محمد خير الدين
زهرة المزكلدي
ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
تحتفي هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية بفواصل ومحطات رئيسة في سيرة ومنجز الشاعر والروائي المغربي الراحل ذي التعبير الفرنسي محمد خير الدين 1941-1995. سعت الكاتبة والأكاديمية المغربية زهرة المزكلدي التي سيبق لها أن كتبت أطروحة جامعية متميزة في جامعة ليون الفرنسية عام 2001 عن الشفهية واستراتيجيات الكتابة في أعمال محمد خير الدين إلى القبض على جماع السمات المميزة لاشتغال الكتابة عند هذا الكاتب الاستثنائي الذي قدم من بلدته الأمازيغية تافراوت في جنوب المغرب واستقر ردحا من الزمن في فرنسا وارتبط بصداقات وعلاقات قوية بكبار الكتاب والمثقفين من عيار إيمي سيزير وليبولد سيدار سنغور وأندري مالرو وجان بول سارتر وسيلين وجان كوكتو. وحقيق بالتنويه في هذا المعرض أن نشير إلى التقدير الكبير الذي حظيت به نصوص الرجل الذي تشبع بأفكار حركة 1968 وساهم في تأسيس “أنفاس” في الأوساط الثقافية الفرنسية وهو ما تمثل في ترحيب الفيلسوف جان بول سارتر بنصوصه في مجلته الشهيرة “الأزمنة الحديثة”. اتسمت سيرة خيرالدين بالصخب والتشرد والقلق والسعي الدائم إلى ارتياد آفاق مغايرة لما هو مألوف. وقد خلف عددا وفيرا من الكتب توزعت بين الشعر والرواية والمسرح. رحل الشاعر والروائي الذي استطاع أن يؤثر بعمق على الاشتغال العضوي للغة الفرنسية في 18 نونبر عام 1995 بعد معاناة مع داء السرطان في العاصمة المغربية الرباط.
النص:
يبرز داخل المشهد الأدبي المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية صوت أشد صلابة وحدة من تلكم “الأمكنة التي تمتزج فيها الجيولوجيا والميتافيزيقا في شكل صور متعددة، وحيث تشكل رجع صدى بطريقة ترشح بالعدوانية والسخاء والقلق والإنسانية. وهذا الصوت ليس سوى صوت محمد خير الدين. يتعلق الأمر بكلام متوحش يدرج الفوضى في الأدب المغاربي ويدمر في آن واحد كل الثوابت الأدبية والقيم المتشنجة. الطفل المرعب للأدب المغاربي وهو يحتل في سياقه مكانة متميزة ولافتة ويساهم في حيويته وإعادة تجديده. جاء مبكرا إلى الأدب، وأطلق صحبة آخرين هذه الحركة الأدبية الكبيرة التي أعادت تحفيز إنتاجية الأدب المغاربي، وهي حركة أنفاس” في عام 1966. وقد تمكن بمعية هؤلاء الكتاب من ضخ دماء جديدة في هذا الأدب الذي كان إلى حدود تلك اللحظة شديد الارتباط ببعض القواعد والقيم الجمالية والثقافية.
تحدد مسار هذا الرجل الذي ينحدر من عائلة تجار ينتمون إلى جهة سوس في سياق الهامش والاحتجاج. رأى النور في مدينة تافراوت بجنوب المغرب عام 1941. أمضى خير الدين طفولة عادية مشتركة مع عدد من الأطفال الأمازيغ المنحدرين من الجنوب الذي شكل أرض هجرة وسط النساء والعجزة وفي غياب الأب. تزامنت مرحلة التمدرس مع الرحيل إلى مدينة الدار البيضاء وترك الأم في الجنوب. كانت هذه المرحلة أيضا بداية اكتشاف الأدب ، وقد أجاب محمد خير الدين حين سئل عن هذه المرحلة من حياته وقدومه إلى الكتابة:
“لنقل إنني شرعت في الكتابة وأنا في الصف الخامس من التعليم الثانوي، وكنت أنشر في لا فيجي المغربية. كان ثمة بعض الأساتذة الذين عمدوا إلى تشجيعي، لكن عائلتي كانت تعارض هذا التوجه. كنت متفوقا بالأحرى في العلوم واللغة الفرنسية ورديئا في اللغة العربية باستثناء الشعر. لقد وصل بي الأمر حد كتابة مسرحيات تراجيدية عمد أبي إلى بيعها إلى باعة الفول السوداني والفستق”
يتذكر الذين عرفوا خير الدين في تلك المرحلة ذلك الفتى الصغير الذي كان يتلو قصائد بكاملها، هذا إن لم يبدع بعضا منها. وقد عثر بدخوله إلى الأدب رغم معارضة والده على عائلة جديدة. وقد وجهت كشوفاته ولقاءاته حياته واختطت له مسارا حافلا بالكلمات المفاتيح والثيمات الكبرى من قبيل الزلزال، المنفى، العودة، التسكع المطرد. وسوف تحدد أربع مراحل مسار هذا الشاعر المتسكع، ويتعلق الأمر بطريق مرسوم بعلامات.
كانت مرحلة 1961-1965 في الحقيقة محكومة بثيمة الزلزال. تعلق الأمر أولا بذلك الزلزال الذي ضرب بتاريخ 29 فبراير عام 1960 مدينة أكادير التي استقر بها بين سمة 1961 و1963 حيث هجر الدراسة وتفرغ للكتابة. ولأنه كلف بالتحقيق في أوساط الساكنة لفائدة مؤسسة الضمان الاجتماعي التي كان يشتغل لحسابها فقد وضع لبنة كتابي “التحقيق” و “أكادير” اللذان سوف يظهران لاحقا. كان الشاعر الشاب مأخوذا بدوره ب”الزلزال” الذي جعل منه من خلال أعماله الرمز الأكبر لكل أشكال وصيغ المساءلة أو الخلخلة الفردية والجماعية. وقد حدس بمعية جماعة من الأصدقاء بهذه الثورة في مجال الشعر والتي أطلق عليها وسم “حرب العصابات اللغوية” في بيان بعنوان “الشعر كاملا”. وقد أعقب ذلك صدور مجلة” مياه حية” لفترة وجيزة وخاطفة، لكنها شكلت منطلق مشروع شعري ثم روائي تموقع من ثم في سياق الحركة الأدبية والثقافية الكبرى التي وجدت تمثيلها في ميلاد “أنفاس” عام 1966. أبدع خير الدين غب استقراره بالدار البيضاء بكثافة، وسوف يصدر “الدفن” وهي قصة قصيرة نشرت في مجلة بروف في يونيو من عام 1966 و “غثيان أسود” – قرون بأياد، لندن عام 1964-. ارتبط خير الدين بصداقة مع أولائك الذين أسسوا حركة “أنفاس” وتحديدا ب, جاكوبياك وعبد اللطيف اللعبي، وكانا رفيقي الشعر والنضال. وقد أسفرت هذه المرحلة في مسار الكاتب شأنه في ذلك شأن عدد آخر من الكتاب عن الرحيل إلى فرنسا عام 1965 بحثا في خضم “المسافة” عن الرابط الوحيد الممكن بالعائلة والأرض. عليك أن تهرب من كليهما.
سوف تبدأ، إذن، مرحلة طويلة من المنفى الإرادي توزعت بين 1965 و1980 خبر خلالها خير الدين ما دعاه بعيش التيوس، وتمثل ذلك في العمل كمنجمي وعامل بين 1965 و 1966. وقد عبرت عن ذلك مراسلاته مع عبد اللطيف اللعبي: ” أتوفر على عمل رديء، ولا أملك سكنا، وأكتب في خضم معاناة مريرة داخل المقاهي، وهناك أتعرض لإرهاب ذاتي. نشر خير الدين “برية مخربة” في مجلة أونكر فيف عام 1966، وقد توج العمل بجائزة “حبر حريف”. وقد ساهم في مجلات متنوعة من قبيل “ليتر نوفيل” و “ديالوج” و “بريسونس أفريكان” واضطلع صحبة آخرين في باريس في تأسيس “أنفاس” عام 1966. وفي عام 1967، اكتشفت قصائده في مجلة لي تون موديرن “الأزمنة الحديثة” و “جريدة الشعراء”. صدرت رواية “أكادير” عن دار النشر سوي وحازت على جائزة “لي أونفون تيريبل “الأطفال المرعبون” التي أسسها جان كوكتو. حصلت قصة “الدفن” على جائزة القصة المغاربية. كان الأمر متعلقا بمرحلة خصبة؛ إذ شهدت صدور “الجسد السلبي” ثم قصة الرب الطيب 1968 والشمس 1969 التي كوفئت بجائزة الصداقة الفرنسية العربية. سوف تمثل أعمال “أنا المر” عام 1970 و “نباش القبور 1973، المغرب 1975، رائحة السمن 1976، حياة وحلم وشعب في حالة تشرد 1978 عن هذه الخصوبة التي أسفرت عن عمل أدبي منحاز رغم المنفى إلى الأرض المغربية والجنوب بشكل خاص.
كان خير الدين ينشط بتزامن مع هذه الإبداعية برامج إذاعية ليلية لفائدة فرانس كولتور – فرنسا الثقافي-، ويحيا في غمرة أفكار حركة 1968 ويواظب في الآن نفسه على نسج لقاءات هامة بالنسبة إليه مع أندري مالرو وجان بول سارتر وصمؤيل بيكيت وليوبولد سيدار سنغور وإيمي سيزير وليون كومترون داماس.
تميزت حياته العاطفية التي كانت مضطربة إلى حد ما بزواجه من “أميكاطور” أو هذا الاسم الذي اختاره لها في “الشمس الفوضوية “وميلاد ابنه ألكسندر. وقد انهار هذا التوازن عندما أقدم خير الدين على مغادرة منطقة ميدي دو لافرانس التي كان قد استقر بها وانفصل عن عائلته من أجل العيش المضطرب والعاصف في باريس. وهناك، سوف يستعيد خير الدين تشرده وتسكعه وهو يعاني من وطأة “الحنين إلى الأرض والتوق إلى “الجنوب” الذي لم يغادره في الحقيقة على الإطلاق. وفي عام 1979، أفصح خير الدين عن رغبته في العودة إلى المغرب. وقد تحققت هذه العودة التي تمت إثر نوبة عناد والتي قام بتسهيلها صديقه الشاعر السنغالي سنغور عام 1980 وأسفرت عن كتابة ديوان” انبعاث الورود المتوحشة” 1981. البحث عن التزود بعد اضطرابات من كل نوع والبحث عن التوازن، هذه العودة التي يفسرها خير الدين في نص بعنوان “العودة إلى المغرب” تفتح حسب الشاعر حلقة تاريخية بصدور نص “أسطورة وحياة أغونشيش الصادر عام 1984 الذي سوف يعيد الوصل بالجنوب الذي طالما أحبه وهرب منه.
وفي الفترة بين 1980 و 1989 وباستثناء هذا العمل الكبير، لم ينتج عملا لافتا للنظر. كان خير الدين حين وصوله سعيدا ومنتشيا بإعادة الوصل بأرضه وثقافته. ومع كرور السنين، كان الشاعر يمضي من جديد حياة متحررة من أي إكراه داخل مجتمع لم يكن يجد فيه ذاته بشكل يقيني. وكان يصحب معه في غمرة ذلك إحساسه بصعوبة العيش وكونه غريبا حيث حل وارتحل ومدفوعا باطراد إلى ارتياد آفاق عصية على النوال. كان خير الدين يذرع المغرب طولا وعرضا دون أن يحقق أي فصل بين السفر الحقيقي والسفر الباطني؛ إذ كانا يشكلان بالنسبة إليه طريقتين في البحث وصيغتي تعبير عن الرغبة ذاتها. ولكي يقيم أوده، كان يكتب مقالات لعدد من الجرائد المغربية: لو ميساجي، لو ليبيرال، لوبينيون. وكان يشارك في بعض التظاهرات الثقافية ويسمح طواعية ببعض اللقاءات الإعلامية، مفسحا بذلك المجال في المقام الأخير للاحتفاء به باعتباره أحد الكتاب المغاربيين القلائل الذين يعيشون في بلدانهم. ولم يكن عند الكاتب حين اللقاء به في أحد أزقة الدار البيضاء أو الرباط أو تيزنيت إلا كلمة واحدة: الرحيل. وفي عام 1989، غادر خير الدين من جديد المغرب في اتجاه فرنسا. وسوف يعيش راهنا في باريس ويعد لعرض مسرحي موسوم لي سيربير معيدا الوصل من ثم بالمسرح الذي كان دائم الانجذاب صوبه.
وباعتباره رجلا منفيا، فقد انطلق خير الدين من جديد صوب هذا “المكان” العصي على الوصول شأنه في ذلك شأن هذا السلف المؤسس لأسطورة وحياة أغونشيش الذي وجد نفسه نهبا لهذا الولع بالمنفى والتسكع. وعليه، فإن التسكع الدائم هيمن على المسار غير المكتمل لهذا الكاتب الذي كان صورة لهذا الشاعر الغنائي المألوف في الأدب المغاربي.
ثيمات رئيسة:
يبرز العمل الأدبي لخير الدين أن ثيمات المنفى والتسكع التي هيمنت عليه لم تكن مجرد عناصر أدبية مميزة لهذا الأدب، وإنما كانت تحيل على ممارسة ثقافية مغاربية كان المنفى والتسكع فعلين مميزين للمطرود الملعون والبطل والشاعر. وبالنسبة لعدد من الشخصيات التي تجمع بين هاته الوجوه والأشكال، فإن المنفى والتسكع يشكلان مبدأ في العيش. تشكل سيرة خير الدين من هذا المنظورفي حد ذاتها شهادة دالة.
تساهم ثيمتا الإقصاء والتحري أو البحث حين تلتقيان بهاتين الثيمتين المهيمنتين أيضا في الثيماتية الرئيسة للعمل التي تتقدم باعتبارها تعبيرا عن التهميش الاجتماعي والسياسي والثقافي والهوياتي التي تولد هذا التسكع والتشرد وهذا التقصي الذي يشكل كل تحقق نصي لأثر خير الدين.. ويتمظهر الإقصاء هنا أولا وقبل كل شيء باعتباره مبادرة فردية وإقصاء ذاتيا وتمردا واطراحا واحتجاجا اجتماعيا وسياسيا ورغبة في التحرر الفردي.
تصوغ دواوين “الغثيان الأسود 1964، “”انبعاث الورود المتوحشة، 1981، ” مرورا ب “الشمس الفوضوية 1969 و “هذا المغرب، 1975 في آن هذا التمرد الفردي والاجتماعي وتلكم المطالب التي تنتمي إلى الجنس نفسه ورفع العقيرة بصعوبة الكينونة وأيضا تلك الرغبة في التغيير والبحث عن كينونة أفضل. تقدم الانتاجية الشعرية قصيدة حاقدة ومتقلبة المزاج ومتوعدة، وهي قصيدة عنيفة تنأى بعيدا في الهذيان والحلم من أجل تحصين نفسها عن الأذى والشر.. وهي تفضح من ثم ميلا مطردا نحو ما هو جماعي، والشاعر يرى إلى نفسه دائما باعتباره صوت الشعب. وشأن كل الكتاب المتأثرين بروح حركة أنفاس، فإن خير الدين لا يتمثل الأدب خارج سياق الالتزام. وهذا الانشغال بالألم الجماعي يبقى حاضرا بقوة في الإنتاج الروائي للكاتب.
يتشكل هذا المنتج الروائي حول المبدأ ذاته المتمثل في مساءلة قضية أصول جذور الهوية الأبوية والسلطة بمختلف أشكالها. تفصح رواية أكادير عام 1967 عن عمل خاضع لهيمنة أو سطوة رمزية الزلزال الذي يمس ليس فقط الفضاء وإنما أيضا الأفراد، علاوة – وهو الأهم- على أنساق الهوية الاجتماعية والسياسية.
تقترب رواية “الجسد السلبي المتبوعة بنص “قصة الرب الطيب” 1968 من هذه الثلاثية المشكلة للسلطة والتي يجمعها خير الدين بعنف في هذا الجسد السلبي: الله، الملك والأب. خلخلة السلطة والفضح السياسي يلتحمان بالثيماتية الرئيسة للعمل علاوة على الممارسة الكتابية للمؤلف. وشأن غالبية كتاب جيله، فإن خير الدين يكتب أدبا متمردا ومجذفا يسخر من المقدس والقدسي. ولا يسلم الله نفسه من هذا التدنيس الذي يفضح من خلال شخصية الفقيه ممارسة تحريفية للدين. يهاجم العمل كل عوامل أو عناصر السلطة الأبوية.
ثمة ثيمة مهيمنة على الأدب المغاربي وتتمثل في التعبير عن الصراع مع الأب الذي يتمظهر باعتباره عنصرا أساسيا في ثيمانية محمد خير الدين.وباعتباره شكلا مركزيا تتمحور حوله الاحتجاج ضد السلطة والكلام الانتهاكي، فإن الأب يضحي موضوع خطاب جارح وقاس ومدين. حيوانية متوحشة وتلهف على المال، دموي وشهواني، خائن ووغد. يتبدى الأب في نصوص خير الدين باعتباره شخصا مقرفا وكريها وتحديدا بفعل تطليقه للأم وتخليه عن الابن- ويستشرف هذا التمثيل حد الاستيهام المتحكم في العمل والمتمثل في القتل غير المتحقق للأب الذي يتجلى باعتباره شبحا مضطهدا وحيث العلاقات معه مقطوعة باطراد. تبرز هذه القطيعة مع السلالة والتي يعتبر التعبير عنها مهما في العمل المنفى وهجران الأرض والمجتمع ويطابق رفض ضمان استمرارية السلطة الأبوية المتمثل في التجارة والمال وهو الميراث الأبوي والأمازيغي الذي تعارضه الكتابة المنظور إليها باعتبارها فضاء وسلاحا لمساءلة السلطة. يكشف العمل عن علاقة إشكالية بالأب والأسلاف لأنهما ينتميان إلى نظام هوياتي وثقافي مطروح ومدان باعتباره حبلا سريا يصل بالأمازيغ.
سؤال الهوية الحاضر بقوة في كل الأدب المغاربي ويتجلى بحدة في أعمال محمد خير الدين وبمستوى مضاعف فردي وجماعي. تتموقع الهوية في سياق العلاقة بفضاء يدعى “الجنوب” الذي يحتل مكانة رئيسة في العمل؛ وهو الفضاء الجغرافي المغربي للشلوح، ولكنه أيضا دائرة اجتماعية وثقافية.. يبدو دالا في هذا السياق أن عمل خير الدين المتشكل داخل المنفى بالأساس يبقى مغمورا بهذا الفضاء الجنوبي الذي تقيم معه الكتابة علاقات تراوح بين الرفض والمطالبة. يحتفي الكتاب ال|أحير لخير الدين “أسطورة وحياة أغونشيش، 1984 بهذا البعد المجيد والماضي للتاريخ والثقافة الأمازيغيتين، ويفضح عن القلق حيال انهيارهما الراهن.لا ومن هذا المنظور،ي بقى العمل محكوما بثيمة المكان العصي على النوال، وهو الجنوب الأسطوري، أي جنوب الأم والطفولة. “الجنوب”، “الجنوب” امي الحقيقية..الجنوب الخيالي والمطالب به عبر وسيط الكتابة التي تتيح لوحدها العودة إلى هذا الفضاء والتوحد به…
يبقى العمل أساسا مكانا للحديث عن الذات، وهو يفصح بهذا الصنيع عن مظهر آخر لإشكالية الهوية عن محمد خير الدين. حاضر بشكل لصيق. الأنا فرد ومتعدد في حالة انسلاخ عن الذات في رواية “أنا المر” 1970، نباش القبور، 1973، ورائحة السمن 1976 تستشرف بدورها عبر وسيط التفجير المبدأ الرئيس عند خير الدين. التحول والتضاعف والتوالد لل “أنا” والتعبير المفرط عن الجنس وإسباغ المظهر الحيواني من خلال استدعاء وتوظيف وفرة من الحيوانات ، أي التجسد الحسي ثم الموت طواعية في سياق من العفونة والتحول إلى جثة تشكل تجليات لما يبدو هنا نزوعا نحو الرفض وإسباغا للقيمة على الذات وترسم في كل الأحوال الفضاء الكتابي في شكل فضاء للتساؤل عن الذات والجذور…
تصورات أدبية
يمارس محمد خير الدين الذي اعتبر دائما كاتبا صعبا ومعقدا وهرمسيا وغير متجانس أيضا وهذا صحيح كتابة تسعى في البداية إلى التضليل من خلال مبدأ “حرب العصابات اللغوية” الذي أعلن عنه الكاتب منذ قدومه الأولي إلى الكتابة.. وينطبق هذا المبدأ على الأشكال والأجناس الأدبية التقليدية. ولأنها تتأطر في سياق حركة أنفاس، فإن هذه الكتابة تلغي الفروق الكلاسيكية بين الشعري والسردي والخطابي وتنزع نحو البحث عن وحدة اللغة.
سوف يتم تخصيب اللغة بسلطة متعددة وخاضعة لاشتغال مكثف ومنتقى. الكتابة “الإرهابية” تفجر وتخلخل مفهوم صناعة الحبكة نفسه الذي يتم اختزاله إلى نتف ومقتطعات من المحكي. ووحده الكلام يهيمن بشكل مسبق في هاته النصوص حيث تغيب وتتوارى الشخصيات ويستعاض عنها بأسماء شخصية تخوض صراعا رهيبا من أجل الكلام. وتتميز أغلب نصوص خير الدين في هذا الصدد بتعددها وتنوع أصواتها وبخطابات ومحكيات علاوة على إيلاء الأهمية لكلام متعدد.
ومن هذا المنطلق، فإن الركون إلى الممارسة المسرحية- نصوص مسرحية قصيرة- تعتبر فعلا مألوفا في كل نصوصه- تجلي جيدا هذا البحث الأساس عن الصوت في كتابة محمد خير الدين. ويسعى هذا الصوت إلى الإفصاح عن حضوره بقوة وعنف يصل حد صرخة التمرد التي تدمر العبارة والتي تتسم أيضا بكونها ممزقة وتستشرف حد التنافر.
يؤسس الوصف والفصل واللازمني والتنافر هذه الكتابة الشاذة عن المألوف التي تحتفي بالعجيب والغريب فهي تارة ساخرة وتارة أخرى هجائية. واللغة عند خير الدين تتقدم باعتبارها لاسعة وحارقة بمعنى أنها سكاتولوجية. ذلك لأنها ترغب في أن تكون بالأساس مستفزة وغامضة.وبهذا الصنيع، نكون في حضرة كتابة تتسم بالمفارقة والتناقض وتفصح عن حضورها بما هي لا كتابة منتظمة حول جدلية البناء والتفكيك الذاتيين..
تقطع وتمزق الحكي الذي يتاخم الواقعي والتخييلي. كتابة الهذيان والاستيهام وتفجير وخلخلة أي منطق والحبكة. إسباغ الأسماء الشخصية على الشخوص والذي يؤدي إلى محوها ونفي الزمن والفضاء وتناقض الخطابات بواسطة تصور التأكيد والنفي تميز هاته الأشكال الجديدة من السرد التي تستلهم جويس وفولكنير وبيكيت وسيلين وكافكا وموجة الروائيين الجدد. تموقع هاته السمات إذن كتابة خير الدين في إطار حداثة كتابية تركز وتشدد على التحقق الصعب للحكي والتفكير الذي تمارسه أو تنجزه الكتابة على ذاتها.
يتوجه هدا التساؤل على الرغم من ذلك إلى القدرة على التسمية التي تتيحها الكتابة. ويمكننا بهذا الصنيع، أن نقول إن اللغة عند خير الدين التي يوضع اشتغالها الأحادي والمنمط باستمرار موضع مساءلة لا يتم إدراكها إلا في سياق هذه السيرورة من نزع الملكية والتي تميز حضور الجسد والهوية عند الكاتب.وتترجم الكتابة هنا وبشكل لافت للنظر بإوالياتها واشتغالها الزئبقي والمنفلت رغبة في التحرر والحرية مقارنة بالإكراهات ورفضا للطابع الإطلاقي للغة وأحادية القول وبحثا عن التعدد الدلالي والمعنى المفتوح والمتعدد.
يضحي مبدأ الكتابة المشطوبة سلفا إيجابيا ؛ لأنه يولد المحكيات شأنه في ذلك شأن الزلزال الذي يشكل مقدمة لميلاد جديد.هذه الكتابة التي تفقد نفسها باطراد وتتوخى تثوير وخلخلة ذاتها وتحديدا بواسطة إدراج تصورات ومفاهيم خاصة بتشكيل شعرية الشفهية في حقل المكتوب.ويدخل تقليد الشفهية في تنافس مع الحداثة، وتروم كل منافسة في سياق التداخل بين الشفهي والمكتوب تثوير وخلخلة كليهما.ولعل هذا ما في وسعه أن يفسر افتراض خير الدين المتمثل في اللا كتابة. وهاته الشعرية قابلة للإدراك خصوصا من خلال العلاقة اللعبية والأولية المقامة من لدن الكتابة مع اللغة المفككة والمبنية وفق المبدأ الذي مؤداه إن خاصية الكلام المقول تتمثل في أن تذوب في إطار الفعل الذي ينتجها.
أن تقول وأن لا تقول وأن تفكك يظلان ممارسة مألوفة في الشفهية. وكما تقول الحكاية التقليدية: كان ولم يكن.، وهذه الممارسة الخاصة بالشهية حاضرة أيضا في سياق اشتغال السرد بحكم إيثارها لغة للجسد وكتابة عضوية متمركزة حول الجسد والخطاب الجنسي والتحول والقناع، وحيث يهيمن الصوت المنشغل بفعل التلفظ الذي بحظى بالأولوية لأنه يؤسس للأنا.
يترجم التشذر النصي الأثير عند محمد خير الدين تفجر الأنا التي تبرز من جديد في السرد الخاضع لهيمنة الحمى ذاتها والذي يبقى أسير الرغبة ذاتها في التسكع والتشرد..تتجسد الأنا في سياق من التوحد بالنص وتتجلى في كلام يحيل باطراد عليها.