرض هنا قراءة موجزة لإحدى الأدبيات النقدية المهمة للمفكر والفيلسوف المناضل لوسيان سيف ( Lucien Sève ) من أجل القراءة والتفكير في الانتقادات والمقترحات التي تحملها مع أخذ بعين الاعتبار السياق والمسار والتاريخ الفكري والنضالي الذي يحمله صاحبها الذي يتمتع ويحظى بالاحترام والتقدير من كل التيارات اليسارية في العالم.
الفيلسوف والمناضل الشيوعي لوسيان سيف (توفي يوم الاثنين 23 مارس 2020 بسبب إصابته بفيروس كورونا المستجد عن عمر يناهز 93 عاما )
هو صاحب مشروع فلسفي كبير حاول أن يربط ” التفكير مع ماركس ” بالمعارف المعاصرة، من علم النفس والأنثروبولوجيا إلى البيولوجيا وأخلاقيات علم الأحياء (la bioéthique) مرورا بدور الديالكتيك في العلوم الطبيعية. وهذا النشاط النضالي والفلسفي التي يقوم به هو خارج المؤسسات الجامعية؛ فهو عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي من 1961 إلى 1994، ومدير لدار المنشورات الاشتراكية من 1970 إلى 1982 وكان أحد المبادرين والمشرفين لإعادة نشر وترجمة كل أعمال ماركس وإنجلز. من أهم إصداراته:
– الماركسية ونظرية الشخصية
– مقدمة في الفلسفة الماركسية
– علوم وديالكتيك الطبيعة …الخ
مواصلا، انخرط في مشروعه الكبير والأخير تحت عنوان عريض
” التفكير مع ماركس اليوم ”
ب: ماركس ونحن ؟
– الإنسان؟
– الفلسفة ؟
والسؤال الجديد للشيوعية أو شيوعية القرن الحادي والعشرين…
انضم لوسيان سيف إلى الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1950، قضى 33 سنة عضوا في لجنته المركزية (1961 – 1994) وطيلة هذه المدة كلها كان منتقدا ومواجها لنمطية وجمود التنظيم السياسي، رافعا سنة 1984 راية ما سماه “إعادة تأسيس الشيوعية”،
وبعد ربع قرن من النضال في جميع الميادين التي أثمرت بعض النتائج، ولكن دون نجاح كبير، قرر سنة 2010 أن ينزل من سفينة الحزب الذي كان له مدة ستين سنة بمثابة مسكن له؛
وذلك بعد أن فقد كليا الأمل في قدرة الحزب الداخلية على التغيير.
حاول لوسيان سيف أن يشرح في عدة نصوص ومراسلات، وأن يبرز الأسباب التي تدفع مئات الشيوعيين من مغادرة الحزب؛
وسؤاله: المغادرة إلى أين ؟ ولماذا ؟
هل يغادر الحزب الشيوعي لأنه أحس أنه لم يعد شيوعيا ؟
أم العكس: البقاء في الحزب الشيوعي، يعني أنك لم تعد شيوعيا بامتلاء وبصورة مكثفة كما تتطلب الحالة الراهنة والصارخة للأشياء والعالم..
ثم السؤال الوجيه الذي يطرحه رفاقه: ماذا تقترح ؟
إن الإجابة على هذا السؤال، في نظره، ليست في متناول فرد واحد، كيفما كانت مقدراته الفكرية والتنظيمية، وأن ينتج ويضع سياسة مناسبة تتطلب مجهودا جماعيا؛
لكنه رغم ذلك، يرى بأن تكون شيوعيا في القرن 21 هناك شرط إلزامي:
عليك محاولة فهم، لماذا، يسار القرن 20 في كل مكان تقريبا، يعاني سكرة الموت والاحتضار. والأكثر مأساوية من ذلك، أنه لم يعد يطرح الأسئلة عن تاريخه وذاكرته. وأنه لم يجرؤ على القيام بتحليل عميق عن الانكماش والانحسار والانهيار والعزلة التي يعيشها .
فإذا لم أتوصل وأعرف بدقة الأمراض التي تقتلني،
فما هو إذن الأمل الذي سيبقيني على قيد الحياة ؟
فحسب منهجية وترتيب العمل الفكري، ليس هناك سؤالا أكثر إلحاحا، من هذا السؤال الذي يجب طرحة بعناية جراحية مركزة:
لماذا هذا الانحدار إلى الجحيم الذي لم يتوقف أكثر من 30 سنة ؟؟
وهذا ما تؤكده الوقائع والأحداث والمعارك النضالية الشاحبة الهزيلة.
لا يجب أن يكون التحليل موجزا ومستعجلا، يجب تناول الحقائق الجزئية في الاتجاه المعاكس، واستحضار ما هو أساسي، والنظر بهدوء وموضوعية إلى علاقة الحزب بالواقع الاجتماعي ومستواه الانتخابي وحالته التنظيمية ومصداقيته السياسية وتواصله الثقافي وصورته العامة.
إن هذه كلها، حسب لوسيان سيف، تحمل مؤشرات حمراء، مما يعكس أزمة تاريخية عميقة، بداخلها ثلاثة عناصر:
1 – *قصور استراتيجي
2 – شلل تنظيمي
3 – حساسية أمام التعددية
وفي كثير من الأحيان يجب إضافة العنصر الرابع وهو عنصر مشترك:
4 – الخمول الفكري
إن هدف الحزب بدون نقاش هو ” الاشتراكية ”
.
وهذا التحوّل لم يحققه لنا التاريخ الطويل لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية،
أو أي بلد اشتراكي آخر. كما أنه لم يخضع حتى لبداية مراجعة وافتحاص تاريخي. وهو الأمر الذي ينبغي أن يقلق ويزعج كل ماركسي.
إن الصراعات الاجتماعية يجب أن ترمي إلى بناء، من خلال المواجهة، أسس ما نطلق عليه اسم الاشتراكية. وقبل أي شيء، عمليات التأميم الصناعية والمصرفية واسعة النطاق.
لكن نهجا مثل هذا، لم يحقق هيمنة ثقافية ضرورية (كانت الأزمة القاتلة للبدان الاشتراكية تلزم افتحاصا نقديا عميقا لفكرة “الاشتراكية” نفسها، وهو التساؤل الذي توارى وغاب).
كانت النيوليبرالية هي التي غزت العقول، بحيث أنه في ظل ميزان القوى المختل لم يعد للحزب الشيوعي الفرنسي أية استراتيجية حقيقية باستثناء النضالات الاحتجاجية
(الاحتجاج على تفكيك الضمان الاجتماعي- معاهدة ماستريخت… الخ) والمعارك الانتخابية، نضالات أساسية، لكنها غير كافية.
منذ الثمانينات، انعطفت الحياة الحزبية كلها، من الاشتغال اليومي للخلايا إلى انعقاد المؤتمرات الوطنية، كلها أصبحت تدور حول الأجندة الانتخابية،
كانت الاستراتيجية الواضحة للحزب الشيوعي لأكثر من ربع قرن هي الهيمنة الانتخابية،
في حين أن التجارب الميدانية الوخيمة للعمال والشباب توضح أن لا شيء تغير ولا يمكن أن يتغير بهذه الطريقة.
من خلال سياسته، فالحزب الشيوعي الفرنسي ينظر إليه على أنه حزب انتخابي كغيره من الأحزاب الانتخابية، ولكن بدون أن تتاح له الفرصة للوصول إلى السلطة؛ لم يعد بإمكانه أن يثبت للشعب أنه يحمل مشروعا موثوقا للمستقبل ذو مصداقية ..
لكن من ذا الذي لا يزال يؤمن أن مع هذا الحزب “سنغير العالم “.
هنا تكمن بالفعل جذور الانهيار التاريخي للحزب: في رأي الفيلسوف لوسيان، مرد ذلك، النقص والقصور الجوهري في تجديد الفكر فيما يتعلق بالاستراتيجية،
في مضمونها المزدوج : (الهدف = الاشتراكية)
+ (الطريق: الركود الانتخابي)
ومن الأطروحات المركزية أيضا:
الشلل التنظيمي :
ما هو في العمق إلا نتيجة منطقية لما سبق، نتيجة في حد ذاتها مميتة، لأنها تجعل من التجديد الاستراتيجي الحيوي والضروري مستحيلا. فمن المعتاد اليوم في الحزب، اعتراض كل عملية نقدية، كأنها رفض مطلق للتنظيم وطعن في تاريخه وانحراف عن الخط؛
إن شكل التنظيم الحالي والحياة الحزبية هو موروث لينيني ابتكره هذا الأخير، وراجعته الأممية الثالثة. وهو من النماذج الصلبة التي تضمن الاتساق بين الهدف الاستراتيجي والممارسة التنظيمية في البلدان التي ليست بعد على الطريق الرأسمالي.
وكان الهدف هو الاستيلاء الثوري العنيف على السلطة للشروع في بناء الاشتراكية من الأعلى ؛
والحزب عليه أن يكون أداة الحرب الطبقية، وهو بمثابة مركز القيادة أو هيئة أركان عامة
(un état-major)
بلا منازع ولا تقبل النقاش تقود وتوجه مناضلين خاضعين ومنضبطين كجنود داخل المعركة.
إن جوهر هذا النوع من التنظيم وشكله العمودي الهرمي (قمة توجه وقاعدة تنفذ)
هو ما تقتضي الحقائق القاسية للنضال بسبب قلة القدرات السياسية العالية !
لقد أدرك لينين، بأن الانضباط وحده يكفي، الانضباط القائم على القناعة المكتسبة طوعا، بحيث أنه داخل الحزب الذي قام بثورة 1917 تداخلت ديمقراطية حقيقية للمؤتمرات وسلطة القيادة الشرعية مع الصعوبات والظروف القاهرة والرهيبة للحرب الأهلية، ثم الاحباط من الممارسات الفظة والوحشية لستالين؛
ولم يتبق فعليا إلا الإملاءات من القمة.
لقد اختلفت الأمور كثيرا، وقامت الكثير من الأحزاب عبر العالم بإدخال العديد من العناصر الديمقراطية، حتى أنه في المؤتمر 28 للحزب الشيوعي الفرنسي المنعقد سنة 1994 وضع حدا للمركزية؛
لكن الهياكل الأساسية للتنظيم لم يطرأ عليها أي تغيير، ولم تتغير بشكل من الأشكال:
هناك دائما قمة توجه وقاعدة تنفذ (مع المزيد والمزيد من المشاكل)
ولا يمكن لأي شيء أن يتغير حقيقة، لأن هذا النمط من التنظيم، وحده يستجيب لنوع الاستراتيجية التي يتم تطبيقها…
فإذا قبلنا الاشتراك ضمن المعايير السياسية المؤسساتية السائدة، بمعنى، الهيمنة البورجوازية:
فإننا سنركز كل الأنشطة الحزبية على المشاركة في الانتخابات. نحتاج حينها حقا إلى تنظيم عمودي على رأسه قيادة توجه (تضع خطة المعركة الانتخابية والبرنامج واختيار المرشحين والتفاوض مع الحلفاء، توجه الدعاية… الخ )
ثم ننخرط في “النقاشات الديمقراطية” حول اختيار من الاختيارات وضعته القيادة سلفا ومنذ مدة طويلة؛
إن هذه الأشكال المخادعة للديمقراطية هي إهانة لذكاء المناضلين. وهكذا يصبح الشيوعيون سجناء ورهائن لتنظيم وضع بشكل مخالف للشيوعية نفسها، يؤدي إلى نتائج عكسية، باعتباره أداة مفترضة للتحرر والانعتاق.
فالاستراتيجية والتنظيم هما جوهريا نفس الشيء، ينظر إليهما من زاويتين:
فبمجرد وجود قصور استراتيجي، يحدث شلل تنظيمي: يموت الحزب والعكس صحيح؛ وهكذا يموت الحزب مرتين.
الحساسية من الاختلاف والتعدد التي تطبع للأسف كل من الخط السياسي الموحد للحزب، ورد فعل القيادة لكل رأي معارض؛
إن الانفتاح الحقيقي على الاختلاف والتعدد له بالطبع شرط واحد:
الثقة بالنفس الذي يغذي نجاح الفعل السياسي بدعم من حيوية الفكر ،
بحيث أن التعلم من الآخرين لا يجعلك تخشى من أن تفقد نفسك.
يقول لوسيان : بالنسبة لفعلنا السياسي، فقد شهد في العقود الأخيرة هبوطا مريعا، ارتكز كله من الخوف المرعب من الاضمحلال والاختفاء
(مثال: الخوف من الحالة المأساوية الشبحية التي عليها الآن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)..
فبعد الخسارة المتتالية أمام الحزب الاشتراكي سنوات السبعينات والثمانينات، ترسّخ في النفوس شبح التهديد الماثل الذي يقض المضاجع من الحليف الذي ” نساعده أن يكبر، وهو يقوم بتهميشنا …
إن التجربة تبين لنا أن لا شيء تغير، وأن الردود السيئة اتجاه كل تفكير مغاير لم تختف، على الرغم من أننا لا نمل من تكرار “التنوع ثراء”…
عندما تكون لديك انتقادات قائمة على اختيارات وممارسات القيادة، واقتراحات مختلفة مزعجة، عليك أن تقدمها، فمن النادر أن يتم الاستماع إليك..
وسيتم التعامل معك كعدو داخلي. إذا كان يبدو هذا مبالغا فيه، فلنتحلى بالشجاعة وننظم جلسات استماع للعشرات الذين غادروا الحزب، خاصة في الآونة الأخيرة:
إن تنظيما مثل هذا يجعل من نفسه أصما وأبكما وأعمى، فما هي إذن الفرصة المتبقية له للاستمرار.
يؤكد لوسيان سيف بأن مغادرته للحزب، لم تكن في يوم من الأيام ضد الرفاق، بل هي ضد “نظام”، ”
فأنا أعتبرهم بمعنى معين، هم أنفسهم، ضحايا له. ولكي يكون المرء اليوم صادقا في هذه المسألة، يجب عليه أن يكون قد انخرط بشكل كبير في نقد ما هو موجود واستشراف ما يجب أن يكون مستقبلا..
ومع ذلك فإننا لا نرى أية بداية حقيقية للنقد الذاتي، ولا مشروع جدي لتأسيس نظرية بالمعنى الدقيق للكلمة؛”
إن المسألة المشتركة بين هذه العوامل الثلاثة المأساوية القاتلة هي: خمول النشاط الفكري للحزب .
إنه شيء آخر أكبر بكثير من النزاع الهائج لنخبة حول القيادة..
إنها المسألة الأساسية للنشاط الفكري والمعرفي التي تحتم على اليسار التفكير في المآسي الكثيرة للقرن الماضي، والتهديدات التي لا مثيل لها،
وفي نفس الوقت التفكير في الاحتمالات والممكنات للتغلب وتجاوز الرأسمالية. ومع ذلك، وبدون الرغبة في المبالغة والسوداوية، يمكننا أن نلاحظ التراجع الكبير والعميق لهذا العمل الفكري بكل أشكاله العديدة وعلى مر السنين.
إن هذه القراءة بالنسبة لي محزنة ومؤلمة، ولا أرى كيف يمكن حل هذه المشاكل الصارخة الاستراتيجية والتنظيمية والوحدوية…
ها هو ظهري الآن للحائط:
إذن في رأيي، ما العمل ؟
أليست الإجابة مضمّنة فيما سبق:
يموت الحزب الشيوعي لأنه ليس حزبا شيوعيا كما ينبغي. ماذا لو حاولنا أن نمارس يوميا السياسة الشيوعية بالمعنى الماركسي القوي لهذه الكلمة ؟ يعني هذا بشكل ملموس، أن نتناول بشكل جدي أطروحة ماركس الاستراتيجية:
” إن تحرير العمال سيكون من صنع العمال أنفسهم ”
إنها ربما أطروحة متقدمة جدا بالنسبة للقرن 19 الذي وردت فيه، حتى في البلدان الأكثر تقدما، بالنسبة لتطور القوى المنتجة ومستوى الوعي الثقافي للجماهير، مما أدى إلى القيام بالثورة من الأعلى بالحزب الهرمي للمأسوف عليها “الاشتراكية العلمية”
التي تمت هزيمتها التاريخية.
لكن إمكانيات الأطروحة هي في نفس المستوى مع الحالة الراهنة بدون الحاجة إلى أي تعديلات عليها..
لكن الأمر لمحرج، لمن يعتقد اليوم بأنه توجد حلولا سهلة………