الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

دراسة نقدية :  “طرقُ الفراغ” من ديوان “فلسفات على حافّة الروح” للشاعرة والمترجمة اللبنانية تغريد بو مرعي

 

الباحث فادي جميل سيدو

 

كتبت الشاعرة تغريد بو مرعي :

 

هَل جلستَ يومًا مَعَ اللاشيء!

 

هَكَذَا وجهًا لِوَجْهٍ،أصابعكَ تَنْقُرُ عَلَى حافّةِ مَلاَمِحِهِ،وَهُوَ فِي غفلةٍ عمّا تَفْعَل؟

 

هَل نظرتَ يومًا إلَى فَمِهِ الْفَارِغِ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ بِدُونِ صَوْتٍ،وأنتَ كالأبلهَ تَسْتَمِع وتَستمِع دُونَ أَنْ تَفْقَهَ ما يقول؟

 

لِنفترِضْ أنَّكُمَا جَلستُما فِي وَقْتٍِ مَا،فِي مَكَانٍ مَا،لِنفتَرِضْ أنَّكُمَا فِي لَوْحَةٍ لِبِيكاسُو،هُوَ عَلَى يَمِينِ اللَّوْحَةِ وَأَنْتَ عَلَى يَسَارِهَا،هُوَ مِنْ مَكَانِهِ يَدْعُو مِنْ دُونِكَ،وَأَنْتَ تَنْظُرُ مُسَخَّرًا فِي جَوِّ السَّمَاءِ.

 

وَفِيمَا أَنْتُمَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ،تَتَوَقَّف عَقَارِبُ السَّاعَةِ،فيختفي الْوَقْت ويختفي الْمَكَان!

 

كأنَّكُما فِي عُهْدَةِ السَّرَابِ،و يْكَاَنَّهُ أُوحِيَ إلَى الْغَيْبِ أَنْ اتَّخِذْ مِنْ الْمَكَانِ آيَةُ لَيْلٍ.

 

لَا أَلُومُكَ،رُبَّمَا أخذكَ فِي دَوَرَانِهِ الإِهْليجِيِّ،كَذَلِكَ لَا أَلُومهُ،هُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ دائمًا،دُونَ قَصْدٍ وَدُونَ سابِقِ إِنْذارٍ!

لَو تحدثُ مُعْجِزَةً مَا،

 

بعيدًا عَن الخُرَافَةِ وأساطِيرِ الْأَوَّلَيْنَ،

 

لَو يَتَوَقَّفُ الْوَقْتُ قَبْلَ توقُعاتِ المُنَجِّمِينَ،

 

لَو تتصادمُ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ خارجًا عَن مقياسِ رِيخْتِر!

 

لَو أُغْمِضُ عَيْنايَ فَقَطٔ،وَلَا أَرَى اللاشيءَ فِي اللاشيءِ!

 

لَرُبَّمَا يُنجِبُني الزَّمَكان مَرَّةً أُخْرَى،فَأَكُونُ آيَةَ النَّجَاةِ وَالْخَلَاصِ!

 

لَرُبَّمَا نُعِيدُ تَشْكِيلَ السَّمَاءِ بِنُطْفَةٍ مِن أَمْشَاجْ،وَنَتَمَسَّكُ بِحَبْلٍ سِرِّيٍ يُوصِلُنا إلَى السّديمِ!

 

لَوْ قَدّرَ وَنَامَ جَوْفُ اللاشيء،وَلَمْ يَصْحُ كَمَا أَهْلُ الْكَهْفِ،لَو يَغْرَق كَمَا غَرَقَ قَوْم نُوحٍ فِي الطُّوفَانِ!

 

لَو يَحدثُ حُزْنٌ مَا،وَيُنقِذُ تربتي مِنْ الْخَوْفِ وَالْقَلَقِ!

 

ثمَّ بذريعةِ الْمَوْتِ،ينهالُ الشَّيْء عَلَى اللاشيء،وَيَمْلَأ ثُقُوبَ الْفَرَاغَاتِ،ويموتانِ مَعًا فِي رقصةٍ جنائِزِيَّةٍ.

 

وَكَيْ تَطْمُرَ هوّةَ الْمَوْتِ، تَخْلَع لِبَاسَ اللاشيءِ وتمزّقَ رِدَاءَه، وَتَهِيم فِي حَنْجَرَةِ الصَّمْتِ، فتتمزّقُ ألْسِنَةُ الشَّرَايِينِ وتترنّح الْمَسَافَاتُ بَيْنَكُمَا!

 

في لَحْظَةِ سَرَابٍ، قَد تختلي بِهُجْرانِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، قد تَمُوت سِتُونَ قبرًا وَتَتَسَاقَط فِي صَحْرَاءٍ جدبٍ!

 

تُحاوِلانِ التَّمَسُّكِ بشعرةٍ مِنْ حَدِيثٍ مُبْهَمٍ، أَو بِجَديلَةٍ مَنْ صَمَتٍ هَارِبٍ، أَوْ بِطَيْفٍ مِن أَطْيافِ الظِّلّ!

 

تَسْقُطَانِ معًا، تَتَساقَطانِ معًا، يُلاحِقُكَ وَتُلاحِقُهُ، كَأَنَّهُ مَفْتُونٌ بِكَ وأنّكَ مفتوقٌ مِنْ فِتْنَتِهِ!

 

تَتَجادَلانِ معًا، تَطْرُقانِ السَّمْعَ لِهَفْوَةٍ نَزِقَةٍ، يُجِيدُ الطَّرْقَ عَلَى بَابِ نبضِكَ، وَنبضُكَ لَا يُجِيدُ غَيْرَ طَرْقِ الْفَرَاغِ!

 

 

دراسة نقدية تحليلية نص “طرقُ الفراغ” من ديوان ” فلسفات على حافّة الروح”:

 

الشاعرة والمترجمة تغريد بو مرعي تُعدّ واحدة من الأصوات الشاعریّة النابضة بالتجديد والابتكار في الأدب العربي المعاصر، حيث تميزت بأعمالها الأدبية العميقة والمُفعمة بالفلسفة والتأمل. في ديوانها “فلسفات على حافة الروح”، تُقدِّم لنا نظرة فريدة عن الذات والعالم المحيط من خلال الرؤية الفلسفية والشاعرية العميقة. النص “طرق الفراغ”، هو نموذج بارز لهذه الفلسفة الأدبية التي تتجلى في أعمالها، حيث تستكشف من خلاله مفاهيم الفراغ والزمن ضمن إطار رمزي ولغوي مُذهل.

 

 

في هذا المقال، سنتناول دراسة نقدية تحليلية لنص “طرق الفراغ”، مسلطين الضوء على الرموز الأدبية البارزة التي استعملتها الشاعرة، إلى جانب استعراض الدلالات الفلسفية لعناصر النص. كما سنقوم بتحليل الأساليب اللغوية والتركيبية المُستخدمة في ديوان “فلسفات على حافة الروح”. إن التعمق في هذه المعاني والمفاهيم يُتيح فرصة نادرة لفهم أشمل وأعمق لعالم تغريد بو مرعي الشعري والفلسفي.

 

تحليل البنية السردية للنص:

 

في تحليل البنية السردية لنص “طرق الفراغ”، نلاحظ أن النص يعتمد بشكل كبير على التدفق الداخلي للأفكار والخيالات، مما يعكس أسلوب تيار الوعي الذي يتخلله الوصف الحسي والعاطفي المتعمق. النص يبدأ بصيغة تساؤلية تتكرر عدة مرات، وهو ما ينسجم مع تقنية الاستفهامات البلاغية التي تهدف إلى إحداث التأمل والبحث الداخلي لدى القارئ.

 

الوقت والمكان في النص ليسا محددين، وهو ما يخلق طابعاً زمنياً ومكانياً مجرداً، مما يعزز الشعور بالفراغ واللاشيء الذي يتمحور حوله النص. الانتقالات الزمنية غير واضحة بين الفقرات، مما يعكس الشعور بالضياع والدوار ويعمق غموض النص، وهي تقنية سردية تعزز الجو العام للنص.

 

يظهر في النص استخدام متعدد للصور الشعرية والرموز، حيث يتم تصوير “اللاشيء” كشخص يجلس ويتفاعل مع الآخر/البطل. الحوار هنا غير متوازن وغير متكافئ، حيث يكون اللاشيء في حالة سكون سلبي وغير مدرك، في مقابل شخصية النص التي تحاول الوصول إلى فهم أو تفاعل معين، ولكنه يبقى بعيد المنال. هذا التناقض السردي يُسهم في توضيح الشعور بالعزلة والانفصال.

 

فالصور البصرية في النص تعطي طابعاً سريالياً للمشاهد المتخيلة، مثل مشهد “عقارب الساعة تتوقف”، و”اختفاء الوقت والمكان”، بحيث تتحول اللغة إلى وسيلة لإبراز عالم غير ملموس وغير حقيقي، ولكن محمّل بالمعاني الفلسفية العميقة. استخدام الكلمات مثل “السراب”، “النجاة والخلاص”، و”رقصة جنائزية” يعزز من الدرامية العالية للنص ويُدخل القارئ في حالة من الشك والتأمل في مفهوم الوجود والعدم.

 

يتخلل النص كذلك استخدام لأدوات الربط الزمنية مثل “لو” التي تلعب دوراً محورياً في إحداث التوتر والانتظار لما قد يحدث، مما يعكس قلق الشخصية المركزية. الربط بين الأحداث المختلفة بهذه الطريقة يعزز الطابع الفلسفي للنص ويضيف عمقاً لبنية السرد، مما يجعله يتجاوز السطح الظاهري للغة ليتناول مواضيع أكثر تعقيداً وعمقًا.

 

تحليل الرموز الأدبية:

 

يُبحر نص “طرقُ الفراغ” في بحر من الرموز الأدبية التي تعبر عن حالتَي الوجود والعدم، مُستثمراً طاقة اللغة الشعرية والخيالية. تبدأ الشاعرة بالنظر إلى الفكرة المركزية وهي “اللاشيء”، مستخدمةً لغة حميمة ودافئة لتجعل هذا المفهوم المجرد يبدو وكأنه شخص حقيقي تُخاطبه وتتحاور معه، كما يظهر في “هَل جلستَ يومًا مَعَ اللاشيء!”.

 

تتضمن الرمزية الأدبية في هذا النص العديد من الصور الحية والمشاهد الفنية التي تُعبّر عن مشاعر العدم والفراغ، مثل اللوحة الفنية لبابلو بيكاسو التي تستحضرها بومرعي لتصف موقفاً تجردياً تم تصويره بقوة: “لِنفتَرِضْ أنَّكُمَا فِي لَوْحَةٍ لِبِيكاسُو”. هذه اللوحات السريالية تعكس قدرة الرسم على تجميد اللحظة وتحقيق السرمدية، ما يتماشى مع شعور الفراغ والسكون الذي تتحدث عنه الشاعرة.

 

تأتي الساعات المتوقفة والزمن المنهمك كرمز آخر للفراغ. هنا، يقف الوقت والعالم في موقف ثابت، ليعكس شعور الإنسان بالعجز أمام الفراغ. تقول الشاعرة: “تَتَوَقَّف عَقَارِبُ السَّاعَةِ،فيختفي الْوَقْت ويختفي الْمَكَان!”، وهو وصف شاعري يعبر عن تجربة خارج الزمان والمكان، تجربة الذوبان في الفراغ.

 

الغرابة والدهشة تشكل جزءاً أساسياً من الرمزية المرتبطة بالحالات الاستثنائية للطبيعة والكون، كما في مشهد التصادم الكوني: “لَو تتصادمُ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ خارجًا عَن مقياسِ رِيخْتِر!”. هنا، تتجاوز الشاعرية القواعد العلمية لتدخل في نطاق الخيال الغارق في الغموض، مما يعزز تجربة الفراغ والزمن المتأرجح.

 

في الجزء النهائي من النص، تستخدم بومرعي صورة الرموز الدينية والميثولوجية لتعزيز عمق الفراغ. تستدعي قارئها للتأمل في قصص الطوفان وأهل الكهف، وما يمكن أن يحمله ذلك من رمزية للفناء والبعث، حيث تنتهي الرؤية باندماج الفراغ بالشكل: “ثمَّ بذريعةِ الْمَوْتِ،ينهالُ الشَّيْء عَلَى اللاشيء،وَيَمْلَأ ثُقُوبَ الْفَرَاغَاتِ،ويموتانِ مَعًا فِي رقصةٍ جنائِزِيَّةٍ.”

 

النص قدرة حقيقية على استخدام الرموز الأدبية لتقديم تجربة معقدة وعميقة من الفراغ والعزلة والزمان في لغة شاعرية غنية ومتوشحة بالخيال.

 

تحليل البناء اللغوي والأدبي:

 

في نص “طرقُ الفراغ” للشاعرة والمترجمة اللبنانية تغريد بو مرعي، يتجلى البناء اللغوي بصورة تتناغم فيها الصور الفنية والمعاني العميقة. النص يعتمد على تقنيات لغوية وأدبية متعددة تُساهم في بناء عالم شعري غارق في الرمزية والتجريد، حيث تُستخدم الألفاظ بدقة لخلق تأثيرات نفسية وتأملات فلسفية.

 

اللغة في النص تتميز بالبساطة الممتنعة والابتعاد عن الغموض اللفظي، مما يتيح للقارئ الدخول إلى مكنونات النص بسهولة، ولكنها في ذات الوقت تضفي عمقًا وسحرًا خاصًا من خلال التراكيب المتناغمة والجمل القصيرة الموحية. النص يتلاعب بالألفاظ والصور بمهارة ليعكس حالة فلسفية وجودية تتراوح بين الشعور بالفراغ والبحث عن المعنى.

 

الاستخدام المتكرر للأفعال في النمط الاستفهامي مثل “هَل جلستَ” و “هَل نظرتَ”، يعزز من ديناميكية النص ويستدعي تأمل القارئ وتفاعله. أيضا، الاعتماد على الاستعارات البصرية والمعنوية مثل “أصابعكَ تَنْقُرُ عَلَى حافّةِ مَلاَمِحِهِ” و”يُمْلَأ ثُقُوبَ الْفَرَاغَاتِ”، يمنح النص بُعدًا جماليًا فريدًا ويُساهم في تجسيد فكرة الفراغ وكأنه كائن محسوس.

 

الصور الفنية تمتاز بإيحاءات متعددة الطبقات، حيث تأتي اللوحة الفنية لبابلو بيكاسو كمثال على التداخل بين الفنون البصرية والأدبية. النص يستحضر عالمًا من الفلسفة والخيال يستند إلى عناصر فنّيّة، مثل البطء في الزمن والمكان الذي يختفي تدريجيًا، مما يُبدع تجربة للقارئ تجمع بين التأمل والتجريب.

 

الافتتان بالعصرية والتجريب يظهر جليًا عبر توظيف لغة مليئة بالأنساق غير المتوقعة والتداخل بين الأزمان والأماكن. تبرز الأهمية الرمزية للزمن والمكان كمواضيع مركزية تُستكشف من خلال مشاهد الشعرية الرمزية التي تتكامل مع روح النص وتُدعّم المعاني الجوهرية فيه.

 

في هذا النص، تبرز قدرة تغريد بو مرعي على موازنة العنصر الجمالي مع المضمون الفلسفي، حيث تنجح في صياغة نص شعري ينقل مشاهد وتخيلات ذات طابع وجداني عميق، مستعملة تقنيات لغوية وأدبية تُثري التجربة القرائية وتفتح آفاقًا جديدة للوعي والتأمل.

 

استكشاف الرموز والدلالات المستخدمة:

 

تستعمل الشاعرة تغريد بو مرعي في نصها “طرقُ الفراغ” الرموز والدلالات للتعبير عن مشاعر وتعقيدات داخلية عميقة. ففي بدايات النص نجد اللاشيء يتجلى ككيان ملموس تعقد معه حوارًا، يعكس هذا استخدامًا مميزًا للشاعرة لتجسيد الفراغ والعدم ككيان واقعي يمكن محاورته والوقوع تحت تأثيره. “النظر إلى فم اللاشيء” هو تعبير يحمل رمزية قوية لعدم الجدوى والاحساس بالعبث، إذ كيف يمكن النظر إلى فم فارغ؟ هذا يعكس حالة من الإنصات لما لا يمكن فهمه أو التعبير عنه.

 

البعد الزمني والمكاني في النص يتلاشى، ويتحول الحوار إلى نوع من التأمل الفلسفي في ماهية الوجود والواقع. استعمال الشاعرة لصورة “لوحة لبيكاسو” يضيف بعدًا تجريديًا، حيث بيكاسو المعروف بأسلوبه التجريدي والمُجزأ، يعكس توجه النص نحو تفكيك الواقع وإعادة تشكيل المعاني. عند ذكر “عقارب الساعة تتوقف”، نرى رمزًا لتوقف الزمن والفناء، حيث تختفي الحدود الزمانية والمكانية التقليدية، ويصبح الوجود مقيدًا بسراب داخلي لا نهاية له.

 

الدلالات الدينية والأسطورية تتجلى عند ذكر “قوم نوح” و”أهل الكهف”، مما يضيف عُمقًا للحوار بين الشاعر واللاشيء، حيث يتم استحضار أحداث قديمة تُعطي دلالة على الفناء والبعث، وتجسد حالة من البحث عن الخلاص والنهاية. وهناك أيضًا رمز “الطوفان” الذي يُشير إلى الكارثة الشاملة والتدمير الكامل، مما يعزز من فهمنا لحالة الشاعرة من القلق الوجودي.

 

في وصف الرقص الجنائزي، تعكس الشاعرة النهاية الحتمية للشيء واللاشيء، الحالة النهائية للتلاحم بين النقيضين، حيث تمتزج الحياة والموت في رقصة موحدة. صور “تمزيق رداء اللاشيء” و”ألْسِنَةُ الشَّرَايِينِ” تضيف إلى المشهد العنف والانقسام الداخلي، وهما رمزان للتشتت والانهزام الذاتي.

 

هذه الرموز والدلالات تجتمع لتشكيل نص معقد ومترابط يتيح للقارئ الغوص في أعماق المعاني الفلسفية والنفسية للشاعرة، مما يحول “طرق الفراغ” إلى رحلة فكرية وعاطفية تتسم بالغموض والتحدي.

 

الدلالات الفلسفية للفراغ والزمن في شعر تغريد بو مرعي:

 

في نص “طرقُ الفراغ”، يتجلى الفراغ والزمن كعنصرين محوريين يعكسان رؤية فلسفية عميقة تجاه الوجود والمعنى. الفراغ في هذا النص ليس مجرد عدم، بل هو كيان فاعل يتفاعل مع الإنسان في لحظات تأملية وصراعية. يُعبر الفراغ عن حالة وجودية، حيث يتم تصويره كشخصية تتحرك وتتواصل بلغة خرساء غامضة، تسمح للقارئ بفهم محدود لأحداثه.

 

وفيما يتعلق بالزمن، يتوقف الزمن في النص، مما يفتح المجال للمطلق واللانهائي، ويخلصنا من قيود التسلسل الزمنية المعتادة. هذا التوقف يعكس حالة من الديمومة الوجودية التي تتلاءم مع مفهوم الزمن في الفلسفة الشرقية، والتي ترى في اللحظة الحاضرة كل الزمن. يتجاوز النص مفهوم الزمن الخطي ليعرض الزمن ككيان متشابك مع الفراغ، حيث تُلغى الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل، مما يسمح لقوى الغيب والقدر بالتلاعب بالأحداث.

 

الفراغ، في هذا السياق، يصبح فضاءً للتأمل والدخول في عوالم الغيب. هذه الدلالات الفلسفية تشير إلى الجانب الميتافيزيقي للأشياء، وكيف يمكن للإنسان أن يجد نفسه في حوار مع فراغ وزمن يتجاوزان الفهم العادي. يسلط النص الضوء على تشابك العلاقة بين الفراغ والزمن، وكيف يمكن لهذين العنصرين التأثير في تجربة الإنسان الوجودية، ويدفع القارئ للتساؤل عن القدرة على تجاوز المادي والمحسوس نحو فهم أعمق للواقع.

 

التفاعل بين الفراغ والزمن في شعر تغريد بو مرعي يعيد تشكيل الوجود، حيث يصبح الزمن مشروطاً بالفراغ والفراغ مشروطاً بالزمن. يخلق هذا التفاعل حالة من الانسجام الفوضوي الذي يعكس الحالة الإنسانية، وجدلية البحث عن المعنى في عوالم تبدو خاوية وغير مُدركة. تجعل هذه الدلالات من نص “طرقُ الفراغ” نصّاً تأملياً ومعقداً، يحمل في طياته تساؤلات وجودية ترسخ في ذهن القارئ، وتشجعه على الغوص في رحلة بحث عن الذات والمعنى.

 

الأساليب اللغوية والتركيبية:

 

يتسم نص “طرقُ الفراغ” بأساليب لغوية وتركيبية تميزه وتجعله ينسج عالمًا شعريًا معقدًا ومثيرًا للتأمل. النمط اللغوي الذي تستخدمه بو مرعي يتسم بالغموض والإيحاء، مما يفتح أمام القارئ مساحات واسعة لتأويل النصوص واستكشاف معانيها الخفية.

 

تستخدم الشاعرة تعبيرات مجازية ملونة ومركبة، تسبر من خلالها أغوار النفس الإنسانية وتعبّر عن مشاعر معقدة وأفكار عميقة. على سبيل المثال، تصف اللقاء مع “اللاشيء” بطرق مشبعة بالصور البصرية واللمسية، مما يوفر للقارئ تجربة حسية تغوص في معاناة وسريالية الوضع البشري.

 

الأسلوب التركيبي للنصوص يميل إلى التفكيك وإعادة التركيب، مما يعزز من الشعور بالفراغ والزوال. تقف بو مرعي في سبيل تكوين جمل متراكمة مترابطة تستخدم فيها أهلية الكلمات في تشكيل تركيبات نحوية غير تقليدية، مما يمنح النص إحساسًا بالاضطراب والتوتر.

 

الاختيارات اللغوية تعزز هذا الشعور بالفصام بين الواقع والخيال؛ فالنصوص تعج بالكلمات والمفردات التي تستدعي كلاً من الزمن والمكان كتعبيرات مجازية. اللاشيء هنا ليس فقط مفهومًا مجردًا، بل يتحول إلى كينونة تتجسد أمام القارئ، مما يجعل النص مشهدًا دراميًا يمكن التفكر فيه.

 

التكرار هو إحدى الوسائل الأدبية التي تستخدمها بو مرعي بكثافة لزيادة الإلحاح والتشديد على الأفكار المركزية. يظهر ذلك في الأبيات التي تتحدث عن توقف عقارب الساعة أو اللقاء مع اللاشيء، مما يعمق من الإحساس بالضياع والبحث عن معانٍ جديدة.

 

كثافة الصور الشعرية والغنى بالرموز تجعل من النصوص في دواوين تغريد بو مرعي تجربة فنية متفردة. الأساليب اللغوية والتركيبية التي تعتمدها تتسامى بالشعر إلى مستويات جديدة من الإبداع، مما يسمح للقارئ بأن يخوض غمار رحلة فكرية وعاطفية غير تقليدية.

 

دور الفلسفة والتأمل في نص طرق الفراغ:

 

في نص “طرق الفراغ”، تلعب الفلسفة والتأمل دورًا محوريًا يمكن ملاحظته بسهولة من خلال الأسئلة الوجودية والمحاور العميقة التي تتناولها النصوص. هذا النص يسبر أغوار الفكر البشري ويحاول فهم محاولات الإنسان المستمرة للتصالح مع الوجود والعدم.

 

التأمل يظهر بشكل جليٍّ في تصوير لحظة المواجهة مع “اللاشيء”، حيث يستدعي النص القارئ للجلوس والتأمل في الفراغ بوصفه كائنًا ملموسًا. ينقل النص إحساس الارتباك والدهشة أمام هذا الكيان الفراغي، مما يعكس طبيعة التأمل العميق الذي يفتقر إلى حدود واضحة أو أجوبة قاطعة.

 

الفلسفة في النص تتجلى من خلال الأسئلة الغامضة والمفتوحة التي تطرحها الشاعرة. تساؤلات مثل “هل جلست يومًا مع اللاشيء؟” و”هل نظرت يومًا إلى فمه الفارغ وهو يتحرك بدون صوت؟” تُضيف أبعادًا فلسفية تتعلق بطبيعة الوجود والصمت والعدم. هذه الأسئلة لا تبحث عن إجابات بقدر ما تدعو القارئ للتفكير والتأمل في معانيها العميقة.

 

بالإضافة إلى ذلك، يستخدم النص رموزًا فلسفية تعكس جدلية العلاقة بين الكائنات والزمن والفراغ. تلميحات لغفلة الوقت وتلاشي المكان في لوحة بيكاسو تذكرنا بالمواضيع الفلسفية التي تتعلق بالوقت والمكان كظواهر متغيرة وغير مستقرة، مما يعيد تكوين السرد ضمن إطار تأملي يستلهم الطبيعة المؤقتة للوجود البشري.

 

تأكيدًا على فلسفة التغيير وعدم الثبات، يشير النص إلى احتمال حدوث “معجزة ما” خارج نطاق الخرافات والأساطير التقليدية، وهذا يُظهر تطلع النص إلى فهم أعمق للتجارب الإنسانية غير المألوفة والمتميزات الفلسفية لتلك اللحظات العابرة.

 

من خلال هذه الرموز والأسئلة الفلسفية، نجد أن التأمل والفلسفة يخدمان كأدوات أساسية لفهم ومعالجة الموضوعات المعقدة التي يعالجها النص، مما يجعل القارئ جزءًا نشطًا في عملية التفكير والتأمل المستمرة.

 

الأبعاد الفلسفية:

 

تأتي الأعمال الشعرية لتغريد بو مرعي محملة بأبعاد فلسفية عميقة تتناول مواضيع تتعلق بالوجود، والعزلة، والفراغ، والزمن. يتجلى في نص “طرق الفراغ” فلسفة مواجهة اللاشيء وتأملاته بعمق. يشير النص إلى الأبعاد الوجودية للفراغ وكيف يمكن أن يؤدي استكشافه إلى فهم أكبر للذات.

 

تعتمد بو مرعي في ذاتها الفلسفية على عناصر الميتافيزيقا مثل الزمكان والطبيعة اللامتناهية للوجود. تقول في النص: “لَرُبَّمَا يُنجِبُني الزَّمَكان مَرَّةً أُخْرَى،فَأَكُونُ آيَةَ النَّجَاةِ وَالْخَلَاصِ!”. بهذا الطرح، تبرز فكرة إعادة التشكيل والانبعاث، مبرزة إمكانية التحول والنهضة من الفوضى والعدم.

 

كما تطرح فكرة العدم أو اللاشيء كعنصر فاعل ومستمر في التفاعلات الوجودية، وليس مجرد نقص أو غياب. يتجلى ذلك في تصوير اللاشيء ككائن حي وفاعل يتناول الموضوعات ويتفاعل معها، كما يرد في النص: “هَل جلستَ يومًا مَعَ اللاشيء! هَكَذَا وجهًا لِوَجْهٍ، أصابعكَ تَنْقُرُ عَلَى حافّةِ مَلاَمِحِهِ، وَهُوَ فِي غفلةٍ عمّا تَفْعَل؟”.

 

الزمن يلعب أيضًا دورًا محوريًا في النص، حيث يتوقف ويمتد في لحظات معينة، مشيراً إلى استمرارية اللحظات الطارئة ونهائية اللحظات الوجودية. تعبر بو مرعي عن ذلك بقولها: “وَفِيمَا أَنْتُمَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ، تَتَوَقَّف عَقَارِبُ السَّاعَةِ، فيختفي الْوَقْت ويختفي الْمَكَان!”، مشيرة إلى تداخل الزمن والمكان والوعي الذاتي.

 

التفاعل مع اللاشيء يأخذ طابعًا مأساويًا ولكنه أيضًا متسام في آن واحد. تؤكد الشاعرة على جدلية الوجود والعدم من خلال مشهد تمزق الألسنة وترنح المسافات: “فتتمزّقُ ألْسِنَةُ الشَّرَايِينِ وتترنّح الْمَسَافَاتُ بَيْنَكُمَا!”، مما يبرز تفاعل الذات في الكون وتأرجحها بين التأكيد والتنصل من ذاتها الفانية.

 

تكشف تغريد بو مرعي كيف يمكن للفراغ أن يكون نقطة انطلاق لاستكشاف الذات والعالم من منظور فلسفي عميق، حيث تتلاقى الفلسفات الوجودية مع الشاعرية لتقدم لنا تجربة قراءة متميزة وفريدة تقودنا إلى التفكر في مفاهيم أعمق وأشمل.

 

دور اللاشيء في تشكيل الهوية الذاتية والشعرية:

 

يُعد مفهوم “اللاشيء” في النص أحد العناصر الجوهرية التي تُعزز من فهم الهوية الذاتية والشعرية. ففي نص “طرق الفراغ”، يمثل اللاشيء فضاءً مفتوحًا يمكن للشاعر أن يتفكر فيه ويتأمل ذاته، بعيدًا عن الماديات والواقع اليومي. هذا التأمل في اللاشيء يتيح للشاعر الغوص في أعماق الروح والهوية، مما يساهم في إعادة تشكيلها وتطويرها على مستويات أعمق وأكثر تعقيدًا.

 

تبدأ الشاعرة تصوير اللاشيء بخلق جسر بين القارئ وهذا الفراغ الفلسفي، متسائلةً عن اللحظات التي يجلس فيها الإنسان وجهًا لوجه مع اللاشيء، وتأمل في سماته غير المرئية. هنا تتضح الأبعاد الفلسفية للهوية الذاتية، حيث يُطرح تساؤل حول وجود الإنسان وفهمه للعدم أو اللاوجود.

 

في السياق الشعري، يقوم اللاشيء بدور المُحرك الخفي للأفكار والمشاعر، فهو ليس مجرد غياب أو فراغ، بل هو مساحة غنية بالإمكانيات والاحتمالات. يُمكن للاشيء أن يكون البذرة التي تُنبت منها قصائد جديدة وأفكار مبتكرة، حيث تتجاوز الشاعرة حدود الزمان والمكان التقليدية. تلمس الهوية الذاتية هنا جوانب جديدة من الوعي والوجود، حين تشتبك مع اللاشيء في رقصته الجنائزية التي تملأ ثُغُور الفراغات وتكوّن هوية جديدة تتمايز في هُوية الكائنات.

 

بالتطرق إلى اللاشيء، تستطيع الشاعرة تحرير هويتها من قيود الواقع وتجعل من اللاشيء مادة خام لتحقيق نوع من الانبعاث أو التجدد الذاتي. إنها عملية معاكسة لمفهوم الخوف من الفراغ، بل بالأحرى تجعل من اللاشيء ذاته حافزًا للتجديد والانبعاث الشعري. بهذا الشكل، يتمثل دور اللاشيء في كونه خلفية ديناميكية تُعيد فيها الشاعرة بناء الهوية وتُثري مخزونها الثقافي والوجودي.

 

الخاتمة:

 

في خاتمة هذا المقال النقدي التحليلي لنص “طرقُ الفراغ” من ديوان “فلسفات على حافّة الروح” للشاعرة والمترجمة اللبنانية تغريد بو مرعي، نجد أنفسنا أمام عملٍ أدبيٍ زاخرٍ بالرموز والدلالات الفلسفية العميقة. من خلال تحليل الرموز الأدبية والتعبير اللغوي المدهش، يبدو واضحًا أن الشاعرة تتعمد استخدام الفراغ والزمن كعناصر محورية تسبر عبرهما أغوار الإنسان النفسية والوجودية. الفراغ هنا ليس مجرد حالة فيزيائية، بل هو مرآة تعكس اللامعنى والعدم الذي يكتنف الوجود، وكأنه دعوة للتأمل في واقع الحياة والكون.

 

تتركنا الشاعرة في مواجهة سؤال وجودي جوهري: “هل يمكن للفراغ أن يكون وسيلة للخلاص والنجاة؟” الإجابة تظل معلقة برهة في فضاء النص، بينما تدعونا اللغة الغزيرة بالتشابيه والاستعارات إلى إعادة التفكير في بناء الوجود والزمن. الأسلوب اللغوي والتركيبي الذي انتهجته تغريد بو مرعي يعزز من إيصال هذا المعنى العميق، ما يجعل نصها مفتوحًا على تأويلات متعددة ومتنوعة. وبنهاية الكلمة، فإن “طرقُ الفراغ” ليس مجرد مجازٍ شعريٍ، بل هو رحلة فلسفية في عمق الروح الإنسانية.

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات