الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

أوراسيا: حدود واستراتيجيات قوة

بقلم غريب محمد

 

كانت أول فكرة تخطر على بالي وأنا أفكر في الكتابة عن موضوع الحرب في أوكرانيا هي ما اعتبره الصحفي المصري محمد حسنين هيكل درسا قيما تلقاه من الرئيس الفرنسي الأسبق “شارل ديغول” في لقاء جمع بينهما يعود إلى سنة 1967 عندما دار الحديث بينهما عن أزمة الشرق الأوسط التي دهمت المنطقة في يونيو من نفس العام.

 

كانت النصيحة تتعلق بضرورة النظر إلى الخرائط قبل إبداء الرأي في أي قضية سياسية. هذه الفكرة كنت قد اطلعت عليها في كتاب جمع فيه محمد حسنين هيكل عدد من المقالات تحت عنوان “المقالات اليابانية” كان قد كتبها تلبية لعرض تلقاه من جريدة “يوميوري شيمبون” اليابانية ثم عاد وترجمها إلى العربية من أجل القارئ العربي.

 

قررت إذن العودة إلى الكتاب وبالضبط إلى مقال كتب سنة 1992 تحت عنوان ” الجنرال ديغول : لا سياسة بلا خريطة” حيث كتب الصحفي الكبير أن الجنرال ديغول وعلى غير عادته  قرر أن يناقشه في ما عرضه عليه من أفكار، لكنه قبل ذلك طلب من أحد مساعديه أن يمده بخريطة للشرق الأوسط  وأكد “أنه دائما يحرص على أن ينظر إلى الخريطة قبل أن يبدي رأيا في أي قضية سياسية ، وحتى إذا كان يعرف خطوط المنطقة التي تهمه في لحظة بعينها ، فإنه يريد أن يعيد تذكير نفسه بها ، ثم إن كل نظرة على الخريطة و تأمل لها كفيلان أن يولدا عوامل واحتمالات لا بد من إدخالها في أي حساب للحوادث والتطورات”[1] ثم استطرد قائلا أنه “دائما ينصح رفاقه ووزراءه ومساعديه بأن يستشيروا الخريطة  أولا لأنها سوف تضيف إليهم دائما شيئا جديدا  وسوف تعيد تذكيرهم بحقائق تبدو بديهية لكنها في بعض اللحظات قد تغيب عن الذاكرة عندما تجرى الحسابات في زحام الحوادث”[2].

 

إن العمل بنصيحة رجل دولة كبير مثل ديغول والنظر إلى خريطة أوروبا وبالضبط إلى المنطقة التي اندلعت فيها الحرب بين روسيا و أوكرانيا تجعلنا منذ البداية نستنتج أن هذه الأخيرة هي ضحية لإستراتيجية الحلف الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والهادفة إلى قضم الأراضي التي تدخل ضمن المجال الأمني لروسيا وذلك بعد أن وسعت أكثر من مرة الحلف الأطلسي بضم عدد من دول أوروبا الشرقية وأقامت عددا من القواعد العسكرية في مختلف المناطق المحيطة بروسيا من عدة جهات. هذه الاستراتيجية اعتبرتها روسيا تهديدا لأمنها القومي وكان رد فعلها متوقعا وبديهيا ومؤشراته بدأت بضم شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية لأنها تدرك أن انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي يعني شلل الأسطول الروسي في مياه البحر الأسود وحرمانه من منفذ الى البحر الأبيض المتوسط. وبالعودة إلى موضوع الخرائط يمكن القول أن الدول غالبا ما تكون محكومة بالعوامل الجغرافية ..وقد سبق لنابوليون بونابارت أن أكد أنه ” عندما نعرف جغرافية دولة ،فإننا نعرف كل شيء عن سياستها الخارجية” .

 

هذا التحليل يبقى بصفة عامة صحيحا على الرغم من تأثير العوامل التاريخية والثقافية والسياسية في العلاقات الدولية. فبالنسبة لروسيا فالجيوستراتيجية المعتمدة تقوم على مواجهة كل محاولات التطويق لأنها كقوة قارية تتوفر على حدود برية طويلة مع جيرانها تنظر إليهم دائما كتهديد لأمنها القومي، وتسعى اعتمادا على تاريخها وعلى موقعها الجغرافي في قلب أوراسيا إلى أن تلعب دورها في التأثير على مجريات الأحداث العالمية. ولسوء حظ أوكرانيا التي لم يستوعب نظامها السياسي الأهمية الاستراتيجية للعوامل الجغرافية، فقد اختارت الانحياز إلى المعسكر الغربي الذي اقتطع على مراحل المجال الذي كانت روسيا في المرحلة السوفييتية تمارس فيه هيمنتها بشكل مطلق.

 

 

لكن كل هذه المعطيات لا تعني أن سياسة الدول محكومة بشكل حتمي بالعوامل الجغرافية، أو أن معطيات الخرائط تحدد منذ البداية مصير الدول والشعوب، لأن القادة الحقيقيين وكبار الاستراتيجيين غالبا ما يعملون على إيجاد البدائل التي تجنبهم الخضوع لمعطيات الواقع الجغرافي. إذن وبهذا المنطق فإن قراءة الخرائط وحدها لا تكفي لمعرفة السياسة الخارجية لدولة معينة. وبالنسبة لأوكرانيا كانت لديها بدائل سياسية أخرى تجنبها الوقوع ضحية لجغرافيتها ولإستراتيجيات خارجية معادية لأمنها ولأمن جيرانها. إن الحرب التي تدور رحاها اليوم على الأراضي الأوكرانية يمكن أن تفتح العيون على مثل هذه البدائل أو تأتي بقيادة جديدة تدرك أن السيادة الاستراتيجية تقتضي استغلال الموقع الاستراتيجي لأوكرانيا باعتماد سياسة محايدة اتجاه الصراع الدائر حاليا بين القوى الكبرى على مناطق النفود.

 

إن الصراع في جوهره هو بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية التي تتحكم في الحلف الأطلسي وتفرض قراراتها  السياسية على الدول الأوربية التي تعيش في الواقع تحت وصايتها الاستراتيجية . وبالعودة إلى التاريخ يمكن مقارنة الجيوستراتيجية الروسية الحالية بما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية خلال أزمة كوبا سنة 1962، حيث اعتبرت نشر الصواريخ النووية السوفييتية على جزيرة كوبا القريبة جدا من حدودها بمثابة تهديد مباشر لأمنها القومي وهددت بفرض الحصار على كوبا وإشعال فتيل حرب نووية مع الاتحاد السوفياتي.

 

اليوم وعلى الرغم من التصعيد الاعلامي الموجه ضد روسيا فإن الطرف المعتدي هو الحلف الأطلسي الذي استعمل أوكرانيا كوسيلة وآداة لترجمة استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية على أرض الواقع. هذه الإستراتيجية تقوم على التحكم في أوروبا ومنعها من أي تقارب مع روسيا لأنها تعلم أن مثل هذا التقارب سينقل العالم إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

 

إن روسيا تنتمي بحكم الجغرافيا والتاريخ والثقافة إلى المجال الأوروبي وجزءها الأسيوي غير مأهول بالسكان وغير مِؤهل اقتصاديا كما هو الحال في الجهة الاوروبية.. ولهذه الاعتبارات كانت في الغالب تسعى إلى التقارب مع أوربا وليس مع الصين، لكن الأوروبيون خاضعون كليا لما تمليه عليهم الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اختاروا نهج المواجهة والعقوبات الاقتصادية حتى قبل اندلاع الحرب ضاربين عرض الحائط حتى بمصالحهم الإستراتيجية.

 

إن ما يؤرق أمريكا هو وجود روسيا قوية تتكامل مع الاتحاد الأوروبي وخاصة مع ألمانيا كقوة اقتصادية كبرى. وهذا التخوف يجد أساسه في الصيغة الشهيرة لجون ماكيندير الجيوسياسي البريطاني التي تقول:” من يتحكم في قلب العالم يمكنه قيادة جزيرة العالم، ومن يتحكم في جزيرة العالم يمكنه قيادة العالم”.[3] والمقصود بقلب العالم هي روسيا أما جزيرة العالم فهي أوراسيا التي إذا تحولت إلى قوة قارية بإمكانياتها البشرية والطبيعية والاقتصادية والعسكرية الكبرى فإنها ستفتح أمام العالم إمكانية الانتقال الى نظام عالمي ثلاثي الأقطاب.

 

 

لكن ومع اندلاع الحرب يظهر أن روسيا قد فقدت الأمل في الأوروبيين، واتجهت نحو الصين. واللقاء الذي جمع الرئيسين الفرنسي والروسي حول طاولة كبيرة تفصل بينهما هي إشارة دبلوماسية تعكس من جهة التباعد بين أوروبا وأوراسيا، وتعكس من جهة أخرى قوة روسيا المتمثلة في امتداد أراضيها بين الصين وأوروبا والدور الاستراتيجي الكبير لهذا الامتداد الجغرافي الذي لازالت اوروبا غير قادرة على الانفتاح عليه بسبب تبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية.

 

اليوم وبعد أن اتخذت روسيا قرار الحرب فإن قرار الخروج من حالة الحرب إلى حالة السلم سيكون أصعب والخيارات أمام روسيا ليست سهلة، لأن التقارب مع أوروبا أصبح صعبا وحتى التقارب مع الصين هو الأخر سيكون محفوفا بالمخاطر، لأن ” القوة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والديموغرافية للصين ستخلق بحكم الواقع عدم توازن سيتزايد باستمرار بين البلدين، ويمكن أن يؤدي إلى تبعية أحد الطرفين للأخر. وبناء عليه فإن مستقبل سيبيريا الشرقية يمكن أن يصبح مصدرا لتوتر العلاقات بين البلدين. إن سيبيريا الشرقية التي تعادل مساحتها مساحة أوروبا والغنية بالبترول والغاز الطبيعي والحديد والخشب والأراضي الصالحة للزراعة ليست مأهولة سوى ب 6 ملايين من السكان الروس الذين يجدون في مواجهتهم وعلى حدود تمتد على 4300 كلم مع الصين 150 مليون صيني الذين يتم تلقينهم منذ نعومة أظافرهم أن الشرق الروسي ينتمي تاريخيا للشعب الصيني.”[4]

 

 

روسيا إذن اختارت اللجوء الى القوة العسكرية لتغيير الواقع الذي يحاول الحلف الأطلسي فرضه عليها، ولتحقيق أهداف سياسية.. وهذا كله يتوقف على مدى قدرة القيادة الروسية على جمع وتوظيف كل عناصر القوة التي تملكها في مواجهة خصومها. وإذا كان العسكريون يستعملون عبارة «ضباب الحرب” للاستراتيجي الكبير كلاوزفيتش وذلك للتعبير عن الغموض الذي يكتنف مسرح العمليات العسكرية، فإن العبارة يمكن أن تمتد لتشمل الغموض الذي يكتنف نتائج الحرب، لكن الأكيد وكما كان يقول كارل ماركس فإن” الحروب هي قابلة التاريخ”، لأنه زيادة على طابعها الدموي وآلام الولادة التي تصاحبها فإن أبعادها تبقى متعددة وتتجاوز المجال العسكري لتشمل السياسة والاقتصاد والثقافة ..الخ. إذن عندما يتبدد “ضباب الحرب” في أوكرانيا ربما سيكشف عن حقائق جديدة أو خرائط جديدة أو حتى عن نظام عالمي جديد.

 

 

[1]  محمد حسنين هيكل، المقالات اليابانية، دار الشروق ص 35

[2]  نفس المرجع

[3] – Pascal Boniface , la géopolitique , éditions Eyrolles, p 24

 

[4] – Alexis Bautzman, Diplomatie, Juillet – Aout 2020-

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات