الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

الفلسفة الجمالية في نص “لو كنت هذا، لتغير شكل العالم” لمحمد عجرودي، بين ديالكتيكية الألم وشغف التغيير.

 

 

 

 

بقلم ذ. محمد عامري

 

 

 

 

هل يمكن أن تكون هذا ، وهل يتغير شكل العالم ؟! لو : حرف امتناع لامتناع ، قراءة قاسية .

 

هي وقفة الوقفات ، هكذا بدا لي أن أصف هذا المشهد المرصّع بوجوه مطلة على الأمل ، وبالكلمات الشعرية التي تطوق إلى التحرر ، و ترغب في سحق البؤس الانساني ، أينما حل و ارتحل. عروة بن الورد حاضر هنا بين دفتي أديبٍ و تشكيلي، يحرّك الأجواء، و يجوب سماوات العشق الآدمي، مردّداً بيته الشعري اللامع :

 

أُقسِّمُ جسمي في جسوم كثير # وأحسو قراح الماء والماء بارد .

 

ماذا أقول وأنا تحت هول هذا الانجذاب ؟!

أَأَقولُ مع امرئ القيس : قفا نبكي من ذكرى حبيب و منزل

أم أقول مع عمر بن كلثوم : بأنّ نورد الرايات بيضا # و نصدرهن حمراً قد روينا ؟!

 

لا يحلو القول إلاّ مع الفنان التشكيلي ، والكاتب المبدع ، المتألق ، محمد عجرودي : ” آه لو كنتُ اثنين” . أَلستَ اثنين يا السي محمد العجرودي ؟! ما يمنعك من أن تكون اثنين أو أكثر ؟!

 

الأحادية هي ملجأ الفلاسفة المتصوفة ، والثنائية هي مأوى فلاسفة الثبات والشكّ ، والتعددية هي موطن الفلاسفة المتبصّرين ، والديالكتيكية هي حصن فلاسفة الحركة والصيرورة . والكاتب محمد عجرودي بفنّيّته الأدبية التشكيلية ، يخترق كل هذه القلاع ، لأنّه يعرف كيف يُحلِّقُ عالياً بأجنحته الخيالية ، ويعرف جيِّداً متى يحطُّ الرِّحال بالأحادية ، وبالثنائية ، وبالتعددية ، وبالجدلية . فلماذا يأمل الكاتب المبدع في أن يكون زوربا الإغريقي ؟! ألكون زوربا الأمي الذي تخرج من مدرسة الحياة ، لَقَّنَ المثقّف المُتَنَطّع ، الذي قضى معظم حياته تحت ظلال الكتب ، ما لا يُعَدّ ولا يحصى ، من دروس الخبرة والعيش الدنيوي ؟! يقول زوربا مخاطبا المثقف المغرور : ” كتبكَ تلك أبصق عليها ، فليس كل ما هو موجود ، موجود في كتبك “. فما رأيكم في هذا القول ؟! أولسنا في أمسِّ الحاجة إلى “عِلْمِ” الأمّيين ومعرفة الجاهلين وثقافة التافهين والعابثين ؟! ففيماذا يفيد علم المثقفين وفكر العارفين ، إذا كانت السياسة الهوجاء هي التي تحكم البلاد والعباد ؟! أو لكون زوربا لا يقيم وزنا للسوء والألم والعذاب الذي يملأ الحياة ، ويُقْبِلُ على العيش بشغف شديد ؟! وأيُّ عَيْشٍ هذا في أجواء الضيق والاستعباد والتّسلّط أم أنّ للوجع لذّتهُ وشهوته ، وللأسى شهيّته وطعمه الذي يفتح للمعذبين في الأرض ، الأبواب الواسعة على العبودية الطوعية ؟! هل نحن هنا أمام مازوشية شعوب تستلذ بآلامها أم نحن أمام سادية ثقافية تروي عطش النافذين ، وتشبع جوع المتسلطين ، بالتنكيل بالمثقفين الحقيقيين ، وبالسائرين في دروبهم وأفلاكهم ؟!

 

و يتابع الأديب عجرودي آهاته قائلا قولاً مجلجلا ، إذا مر به بصير يكاد من فرط فهمه ، أن ينفجر عقله ، يقول : ” لو كنت معهم في الطوفان لغيرت اتجاه الريح ” . يا لها من عبارة مشحونة بديناميت مضموني ، يزلزل الوجدان ، ويُفرقع الروابط والمفاصل الفكرية . فلا شك أن تغيير اتجاه الريح يؤثر على مجرى الطوفان ، ولكن إلى أي حدّ قد يصل هذا التأثير ؟! هل يمكن أن يبلغ هذا التأثير تغيير مجرى الطوفان وتغيير مساره واتجاهه ؟! الكاتب يرغب في تغيير العالم ، وكأني به يُعيدُ تمثيل قصة برميثيوس بسرقة المشعل الماركسي ، مشعل الحالم الأكبر بتغيير العالم ، الذي يقول : ” لم يعمل الفلاسفة إلى الآن إلا على الاهتمام بمحاولة تفسير العالم بطرق مختلفة ، في حين أن المهم هو العمل على تغييره ” . الأمر هنا يتعلق بطوفان الأقصى ، وتلك حكاية أخرى كُتبت بالدم والدمع ، وعندما يمتزج الدم بالدمع ، يُوَلِّدُ أنهاراً من الآهات ، أعتقد أن فيضها ظاهر للعيان في المنتوج العجرودي . فإذا كان منتوجه هذا طوفاني ، فإن الطوفان الذي رغب في تغيير ريحه ، طوفان آهاتي !!!

 

محمد عجرودي فنان أديب ، يرسم بالقلم ويكتب بالفرشاة ، ومع ذلك يستشعر بأن وضعه الفني لا يسعفه في تصوير هذا المشهد الطوفاني الهائل العجيب ، الذي كشف جميع الأقنعة على حقيقتها ، إلا إذا تحول هو ذاته كفنان إلى ريشة فنية . هذا مشهد يتحدى كل تفسير ولا يطيقه ، وعلاجه الوحيد هو التغيير ، أو على الأقل الحلم بالتغيير . فلقد ضاق كثيراً خيال الأمة العربية الإسلامية ، وانحسر ، وربما انكسر ، وغابت كل العنتريات ، وماتت الخزعبلات ، ولم يعد لدينا أيُّ أمل في الوهم ، في الإفتراء ، في الإختلاق . لقد تحجّرت عواطفنا كما تحجّرت من قبل أدمغتنا ، إلاّ تلك التي أسعفها الحظ في الهجرة ، وتلك التي لازالت تتجرع مرارة القراءة الهادفة ، الجادة ، العميقة ، القاسية . فيا أهل القراءة القاسية ، (اقرؤوا-اقرءوا) بكلِّ قساوة وعنف ، وبكُلِّ تأوُّهٍ ، وبصيغة الكتابة التي تريدون ، ما يقوله محمد عجرودي :

 

” آه، لو كنت فرشاة لمنحتكم

عبقرية دافنشي

وأزرق فان غوخ

وعرائس بيكاسو

وجنون دالي

وأساطير بابل

وابتهالات زرادشت

و لأصلحت أنف أبي الهول

ورفعت شيئا من أهرام الجيزة

ولتركت باريس ( في أسطورة طروادة )

والمجنون

و روميو

يرقصون مع زوربا رقصة الوداع الأخير…”

 

 

أهٍ يا ابن الآهات ، أيها الكاتب الصادق المُتَأوِّهُ ، أيُّ قارئٍ يبلغ درجة ما ترصده من حسرة وغمٍّ وبؤس ؟! اليوم أصبحتِ القراءة لينة ، مرنة ، مجرّد أصابع تمسح على زجاج الشاشات ، ومجرّد شفاه تتحرّك في انفصال عن القلوب والضمائر والعقول . كتابتك سيدي العزيز تحتاج إلى قاريء عـجّانٍ ماهر ، يعرف كيف يدلك الكلمات ، ويدعكها ، ويعلكها ، فيحوّلها إلى عجينة فكرية مستوية ، يخبزها على مهل ، وعلى نار هادئة ، حتى تنضج في مأمن ، دون أنْ تحترق جوانبها . فما أبشع المضمون المعرفي حين لا يستوي ، وحين تحترق أطرافه أو يتشقق ، فيغدو كريها ، منفراً ، من قبيل كثير مما يُسَوَّقُ إلينا في الفضاء الأزرق . فحين تعرض علينا عبقرية دافينشي ، كثير من القراء لاَ يعرفون أين تتجلى عبقريته ، فتكون قراءتهم سطحية ، لاَ ترقى أبداً إلى مستوى إدراك إبداعك الفكري الرفيع . ولعلمهم ، أنّ دافينشي كان رسّاماً ، ونحّاتاً ، وأديباً ، وموسيقياً ، ومعماريا ، وعالماً في الفلك والرياضيات والبيولوجيا والجيولوجيا والنبات والهندسة والجغرافيا ، وكان أيضا مخترعا . فلازالت الموناليزا لحد الساعة ، شاهدة على هذه العبقرية الفذة ، وأكيد ستظل كذلك . وأزرق فان غوخ أيضا لاَ يستوي ضمن العجينة الفكرية التي أعددتها لنا بسخاء حاتم الطائي ، إذا لم نستعن بنباهة ، بسيكولوجية الألوان ، وبفلسفة الفنّ ، ونعرف كيف يُوَظَّفُ هذا اللون الأزرق غالبا في التعبير عن أعقد وأتعس الحالات النفسية ، وندرك جيِّداً لماذا اختار هذا الفنان أن يقتطع جزءاً من أذنه اليسرى ! فلا شك أن وراء ذلك يرقد سرٌّ عظيم ، لاَ يصل إليه إلاّ أهل القراءة القاسية ! ومصطلح “الفترة الزرقاء” أيضاً شاهد على ما أبدعه بيكاسو من أعمال فنية رائعة ، أفرغ فيها كل ما تراكم في قلبه ومهجته من أثقال وأوزار الحياة ، فجاءت إبداعاته مجسدة للحزن والاكتئاب في أسمى معانيهما . ولعلّ هذا ما يوحي به قوله : ” الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية ” ، ولكن الفن عنده لاَ ينسجم مع الحدس العربي الذي كلّسته عندنا التربية التقليدية ، لأنّه أُكذوبة تُعَبِّدُ الطريق إلى الحقيقة . وفي ذلك يقول بيكاسو : ” الفن هو الكذبة التي تجعلنا نكتشف الحقائق ” . ولكن مصيبتنا الكبرى ، هي أنه حتى وإنْ كنا نحن نجيز هذا الفنّ ، ونسمح بالكذب الهادف ، اعتماداً على تصور الإمام الغزالي ، حجّة الإسلام ، فهل نملك قوة وقدرة فنّ ممارسته ؟! إنَّ الفنّ لا يمارس إلا بالفنّ ، ولذلك تجد كل فنّ تجتمع فيه فنون تتعاضد ، ويكمل بعضها بعضاً ، والفن يشمل كل شيء ، فهل يجوز الحديث عن فنّ الكذب ؟!؟ وكيف يكون بيكاسو كاذبا في كل أقواله التي تسيء إلى حدسنا ، إلاَّ في قوله : ‫” إنَّ أعظم ما أردت تحقيقه ، وجدت بأنّ الخط العربي قد سبقني إليه منذ زمن ” ؟!

الشاعر محمد عجرودي تتعايش في منتوجاته فنون متنوعة ، لأنّهُ حين يكتب ، يرسم وينحت ويحكي ويشعر ويتخيل ويتصور ، ويربط بين الأحداث والوقائع ، ويؤلف بين الهموم والأفراح . فعلى سبيل التشخيص ، لقد ربط في هذه التأوهات الشعرية ، بين الفن والعبقرية والجنون والوهم والحلم ، واستلهم عظماء التاريخ ، وربما استجداهم واستعطفهم بفنّية ، شفقة على أوضاعنا البائسة ، وأملاً في التغيير ، أملاً في إصلاح أنف ذلك التمثال الأسطوري ، أبو الهول ، الذي لا نعرف من كسر أنفه ، لعله إذا ما استعاد أنفه ، يفتح عينيه المغمضتين ، ليرى ويشتم ما جاء به طوفان الأقصى ، ولينتفض الجسد الأسدي من تحت الرأس الانساني المُثْقَل بالانكسارات والغارق في سباته العميق . فلماذا لم يتم ترميم أنف أبي الهول لحد الساعة ؟! أَ مخافة من تشويه الأثر التاريخي أو خوفا من التغيير ؟!؟

 

‫ الكاتب محمد عجرودي يائس من أوضاعنا المقرفة ، فاقد الأمل في قدراتنا وعزائمنا ، ولكنه مع ذلك لم يفقد الأمل في براعم المستقبل ، وربما من هنا جاء حرصه وإصراره على التغيير ، لأن التغيير رهان الفتوة والشباب والأجيال القادمة ، والتغيير يأتي مع الغد ، مع الصبح القادم ، مع من يحمل فانوس الحلم والهم والوهم والخيال ، لا مع المثقل بأحجار الماضي ومآسيه ، الذي فَقَدَ البوصلة ، وأصبح لا يعرف إلى الحياة سبيلا . يقول الفنان الشاعر :

 

 

” سأستل لكم من الصدفات لؤلؤة أهديها لأطفالكم

لكي لا يصابوا مثلنا…

ولأخفف عنكم بعض دوران الأرض

وبعض الصدمات…

و إن عجزت نفخت فيها أكثر

حتى تنكسر…

أو تنفجر … “

 

 

انفخ أكثر فأكثر أيها الكاتب العتيد ، بِنَيَّةِ الانفجار لا بنية الانكسار ، فلقد سئمنا الانكسار الذي طبع تاريخنا بكل ألوان الذل والتقهقر والانحطاط والمهانة والحقارة والاستصغار . ولم نَعُدْ نقوى على تحمل أوزار الماضي ومشاقه . حتى في كتاباتنا أصبنا بالقنوط وباليأس ، وهجرتنا الأماني ، وغابت عنا الآمال ، وتحولنا في تاريخ البشرية إلى شماعة يُعَلَّقُ عليها كل ما يحدث في العالم ، من تصدّع وفشل وانهزام . فمعذرةً أيها الكاتب المتألق المتبصر ، ليس لَدَيَّ ما أهديك إياه ،

أكثر من هذه الباقة من ورد الكلمات ، التي لاَ أملك فيها غير الصدق والحب ، عن سبق ترصد وإصرار .

 

منتوج محمد عجرودي كاملا :

 

 

” آه يا أصدقائي:

لو كنت زوربا…

لرقصت حتى الصباح

ولزرت كل مرافئ الدنيا

لأستل من كل الصدفات لؤلؤة

هدية لكم…

لأخفف عن هذه الأرض بعض الصدمات…

 

آه، ولو كنت اثنين:

واحد هنا، يعد لصغاره خبزًا و حكاية للمساء

والآخر هناك يلاحق الذكريات…

 

آه يا أصدقائي:

لو كنت معهم في الطوفان لغيرت اتجاه الريح…

وأغرقت كل الأشرار

لأخبركم يا أصدقائي

بكل أسرارهم وأخبارهم

 

آه، لو كنت فرشاة لمنحتكم

عبقرية دافنشي

وأزرق فان غوخ

وعرائس بيكاسو

وجنون دالي

وأساطير بابل

وابتهالات زرادشت

و لأصلحت أنف أبي الهول

ورفعت شيئا من أهرام الجيزة

ولتركت باريس ( في أسطورة طروادة )

والمجنون

و روميو

يرقصون مع زوربا رقصة الوداع الأخير…

ولوحدهم سيموتون وزراء الحرب غبنا…

ونحن يا أصدقائي

سنبني خيمة على رأس التلة هناك

لكل العاشقين…

وندعو أشعة الشمس لتعزف لنا سمفونية الأطلس…

وأغنية الصباح لفيروز

ونتلوا قصائد نزار…

وكلمات محمود درويش:

نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا…

آه لو كنت اثنين:

الأول يمنحكم السلام والحب

والثاني ينصب المشانق لهم

في ناغازاكي

وهيروشيما

وهانوي

ونابلس

ويافا

وحيفا

والجنوب

وفي أعماق بحر غزة

بعد حرق تلك السفينة التي أتت بهم إلى ذاكرتنا

بعد الطوفان

حين ترسو على الشاطئ… عند المرافئ

سأستل لكم من الصدفات لؤلؤة أهديها لأطفالكم

لكي لا يصابوا مثلنا…

ولأخفف عنكم بعض دوران الأرض

وبعض الصدمات…

و إن عجزت نفخت فيها أكثر

حتى تنكسر…

أو تنفجر …

آه، يا أصدقائي” .

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات