الهروب الكبير
حقيقة الصورة.. وزيف الوعود!
عبد المولى المروري – كندا
بالأمس كان التشكيك قويا من طرف إعلام الدولة (العميقة) في صحة الصور التي فضحت العقل الأمني الذي يُعالج به القضايا الاجتماعية.. وتهريب النقاش إلى: من صوَّر؟ وكيف تم تسريب الصورة؟ ومن وراء تشويه سمعة الدولة؟
هذه أسئلة مهمة جدا، رغم أنها ثانوية بالمقارنة بقضية الهروب الجماعي، ومن الضرورة إعطاءها ما تستحق من الاهتمام والعناية.. خاصة بعد أن ركز عليها إعلام الدولة، ولكن قبل ذلك لابد أن نقف طويلا ونفكر مليا في أسباب هذا الهروب؟
من صوَّر؟ ومن سرب الصور؟
هذه مشكلة حقيقية فعلا.. عندما ينصب الاهتمام إلى تداعيات وهوامش المشكلة، وليس إلى حقيقتها وأصلها..
الذي صوَّر قد يكون مواطنا عاديا عاين الأحداث وأراد توثيقها، وقد يكون أحد الذين قرروا الهروب والتقط تلك الصور متخفيا (وهذا أمر مستبعد)، ولما لا أن يكون من بين الاحتمالات أن أحدًا من رجال الأمن الرسميين أو السريين هو من قام بذلك!!
قضية تصوير هذه الأحداث وكل الأحداث الاجتماعية والسياسية والأمنية المحرجة للدولة والمؤثرة على سمعتها أمر في غاية الخطورة، لأنها تضعها في موقع الاتهام بانتهاك حقوق الإنسان، وتُخضعها للمساءلة الحقوقية على المستوى الشعبي والدولي، الأمر الذي عانت منه الدولة كثيرا في السنوات الأخيرة، وهذا غير مقبول طبعا، فلابد أن تبقى هذه الانتهاكات سرية وبعيدة عن الأنظار، لاسيما إذا كانت هذه الانتهاكات ترقى إلى مستوى جرائم التعذيب وجرائم ضد الإنسانية كما هو واضح في الصور المسربة.. فلقد كان على الشخص الذي أقدم على «جريمة» تصوير هذه الأحداث وتسريب تلك الصور أن يستحضر سمعة بلده ومسؤوليها الأمنيين أمام الشعب والمنتظم الدولي قبل كرامة المواطنين الذي فقدوا الأمل في دولتهم، وأيقنوا ألا حل لمعاناتهم إلا الهروب الجماعي على ذلك النحو.. فانتهاك الحقوق وإهدار الكرامة الإنسانية أقل شأنا وأهمية من سمعة أولئك الذي قاموا بذلك، أو أعطوا الأمر بذلك..
ولكن ماذا لو كان الذي صوَّر وسرب هذه الصور ينتمي إلى أحد الأجهزة الأمنية؟ هل هو رجل أمْنٍ نزيه أراد أن يفضح هذه الممارسات المنتهكة للحقوق والحاطة بالكرامة بعد أن ضاق ذرعا بذلك؟ أم هو عمل أمني مقصود من أجل توجيه رسالة مشفرة إلى جهات ما داخل الدولة؟ أم من أجل ترهيب المواطنين؟ قيل لنا إنه قد تم فتح تحقيق في ذلك! فلننتظر نتائجه أولا، على أمل ألا يتأخر أو يدخل درج مكتب أحد المسؤولين دون إن يرى النور!
ولنعد إلى أصل الحكاية..
ما الذي جعل آلاف الشباب يُقْدمون على الهروب الجامعي بهذ الطريقة التي لا نراها إلا في الحروب التي يذهب ضحيتها المدنيون الذين يضطرون إلى الفرار والهروب الجماعي من ويلات ومآسي الحروب؟ لقد عاين العالم ذلك في الحدود التركية/اليونانية عندما فر السوريون من بطش النظام السوري المجرم.. حيث كان يغامر الأهالي بحياتهم في الغابات وتحت مطاردات شرطة الحدود اليونانية، كما كان يُلقي الفارون بأنفسهم وأبناءهم في البحر طلبا للنجاة بحياتهم، وطمعا في الوصول إلى الضفة الأخرى.. والفرق الوحيد بين الحدثين؛ أن في سوريا حرب أهلية دموية بالسلاح والقنابل والبراميل يمارسها نظام بشار الأسد على الشعب السوري، وفي المغرب هناك «حرب مدنية» تمارسها الأوليغارشية بغلاء المعيشة واستغلال الشعب وإهدار كرامته وتدجين عقله بأسلحة الإعلام التافه.. فيلقي آلاف الشباب المغاربة بأنفسهم في البحر طلبا للنجاة بكرامتهم وطمعا في الوصول إلى الضفة الأخرى.. الشعب السوري كان يحاول الفرار من القتل والموت، والشعب المغربي يحاول الفرار من الذل والاستغلال.. الفرار واحد وإن اختلفت أسبابه وبيئته! فلا حياة بدون كرامة.. والعيش تحت الذل هو وجه آخر للموت بطيء!
الهروب الجماعي لأولئك الشباب هو دليل فشل الدولة في تدبير شؤون البلاد.. فشل راكمته لعقود طويلة أفضى إلى نتيجة منطقية، وهي ما نراه عيانا الآن.. ذلك ما عبر عنه الشباب.. الهروب الجماعي من واقع مغرق في الفساد الاقتصاد والاستبداد السياسي.. واقع سيطرت فيه الإوليغاشية على كل شيء، ولم تُبق للشعب أي شيء.. ولم تكتف الأوليغارشية أن تجعل منه «زبونها» البئيس، تحْكُمه وتحاكمه وتتاجر فيه وبه، بل أصبح «مستخدمها» التعيس، تستعبده وتستغله وتُذِلُّه، بعد أن جردته من كل حقوقه كمواطن حر وصاحب رأي وموقف..
صور الهروب الجماعي للشباب بما تحمل من مأساة اجتماعية، وصور احتجازهم الجماعي (مع بعض أثار الضرب البادية على ظهور بعضهم) بما تحمله من فظاعة إنسانية تترجم الحقيقة أعلاه، وتؤكدها، «الاستغلال»؛ هذا قدرك – أيها الشاب – في المغرب، و«إهدار الكرامة» كما ترى؛ هذا مصيرك إن حاولت الفرار من قدرك.. فإما أن تعيش في معتقل كبير يُطل على بحرين كبيرين بدون كرامة، أو تدخل إلى السجن بتهمة البحث «عن الكرامة»..
صور الهروب الجماعي تكشف زيف وكذب «الدولة الاجتماعية الأولى في إفريقيا»، هذا المشهد الأليم لا نراه – حاليا – في إفريقيا إلا في السودان، حيث الحرب الأهلية والمجاعة والفيضانات.. ليس بالحدة نفسها – طبعا – ، ولا بالمدة ذاتها، ولا بالخطورة عينها، ولكن هل في المغرب ما يبرر ذلك؟ إنه هروب جماعي، يقترب من عملية نزوح جماعية، بعد أن تكرر مرات عديدة! كان إحداها بإيعاز من الدولة كما تم ترويجه في الإعلام المحلي والدولي.. وإلى حدود اللحظة لم تجد له الدولة حلا، ولا يبدو أنها تبحث بجدية عن حل! لأن الحل يكمن في طبيعة الخيارات السياسية والاقتصادية التي قد لا تتماشى مع هوى ورغبة ومصالح الطبقة الأوليغارشية.. ولأن الحل – اختصارا – مرتبط بالإرادة السياسية، الحل يعني أن مصالح الطبقة المتنفذة ستصبح مهددة.. فوجودها واستمرارها قائم بالدرجة الأولى على استغلال الشعب، والفساد الاقتصادي والاستبداد السياسي (في إطار اقتصاد الريع ورعاية المخزن)، تحت حماية عقل أمني مؤمن بمنهج التضييق وقمع الحريات، وبدعاية كبيرة تقودها منابر التفاهة والفجور.. لذلك الحل يمر ضرورة عبر القطع مع هذه الخيارات الفاسدة.. الأمر الذي سيُواجه بمقاومة عنيفة جدا، فمن المحتمل يتحول الصراع إلى معركة وجودية بين الشعب الذي يريد الحرية وينشد الكرامة، وبين الأوليغارشية التي تطمع في المزيد من نهب الأموال وتضخيم الثروة واستعباد العباد..
هنا انتهت الحكاية..!