الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

سلوك أُطرنا تجاه القضية الفلسطينية
بقلم : الشهيد عمر بنجلون ١/٣ *

 

 

هذه الوثيقة التاريخية من تقديم الفقيد احمد بنجلون في ركن “على الهامش” بتوقيع “حمدون القراص” نشرت على اعمدة جريدة المسار عدد 52 الصادر بتاريخ 1986/12/17، حيث تمت اعادة ترجمة النص الاصلي لمقال الشهيد عمر الذي كتب بالفرنسية، “لانه كان موجها بصفة خاصة الى الاطر المفرنسين… “وارتاينا ان نعيد ترجمة المقال للمزيد من الدقة والامانة والاخلاص للنص”، كما يقول الفقيد احمد، كما وضع له عدة هوامش للتذكير بالسياق التاريخي الذي كتب فيه هذا الموضوع. ونظرا لراهنية هذه المقالة واهمتها التاريخية نعيد نشرها عبر حلقات.

 

١- الجزء الاول :

* اعداد ونشر : يوسف بوستة

 

مدخل : تعدد عناصر الالتباس

إن الغموض الإيديولوجي لم يكتس أهمية قصوى، ولم تكن له مضاعفات دراماتيكية بالنسبة إلى أيّ بلد مستعمَر كما هو الشأن بالنسبة إلى فلسطين. وخلافا لجميع البلدان المستعمَرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فإن شعب فلسطين قد مَرَّ بمرحلة إضافية من النضال والتضحيات بالنسبة إلى جميع حركات التحرر الوطني.

ومن غير أن نَعُدّ كفاحات ما قبل 1948 وضمن العشرين سنة، المنظم من لدن وجود هذا الشعب نفسه، فإن هذا الأخير ما فتئ منذ أربع سنوات يخوض معركة مسلحة من أجل أن يقنع قبل كل شيء الأوساط المدعوة بالمعادية للاستعمار بأن فلسطين هي وطن شعب، وبأن إسرائيل ليست سوى احتلال من النوع الاستعماري.

ولمعرفة بعض الالتباس الإيديولوجي ونتائجه على المشكل الفلسطيني، يكفي أن نأخذ جان بول سارتر (1)، الذي برهن عمليا عن عدائه للاستعمار وانحاز بصفة مطلقة الى جانب الشعب الجزائري خلال حربه التحررية، وكان هذا الرجل يساهم في المحاكم ضد الجرائم الإمبريالية في فيتنام، كما يدافع في نفس الوقت عن إسرائيل وعن سياسة موشي ديان(2)، الذي عاد من سايغون حيث جند عددا من الطيارين المجرمين المكلفين بقَنبلة شمال الفيتنام. هذا المثال يوضح الى اي مدى اصبحت الاوساط المعروفة بمناهضتها للاستعمار في اوروبا وامريكا الشمالية، ومن ضمنها المفكرون الذين زعموا انهم اعادوا النظر في كل مسلمات الإيديولوجية البورجوازية، وكيف اصبح هؤلاء جميعا وفي الواقع، سجناء البديهيات الكادبة والمتراكمة كنذ نهاية القرن 19، وكانها جزء لا يتجزأ من فكر “اليسار”.

وفي الحقيقة يتعلق الأمر بلسلة من الوقائع التي تمتد من قضية دريفوس(3)، الى ابادة ملايين اليهود على ايدي النازية، وقائع خاصة بمجتمع أوروبا الغربية الرأسمالية التي افرزت النازية ذاتها. فمساندة انشاء إسرائيل ثم تصرفاتها، تشكل بالنسبة للعالم الغربي، بيمينه و”يساره” شكلا من إرضاء الضمير، وكلما توضحت حقيقة الصهيونية اكثر وضوحا، الا وصعب تبرير المصير الذي لقيه الوطن الفلسطيني وشعبه بمجرد الحقد على النازية المنقرضة، فاضطر المجتمع الغربي ومنظرو الإمبريالية والصهيونية، الى ابتكار نظريات متغيرة تبدو متناقضة بل متعاكسة، ولكنها ترمي في الواقع إلى نفس الهدف : تبرير وجود الإسرائيلي والحفاظ عليها.
ويمتد ذلك من “رأس الجسر الغربي” إلى النزعة السلمية” المناضلة لرودينسون(4)، مرورا بفكرة “الواقعية” والأمر الواقع، و”التنمية الاقتصادية الجهوية”. ويتعلق الامر في الواقع “بالملاءمة المستمرة”، لمناهج التضليل وتزييف الحقائق.
وترتبط فعالية تلك الأساليب بالسيطرة المتصاعدة للشبكات الصهيونية على النشر والصحافة الغربيين، وخاصة منها النعوتة باليسارية.

ومن ضمن ضحايا التكييف الإيديولوجي والثقافي يوجد أطر إفريقيا الشمالية، الذين تلقوا التعليم الكولونيالي البرجوازي الفرنسي، وتمكنت الأوساط الفرنسية المنعوتة بـ”اليسارية” من توجيه ذهنيتهم باكثر سهولة نظرا للدعم الذي قدمته تلك الاوساط، للحركة الوطنية الشمال – افريقية،
ونتذكر صرخة أحمد بن بلة(5) “نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب”.
ونتذكر مدى استغراب واستهجان عدد من المثقفين الشمال – افريقيين لهذه الصرخة، اذ تبنى كل منهم احدى التفسيرات المغرضة التي نشرت في الصحافة الفرنسية.
وكان لا بد من صدمة يونيو 1967(6)، واندلاع المقاومة الفلسطينية ليبدأ اطرنا في اعادة النظر في البديهيات الكاذبة الخاصة بالثقافة الغربية، والتي تولدت عن وقائع تاريخية خاصة بالمجتمع الاوروبي، وقائع لا علاقة لنا بها على الاطلاق.

غير ان هذه المراجعة لا تنصب على ما هو اساسي، اذ أن التحليل والسلوك لدى اولئك الاطر، يقومان دائما على المفاهيم الغربية، و”الواقعية” التي تتجاهل الواقع الملموس، وعلى الموضوعية المزعومة التي تطرح جانبا الموضوع نفسه لما يسمى وبدون تمييز، بالصراع العربي / الإسرائيلي، وأزمة الشرق الأوسط والمشكلة الفلسطينية..الخ. إنها إعادة نظر تحصر في اعتبار المقاومة الفلسطينية كحدث جديد، يُغيّر المعطيات القديمة ويطرح المشكل الحقيقي، وهو وجود إسرائيل، ويتعلق بالتطور نفسه الذي عرفه منظرو الصعيونية واليسار الاوروبي.

اذ انهم يتكيفون مع الوضع الجديد، وينددون بنسف المنازل، ويأخذون على ضحايا النازية استعمال أساليب النازية نفسها لحسابهم الخاص، وكل هذا لاقتراح اللقاءات وخلق لجان السلام والدعوة إلى الحلول “الفيدرالية والكونفيدرالية”(7) الخ. وهؤلاء التقدميون والثوار، وعلى راسهم رودينسون ويوري أفنيري (ذلك النائب الإسرائيلي الشهير، والوطني الإسرائيلي الذي يدعي “مناهضة الصهيونية”(8)، هم الأداة الاكثر دهاء وفعالية لدى الصهيونية على جبهة الدعاية والتضليل.
لا أحد منهم يجادل في وجود إسرائيل ككيان، او يطرح مشكل اغتصاب الوطن الفلسطيني، ويكتفون بمناقشة البنيات الحالية لإسرائيل، وبالتنديد بالسياسة التوسعيةلقادتها الخ..، وينتظرون منهم أن ينسلخوا عن الصهيونية لاقامة الدولة “المزدوجة القومية”، ومختلف أشكال التعاون والكونفدراليات…إلخ.

إنهم – اي اولئك التقدميون والثوار- بالنسبة للصهيونية وسياسة إسرائيل، ما كان اعضاء “الوعي الفرنسي” يمثلون بالنسية للحماية اثناء معركتنا وكفاحنا من اجل الاستقلال الوطني، “وعي فرنسي”،و”وجود فرنسي”: ظاهرتان تنشان وتتعارضان حينما تزعزع المقاومة السعبية المسلحة، وبشكل جدي الهرم الكولونيالي، جنين الفكرة الاستعمارية الجديدة، يتولد بلباس ابوية انسانية ويفكر في المستقبل، ويعد وسائل الحفاظ على ما هو اهم، ويعارض المصالح المختلفة التي تعبر وحشيتها عن اليأس وعن الشعور بقرب النهاية.

وجود صهيوني وضمير صهيوني، يشكلان القرار الموضوعي لعمل يرمي الى الحفاظ على ما هو مهم،”انني لا اريد شعبا ليبراليا ومناهضا للاستعمار ومسالما، لانه سيكون شعبا ميتا”، ذلك هو جواب غولدا مايير لاحد الصحفيين الذي كان يتساءل بقلق عن اختفاء “قيم الشعب”، اليهودي بسبب الاساليب النازية الواضحة التي تستعمل ضد العرب، اننا نتساءل عن تلك القيم المزعومة لذلك الشعب المزعوم، الذي يرجع اساس واصل وجوده نفسه الى اكبر سرقة في التاريخ، وهي سرقة وطن باكمله، واللص ليس له دستور ولا يريد الافصاح حدود البلاد التي يريد السطو عليها، ويعلن القادة الإسرائيليون ان إسرائيل هي التي سترسم حدودها بنفسها.

من هو اليهودي الذي يدعي انه مناهض للصهيونية، ويندد في نفس الوقت وبدون اي تحفظ بالسرقة، ويعيد النظر في وجود إسرائيل، دون ان يخصص الحيز الاكبر من خطابه اولا لتذكير تاريخي مطول حول المظالم التي تعرض لها اليهود، ثم مصير المليونين من اليهود المهاجرين(9).
وبهذه الطريقة وبفضل هذا المنهج الملتوي ينقلب المشكل ليصبح مطروحا على العرب وعلى الفلسطينيين وضحايا السرقة، نعم، لكن، نعم لكن… !، انني اعترف بحق الشعب الفلسطيني بشرعية المقاومة الفلسطينية الخ، ولكن ما هو الحل؟.

انكم لن تذهبوا الى القول مثل الشقيري(10)، إنه يجب “إلقائهم في البحر” !؟، وهكذا يكون قد تم الحفاظ عل المبادئ باستثناء المبدأ الاول منها كلها، الا وهو ضحية السرقة المستمرة ليست هي المطلوب منها تقديم الحل الملائم.
ووجهة نظر كهذه تحافظ على نغمة الصدق ومظهر التماسك وحرارة الماركسية – اللينينية! ويبلغ ذلك درجة الروعة حينما يتدخل علم النفس والسوسيولوجيا، وحينما يحاول التقدمي ابمنعوت بمناهضة الصهيونية، ان يبرهن على ان “إسرائيل ليست امة” وهذا التقدمي بدلا من قلب المشكل الأساسي، ومن تقديم البدائل للضحية بدلا من المحال، يقدم خدمة لهذا الاخير بتحويل المناقشة وتغدية مناقشة مزيفة.
فكفاح دموي لشعب سلب منه وطنه ليستخدم كقاعدة للامبريالية وكنقطة تجمع للصهيونية، يتحول الى موضوع للتاريخ القديم، ولكن لا يمكن ان نطلب اكثر من هذا من المثقفين اليهود، اذا كانت لدينا فكرة ولو اولية عن اساليب الضغط التي تمارسها الشبكات الصهيونية وبشتى الوسائل وفي كافة المجالات.
غير ان الامر هنا لا يتعلق لأولئك ولا بذاتيتهم ولا بصدقهم كافراد، فالهدف من الملاحظات السابقة هو اعطاء فكرة اولية عن تعدد عناصر الخلط التي تحيط بالمشكل الفلسطيني، وتحدد نظرة وسلوك المثقفين الشمال – افريقيين الذين تلقوا تكوينهم في المدرسة الراسمالية – الكولونيالية الفرنسية، ويتطلب منا ذلك معرفة :

1 – كيف أصبحت الصهيونية المستفيد من كل بديهيات الإيديولوجية البورجوازية السائدة، وخاصة تلك التي ترتبط بالأدب الكولونيالي الخاص “بالتخلف”، وسيكون علينا ان نقف عند بعض الجوانب التي ليست خاصة بالمشكل الفلسطيني، اذا اردنا ان نكشف عن زيف تلك البديهيات.

2 – إن تلك البديهيات مكنت الصهيونية من التاثير المباشر على بلداننا وأطرنا، مستغلة في ذلك سواء الظروف الثقافية والتقنية والاقتصادية المرتبطة بالقوة الاستعمارية السابقة وبـ”يسارها”، او الظروف الجغرافية والتاريخية (البعد والابتعاد بالنسبة لواقع الشرق الأوسط الذي لا نرى منه سوى المظاهر الخارجية والسلبية).

3 – وانطلاقا من ذلك، سيكون بالامكان انندرك أن التطور الاحق لسنة 1967، اذا كان قد ترجم باعادة النظر في الأفكار الساءدة، فإنه لم ينصب على الجوهر، فالغموض والخلط لا زال يكتنفان المشكل الأساسي. فالانهزامية المسماة”واقعية” او “موضوعية”، لازالت ترتكز على التشبت بالمظاهر، نظرا لكون الالتزام الى جانب الشعب الفلسطيني هو جزء من درج الالتزام داخل حركة التحرر.

ا – الصهيونية هي المستفيد الأول من البديهيات الكاذبة للفكر الكولونيالي والنيوكولونيالي قبل يونيو 1967 وبعده

لنذكر بأننا بصدد ابراز مظاهر الايديولوجية الرأسمالية – البورجوازية الغربية في التصورات، وطريقة التفكير والسلوك تجاه القضية الفلسطينية لدى اغلبية اطر شمال افريقيا ذوي الثقافة الفرنسية.
سنهتم اولا بكون تلك الثقافة قد لقنت لنا من خلال الأدب الكلونيالي والنيوكولونيالي الخاص ب”التقدم” ثم ب”التخلف”، لدرجة ان التصورات وطريقة التفكير التي تمارس على المشكل الفلسطيني، ما هي في الحقيقة، سوى جزء من السلوك الفكري والعملي لكل مثقف شمال – افريقي تجاه قضايا التحرر والاستعمار الجديد بصفة عامة.
وهذا الارتباط لا يمكن ان ينجلي بوضوح، الا اذا عززنا هذا التحليل بامثلة ملموسة، تبرز مدى استمرارية البديهيات الكاذبة، التي يتكون منهة الفكر الاستعماري الجديد في الظرف الراهن.

ذلك ان الايديولوجية الغربية ككل”العلوم الانسانية” المرتبطة بها، هي وليدة نمط الانتاج الراسمالي وفي نفس الوقت بنية فوقية له، وتقوم بوظيفة تبرير هذا النمط، اذ انها تقتصر على تحليل مظاهره الخارجية، او دراسته على مستوى كل قطاع على انفراد، وذلك حتى تتلافى تفسير المبدأ الذي يحركه، والعلاقات الاستغلالية التي يقوم عليها كنظام شمولي.
والفضل الكبير لماركس، هو انه جعل تلك الإيديولوجية محط نقاش مجددا، وكشف عن طابعها الوصفي الصرف والخادع، انطلاقا من هذا المبدأ الاساسي : ” ان كل شكل من أشكال الظهور هو شكل من أشكال التستر”.

وعلى اطرنا ان يفكروا جيدا في هذه المقولة التي تعني ان الفكر البورجوازي، يركز الانتباه على الشجرة لاخفاء الغابة، وقانون الغاب الراسمالي، ولكن يبقى ان هذا الفكر ونمط الإنتاج الرأسمالي الذي افرزه، هو نظام متماسك له منطقه الخاص، ويتكيف باستمرار مع المعطيات الجديدة مع الاحتفاظ بتماسكه ومنطقه الخاص به.
بل ان تلك الايديولوجية الوصفية ليست هي التي لقنت لنا، وانما نفاياتها وافرازاتها الوضعية، من خلال التعليم الكولونيالي وبعده كل الادبيات الاستعمارية الجديدة حول “التخلف”، وللمزيد من الوضوح ودون ان نبتعد عن موضوعنا، لننطلق من حدث دون اهمية تذكر، ولكنه يصور في نفس الوقت الى اي حد لازالت بعض الالاعيب والاكاذيب الاستعمارية – التي مضى عليها خمسون عاما – تعتبر حقائق وبديهيات وسط المثقفين المغاربة. “قدماء تلاميذ معهد ازرو” المجتمعون في مؤتمر لهم في مطلع هذا الصيف، لم يوافقوا على اتخاذ موقف حول القضية الفلسطينية، الا شريطة ان تثار هذه القضية ضمن قضايا اخرى مثل انغولا وموزمبيق (11) الخ..، وهذا ليس للتاكيد على ان قضية فلسطين هي مشكل استعماري، بل لتاكيد عكس ذلك، على ان المشكل مشكل “عربي”، لا يهمهم مباشرة اكثر مما تهمهم غينيا المسماة بالبرتغالية (12).
وهذا المثال الأقصى الذي يجسد الانتهازية بشكلها البدائي، يبين أيضا وأكثر من ذلك إلى اي مدى أصبحت الصهيونية أول مستفيد في بلداننا من أنماط التفكير التي وضعها استراتيجيو الاستعمار، والى اي حد تتمكن من كسب حياد اطر بلداننا بل وتحالفها الموضوعي.

غير أن عواقب الفكر الرأسمالي الكولونيالي الأكثر خطورة بصفة عامة، تكمن في احتقار انفسنا بأنفسنا كأمة عربية ونعت الانسان العربي بمجرد أنه بأشياء ناتجة في الواقع عن وضعية اختلقتها الامبريالية وتغذيها بواسطة أدواتها المحلية. فمن الذي لم يستمع إلى التعاليق المتشككة والمتحفظة التي يعلق بها المثقفين المغاربة على البلاغات عربی العربية حول الخسائر الصهيونية؟، وحينما يلاحظ عليهم أنه من غير الطبيعي أن يثقوا بصفة منهجية بالاخبار الصهيونية، وأن يطعنوا في أنباء البلدان أو المقاومة العربية، وأن ذلك يشكل من الناحية الفكرية مرقفا مؤيدا لاسرائيل، فالجواب يكون دائما هو : منذ 1967 لن أثق بهم (أي العرب). ومن هنا عمل جريدة «لوموند » على تشكيل رأي اولئك الأطر والتأثير عليه وتلقنهم « الواقعية والاعتدال” وتغذي فيهم الرغبة في إنهاء المشكل وفي “السلام”، وتثير المناقشات وتغديها حول “الحل او حظوظ الحل” لما تسميه بالنزاع الاسرائيلي – العربي”.

وهذا المثال الثاني يوضح كيف أن الصهيونية لا تستفيد من أشكال التفكير التي أقامها الاستعمار فحسب، بل كذلك من الروابط الثقافية والتقنية واللغوية للبلاد مع القوة الاستعمارية السابقة، روابط تسهل نشر رسائل الاعلام التي تتغلغل الصهيونية وسطها أو تراقبها بدرجات متفارتة (ناهيك عن علاقات الهيمنة والاستغلال الاقتصاديين التي تجعل من البلدان العربية نفسها قطاعا حيويا بالنسبة اللصهيونية التحويل الموارد المالية نحر اسرائيل). فالحديث عن تأثير البديهيات الكاذبة للفكر الرأسمالي – الكولونيالي على أطرنا فيما يخص المشكل الفلسطيني، يعني إذن طرح مشکل الاستعمار الجديد والامبريالية. هذا لانه سواء على مستوى الحكومات أو الأفراد، فإن درجة الالتزام الى جانب الشعب الفلسطيني تعكس مباشرة درجة العداء للامبريالية، لان الاحداث أرغمت الصهيونية أن تظهر أكثر فأكثر على حقيقتها ليس فقط كمحمية من طرف الامبريالية أو كأداة لها في الشرق الأوسط، بل أيضا كطابور خامس لها في دوائر اخرى وخاصة في افريقيا . ويجب أن نعلم أن حركات التحرير في بعض بلدان افريقيا الاستوائية تدوسي معاركها اليوم تحت شعار « ضد الامبريالية والصهيونية ، لأنها تأكدت من أن المساعدين التقنيين » الإسرائيليين يعملون في الواقع في إطار استراتجية امبريالية اسرائيل هي اداتها .

ويؤدي بنا هذا كله الى التطرق للمغالطات الأكثر خبثا وفعالية التي تتضمنها الأدبيات الاستعمارية الجديدة، والتي تم تبريها تحت اسم “التخلف”، وبفضلها تمكنت اسرائيل من انتزاع الاعتراف بها ومن إقامة مساعديها التقنيين، في العديد من الاقطار وأطر تلك البلدان ( وكذلك الشأن بالنسبة لأطرنا)، الذين تلقوا تكوينهم في مدرسة الأيديولوجية والاقتصاد السياسي البورجوازيين والوصفيين بصفة مطلقة، قد انخدعوا واقتنعوا بواسطة المظاهر ومنجزات اسرائيل واعتبروها مثالا للحل المعضلات التخلف و « حلقاته المفرغة الشهيرة (13)، واهتموا بالشجرة التي تخفي الغابة وتجاهلوا أن اسرائيل تستهلك خمسة أضعاف مما تنتج بفضل الموارد التي سلب جزء هام منها من بلدانهم ذاتها.

فالصهيونية اذن هي المستفيد الأول مرة اخرى من البديهيات الكانية حول التخلف التي نشرتها مجلة « العالم الثالث » وهي من الأدوات الأكثر دهاء وفعالية رحبنا للاستعمار الجديد ( وضمن ادارتها بالفعل عددا من الصهاينة المعروفين)، وهذه الأداة أوضح مثال لقدرة منظري الاستعمار الجديد على مواكبة تطور القوى التقدمية والتكيف معها، ولاقناع أطرنا “وتقنيينا” أكثر، فإنها تعلمهم الواقعية والمراحل التي يتطلبها تكسير الحلقات المفرغة للتخلف » وتؤکد في نفس الوقت أن هذا التكسير يقتضي الاصلاح الزراعي وبعض التأميمات الخ .

ويتعلق الأمر هنا بأساليب تنطلق من نفس المبدأ والجوهر في التكييف المستمر، لمنظري الصهيونية مع تصاعد حركة الرأي العام المعادية لاسرائيل. إذ أنهم يقترحون تأسیس لجان للسلام وينددون بالسياسة التوسعية لموشي ديان الخ .. وذلك للحفاظ على ما هو أساسي : وجود اسرائيل كدولة . ويتم تقديم المشكل طبعا وكأنه أزمة للشرق الأوسطه بين دول متجاورة وليس كقضية تحرير بلاد من البلدان .
ويتم تقديم التداخل بين قضية فلسطين والمقاومة الفلسطينية من جهة، وعلاقات إسرائيل بالدول المجاورة لها من جهة اخرى، كأنه حلقة مفرغة » أو دوامة مثلما يتم تقديم الترابط بين الزراعة والتعليم وميزان الاداءات لبلاد « متخلفة، وكأنه “حلقة مفرغة” أو دوامة.

فانقسام العرب وخطابييهم يمثلان بالنسبة القضية الفلسطينية ما تمثله « الديموغرافية الراكضة، أو المتصاعدة بالنسبة للتخلف، اي المبرر والجواب المستخدم في كل أن وحين. فالمبدأ یبقی هو هو : فلا نلومن سوی انفسنا وعلينا أولا أن نصفي مشاكلنا نحن.

فهذه الطريقة في التفكير تتطابق بالضبط مع عملية التقني » الذي يبحث بعنق عن التقنم، فكيف يمكن أن نشك في حسن نية من يقترح تأميم القطاعات الحيوية للاقتصاد والاصلاح الزراعي.
اذا لم تطرح الأسئلة حول الدور الحقيقي لتلك القطاعات وإذا لم نطرح بصفة شمولية مشكل استغلال البلاد !؟ فلا يمكن أن تدرك أن تأميم السكك الحديدية يخدم مصالح الرأسمال الاستعماري، لانه يستمر في جرف المواد الأولية وإدخال المنتوجات المصنعة للبلاد. في حين أن الضحايا انفسهم هم الذين يسددون العجز المالي اي جزءا من النفقات المخصصة لاستغلال البلاد .
كما أننا لا ندرك أن الإصلاح الزراعي أي توزيع أراضي المعمرين لا يضايق في شيء الرأسمال الاستعماري، لان هذا الأخير يستمر في الحصول على المنتوجات بأسعار جد منخفضة، ويضمن في نفس الوقت الحفاظ على هذا الوضع على المدى الطويل . وتنطبق نفس الحالة على كل الاصلاحات والحلول التي تتمظهر بالوطنية والتنمية، لأن المشكل الأساسي لا يتم طرحه وهو مشکل لطبيعة الكولونيالية للنظام الاقتصادي والاجتماعي المعروف ب «التخلف »، وكل الجهود التي يبدلها منظرو الاستعمار الجديد ترمي الى قلب وعكس المشكل بإقناع ضحايا الاستغلال الامبريالي بحجج “تقنية”، وبعض الأرقام المختارة، أن المسؤولية تقع على عاتقهم هم أنفسهم.

وهكذا فإن شعارات الواقعية والموضوعية المزعوم أنها علمية، والعقلانية التي تقوم عليها كل هذه الأدبيات، تصبح بالنسبة لاطرنا المعروفين ب “التقنيين”، مقاييس للتحليل والحكم والاستنتاج. وقد رأينا مثقفا عراقيا يكتب دراسة مرقمة تدعي أن على العرب قبل محاربتهم أو قضائهم على إسرائيل، أن يحلوا مشكل “التخلف” (دراسة منشورة في مكان بارز طبعا على صفحات جريدة لوموند ).

ووجهة نظر كهذه بعيدة من أن تكون معزولة، لأن وضع المشكل بصفة “تقنية”، وبالأرقام مع الأخذ بعين الاعتبار للدعم اللامشررط الذي تقدمه الإمبريالية الأمريكية الاسرائيل وكذا لقرة الشبكات الصهيونية عبر العالم طريقة « واقعية » لطرح المشكل، طريقة الانهزامية التي تمتاز بميزة المنطق . ولكنها الطريقة الواقعية في التحليل التي يستعملها من يعتبر أن الكفاح ضد الإمبريالية غير مطروح، رمن سی کتلميذ مجتهد اللايديولوجية البرجوازية الوصفية ، أن إسرائيل كمان يحاربة العرب بصفة معزولة وليس كقاعدة من القواعد الامبريالية.
إن الحضور الثقافي الأيديولوجي للاستعمار الجديد والصهيونية ببلداننا حضور واحد، ويؤثر مباشرة في فكر مثقفينا، فموقف أولئك المثقفين تجاه القضية الفلسطينية لا يمكن فصله عن موقفهم من القضايا الداخلية للتحرر الأقتصادي والاجتماعي والكفاح ضد الامبريالية وعملائها. ويجب القول ان ذلك التأثير كان أكثر فعالية لانه مورس في ميدان ساهمت ظروفه التاريخية والجغرافية وأصداء الأحداث الخاصة بالشرق الأوسط في تغذية الخلط والالتماس واللامبالاة .

الهوامش :

(1) الفيلسوف والكاتب الفرنسي الوجودي المشهور والمعروف بميولاته اليسارية وبعدائه الفعال للاستعمار والامبريالية، في نفس الوقت “تعاطفه” مع الكيان الصهيوني الذي تأكد بعد نكسة 1967 وخاصة من خلال عدد خاص لمجلة « الأزمنة الحديثة التابعة لتيار جان بول سارتر والتي كان يشرف عليها عدد من الصهاينة وعلى رأسهم کلود لازمان.
(2) وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق الذي قاد حملات الغزو في الأرض العربية سواء في 1956 أو 1967، ساهم فعلا في العدوان على الشعب الفيتنامي على رأس فريق من الطيارين والجنود الصهاينة .
(3) الضابط الفرنسي ذو الأصل اليهودي الذي اتهم بالخيانة لأسباب عنصرية في النصف الثاني من القرن الماضي . فانقسم الرأي العام الفرنسي حول هذه القضية ؛ قسم يدافع عن دریفوس وعلى رأسه الكاتب الروائي الشهير إميل زولا ، والقسم الثاني يطالب بإدانته.
(4) ماکسیم رودنسون : المستشرق الفرنسي من أصل يهودي معروف بتعاطفه مع العرب والفلسطينيين، وفي نفس الوقت بتعاطفه مع “الشعب اليهودي” في إسرائيل، ومن دعاة حلول الاخاء والوئام
بين اليهود والمسلمين والمسيحيين في اطار دولة اسرائيل.
(5) أول رئيس جمهورية للجزائر المستقلة أطيح به في انقلاب 19 يونير 1965 بقيادة الرئيس الراحل هواري بومدين. ومن الطريف التذكير بان صيحة بن ہلا كانت باللغة الفرنسية للتعبير عن تشبث الشعب الجزائري بهويته العربية الإسلامية التي حاول الاستعمار الفرنسي محوها طيلة 130 سنة.
(6) حرب الأيام الستة التي اندلعت يوم 5 برنیر 1967 انهزمت فيها الجيوش العربية المصرية والسورية والأردنية أمام القوات الصهيونية، مما أدى الى احتلال سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان من طرف إسرائيل.
(7) اتفاق عمان لفبراير 1985 لم يكن الوحيد من نوعه فقد سبقته عدة مشاريع «سلام » وعلى رأسها مشروع روجرز الذي تلى نكسة 1967 بالاضافة الى القرارات الأممية 242 و 338 وما شاكلها .
(8) نفس الشخص هو الذي عقد عدة اجتماعات فيما بعد مع القادة الفلسطينيين دون أن يكون لتلك اللقاءات أي تأثير على الموقف الاسرائيلي، بل بالعكس مواقف العرب إزاء العدو الصهيرني هي التي تغيرت . مما يجعل ملاحظة الشهيد عمر بنجلون في محلها حول افنيري وأمثاله، والأحداث بعد 16 سنة أكتت صحة تحليله.
(9) المهاجرين اليهود الى فلسطين
(10) أحمد الشقيري : أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية صرح لاجهزة الاعلام الغربية 1967، أن العرب سيلقون باليهود المتواجدين بفلسطين المحتلة في البحر . وكان معروفا رحمه الله بمزايداته الكلامية وغالبا ما يسقط في فخ الاعلام الذي كانت الصهيونية تسيطر عليه سيطرة شبه مطلقة وتستغل هذا النوع من التصريحات لفائدة اسرائيل.
(11) من المستعمرات البرتغالية آنذاك والتي حصلت على استقلالها أربع سنوات بعد كتابة هذا المقال .
(12) نالت استقلالها ايضأ سنة 1975 على إثر ثورة القرنفل بالبرتغال.
(13) سبق للشهيد عمر بنجلون أن حرر وثيقة حزبية وألقى عدة عروض حول مشاكل “التخلف” والهيمنة الامبريالية وسبل التحرر منها. وفي هذا السياق جاء مفهوم الحلقات المفرغة » ( Cercles vicieux ) أو دوامة التخلف والتصوير الذي صور به الشهيد العلاقة بين بلاد المركز وبلاد الهامش علاقة البناية التي تزداد علوا كلما ازدادت المحجرة، ( منجم استخراج حجر البناء) حفرا.

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات