شريد البخاري
عزاء في مضحكة الأسطورة (1)
الأستاذ عبد المولى المروري
المقدمة
بكل صدق وموضوعية، حاولت أن أجد في كتاب (صحيح البخاري، نهاية أسطورة) لصاحبه شريد البخاري شيئا مميزا يفسر لي كل تلك الضجة التي خص بها، وكل تلك الاحتفالات التي حظي بها من طرف بعض المنابر والوسائل الإعلامية، ولكن كانت صدمتي قوية جدا بعد تصفح هذا الكتاب، ووضعه على موازين عدة، حسب المحور الذي أنظر فيه.. فوضعت الكتاب على ميزان اللغة، فكان مختلا لا يستقيم على لغة سليمة، بل كانت لغته في جلها عليلة المبنى، سقيمة المعنى. ووضعته على ميزان المنهجية، فكان منحرفا انحرافا مريعا عن استقامة المنهج وصرامته. ووضعته على ميزان الوقائع، فكان الكتاب ضالا مضلا، تائها متشردا بين حطام وركام ما اقترحه كأدلة تعضد «أطروحته!». ووضعته على ميزان المحتوى والمضمون فكان أتفه من ذبابة على ذيل خنزير. ووضعته على ميزان المجهود الفكري والعقلي للكاتب، فوجدته أخف من ريشة طائر أبي سعن تطايرت بفعل خفة وجشع الطائر الباحث عن الطعام في أماكنه المفضلة..
هذه حقائق لا زيادة فيها ولا مزايدة، وأنا أعطف على صاحب الكتاب من حيث أراد الشهرة بطريقة أوقعته في شر أعماله وخبث مسعاه، فهدم أطروحته بيده، ظانا بغباءه أنه قد أرساها على قواعد صلبة ورواسي ثابتة، والحال أن كل ما بناه ثبَّته على جرف هار، بنفخة نسيم واحدة أو هبة ذغذاغ آتية من عين الحقيقة كافية بأن تهوي به وبكتابه في واد سحيق..
وفي نظري أن ما ساعد هذا الكتاب على الشهرة أمران اثنان، أولهما تلك المبادرة الصادرة بحسن نية عن شيخنا الفاضل العلامة الدكتور مصطفى بنحمزة بتخصيص مبلغ من المال لمن كتب كتابا يفند فيه ما ضمنه كاتبه، فقد انتشر خبر هذه المبادرة كالنار في الهشيم، وأخذ الناس يتطلعون إلى هذا الكتاب بدافع الفضول لمعرفة سبب هذا المبلغ السخي.. وثانيهما الدعم الذي يحظى به صاحب الكتاب من طرف جهات خفية من الداخل والخارج توحدت وتواطأت على استهداف الإسلام من خلال الطعن في السنة والحديث، فدعموه بالمال والمنابر الإعلامية كمساهمة منهم في التعريف بهذا النكرة شريد البخاري ونشر كتابه على نطاق واسع..
وتمنيت لو لم يبادر الدكتور مصطفى بنحمزة بتلك المبادرة، على ما تحمله من حسن نية وتشجيع على البحث، فالكتاب لا يستحق ما هو أدنى من مائة درهم بالنظر إلى هشاشة منطقه، واختلال وقائعه، وانحراف منهجه، وأسقام لغته. لأن هدم ذلك البنيان المغشوش تكفيه خلخلة بسيطة حتى يتهاوى من أعلاه إلى أدناه، فهذا الكتاب تكفيه بعض الصفحات المركزة لتأتي على أسسه الهشة وأركانه المختلة.. وذلك ما سأبينه من خلال بعض الحلقات التي لن تتجاوز الأربع أو الخمس بحسب المحاور التي رصدت فيها علات وأسقام هذا الكتاب، دون الحاجة إلى منحة مالية تشجيعا على ذلك، فخدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تستحق أن نبذل من أجلها الرخيص والنفيس شأنها شأن كتاب الله سبحانه وتعالى.. فنحن لا ندافع عن السنة، بل السنة هي التي تدافع عنا، ونحن نحتمي بها كما نحتمي بالقرآن، لأننا نحتاج إلى السنة احتياجنا للقرآن وليس العكس، فالله تكفل بحفظ دينه بقرآنه وسنة نبيه..
ولولا هاذان السببان ما تجاوز الكتاب المذكور المذؤوم عتبة المطبعة التي طبع فيها، ولَعاد إلى بيته ذليلا منكسرا، ولكن صدق فيه قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَع»، فهذا زمن اللكعيبن والتافهين، ونحن إن شاء الله لهم بالمرصاد حتى ينبلج الحق ويرتكس الباطل، إن الباطل كان زهوقا..
فركام أخطاء هذا الكتاب تجلت في محاوره كلها، دون استثناء، وكأن أخطاء العالمين المتفرقة اجتمعت وتوحدت في كتابه، فأخرج لنا كتابا سقيما، ضم بين دفتيه جميع عاهات البحث، وآفات المنهج، وعلات اللغة، وبؤس الفكر، وارتجاف الوقائع.. فكانت تلك الكلمات المسطرة على الأوراق صورة مشوهة وسقيمة عن الانتاج الفكري البشري، منتوج فَقَد معنى الوجود ومقومات الحياة، فوضعه حُماته في الخدج تحت التنفس الاصطناعي حتى لا يفقد الحياة، ويؤدي دوره في التضليل والتدليس على الناس.. ولكن هيهات..
وعندما أقول هذا الكلام عن مستواه الهزيل في اللغة العربية، فإني لا أتهكم عليه أو أنتقص من قدره، بل إن ذلك حقيقة واقعية لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها، فمستواه الدراسي الذي توقف عند الثانية إعدادي يشكل له عائقا معرفيا حقيقيا، لا ولن يساعده في وضعه الحالي على استيعاب العلوم الشرعية وفهمها على الوجه السليم، فضلا عن انتقادها وانتقاد علماءها.. فلابد له أن يستدرك نقائصه ويعالج أسقامه اللغوية بمجهود جدي ومتواصل يبتدئ من مستواه الإعدادي حتى يصل إلى المستويات العليا من اللغة العربية، على أمل أن يتأهل خلال سنوات قادمة، قد تقصر أو تطول، حسب جده واجتهاده، إلى مستوى طالب علم، وحينها قد يرتقي في مدارجه الشاقة ومسالكه الطويلة الوعرة، على أمل أن يفوز بنصيب ضئيل من المشاركة في فهم ومناقشة أعلام وعلماء العلوم الشرعية.. إن فَتَح الله عليه أبواب ذلك، فإن ذلك العلم دين، ولن يشع نوره إلا في قلب تقي، ولن يُفتح بابه إلا في وجه نقي يبتغي به وجه الله، لا أن يبتغي به تسفيه وإلغاء أحاديث رسول الله وسنته.. فتلك علة تحول دون ولوج هذا العلم والاستنارة بنوره.. وقد شكى الإمام الشافعي إلى أستاذه وكيع سوء حفظه، فأجابه وكيع ب:
شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي
ورغم ما بهذا الكتاب من عاهات وأسقام وعلات فإننا سنحاول التجول بين صفحاته لنبين القارئ هول تلك العلات والعاهات وخطورة تلك الأسقام على صاحبها دون غيره، ونفصل في بعضها، ونفضح تناقضات حشوها، وارتجاف وقائعها، وتفاهة استنتاجاتها، باختصار وتركيز يليق بمستوى الشخص وحرصا على وقت القارئ، فأنى للثرى أن يصل الثريا، وهل يقوى دود الأرض على مزاحمة الصقور في سماءها؟
فهذا الكتاب المكون من ثلاث وثمانين ومائتي صفحة قسمه صاحبه إلى خمس فصول، كل فصل ضم عناوين فرعية، سيكون موضوع هذه المقالات، ولا أسميها دراسة، ولا نقدا، ولا بحثا.. لافتقاد الكتاب لكل هذه المواصفات، فهو ليس دراسة ولا بحثا علميا، وإنما هو نوع من اللغو في الكلام دفعتنا الضرورة إلى فضح تفاهته حتى لا ينخدع الناس البسطاء به بعد الضجة التي صنعت له والضجيج الذي رافقه.
المحور الأول: الضعف البين اللغة العربية
لقد أحصيت على الكتاب عشرات الأخطاء في لغته العربية، موزعة بين النحو والصرف والإعراب والتركيب والنظم، فضلا عن ركاكة فظيعة في بعض العبارات التي تصيب قارئها بضيق في التنفس وتوتر في الأعصاب عند محاولة فهم مقصود الكاتب، وكأنك تعيش فصلا من فصول التعذيب النفسي كي تفهم جملة واحدة على النحو الذي يرمي إليه صاحبه.. فمبنى كلامه يمر بك على كل أسقامه وزلاته في اللغة العربية كي تفهم المعنى، ابتلاء ما بعده ابتلاء. وسنحاول الكشف عن ذلك ببعض الأمثلة ننتقيها من هذا الركام الفظيع من الأخطاء الذي يفضح جهله باللغة العربية فضلا عن العلوم الشرعية وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فلقد افتتح الكاتب أخطاءه بتصديره كما أسماه، حيث جاء في الصفحة 7 في السطر الثاني منه: “تناولت جميع المرويات المنسوبة للرسول الكريم”، يريد هنا أن يقول المنسوبة «إلى» الرسول الكريم، وهذا هو الصواب للاختلاف الواضح بين المعنيين؛ بين عبارة: المنسوبة «ل»لرسول وعبارة «إلى» الرسول. فحرفا الجر «ل» و«إلى» لهما معنيان مختلفان بحسب السياق والمقصود عندما يلتحقان بالاسم، فعندما نكتب «للرسول» فتلك عبارة تعني «موافقة له»، وعندما نكتب «إلى الرسول» فتلك عبارة تعني «وصله به»، والعرب في هذه الحالة لا تقول بالأولى، بل تقول بالثانية، مثل قول الشاعر جرير :
وإذا انتسبت إلى شنوءة تدعي *** قالوا: ادعاء أبي سراقة زور
وقول أبي العلاء المعري:
عجبت للظبي منسوبا إلى أسد *** وللمهاة التي تعزى إلى النمر
وللمعري أيضا:
ما للمذاهب قد أمست مغيرة *** لها انتساب إلى القداح
ومثل قول البحثري:
إيهاً أبا صالح! والبحر منتسب *** إلى نوالك في سيح وإغرار
وفيها أيضا يقول أحمد شوقي:
ومن كان منسوبا إلى دولة القنا *** فليس إلى شيء سوى العز ينسب
والأمثلة في هذا الباب لا تعد ولا تحصى، توضح استعمال عبارة «نسبة إلى»، أو «منسوب إلى» عندما تريد وصل الشخص بالشخص، أو الشيء بالشيء وهكذا… وهذا هو الصواب لغة ومعنى، وإذا كان هذا المسكين شريد البخاري لا يفرق بين العبارتين ودلالتهما على بساطة هذا التعبير وسهولته، فأنى له أن يصل إلى ما هو أعقد وأصعب من ذلك.. وكما هو ملاحظ، فقد افتتح كتابه بخطأ لا يقع فيه تلاميذ المستوى الإعدادي، وهو ما يؤكد توقف مستواه عند ذلك الحد دون أن يتخطاه أو يزيد عنه.
وفي الصفحة نفسها هناك عبارة ركيكة لا يصح أن تصدر عن باحث في حقل العلوم الشرعية، حيث قال فيها: «بل إن النقاش انتقل إلى الوسط الفكري، الذي يضم العديد من المفكرين والباحثين، إلى الوسط الديني أيضا داخل بعض المؤسسات ذات الطابع الديني»، والصواب أن يقول «… إلى الوسط الديني بمختلف مؤسساته» وكفى، فهذه العبارة البسيطة والمختصرة أبلغ وأسهل من الأخرى الركيكة والمتكلفة، لأنها تؤدي المعنى نفسه بأقل الكلمات.. مما يؤكد مرة أخرى عسره وضعفه لغته..
ومن الأخطاء التركيبية التي وقع فيها صاحب «نهاية أسطورة»، والتي لا يجوز أن يقع فيها شخص أعطى لنفسه الحق في التسلل إلى حقل العلوم الشرعية عندما كتب: «وشرع هؤلاء في تمحيصها بنفس الآليات العلمية والعقلية»، والصواب أن يكتب «وشرع هؤلاء في تمحيصها بالآليات العلمية والعقلية نفسها»، وهذه من الأخطاء المشهورة التي يقع فيها عوام الناس وهواة اللغة العربية الذين لا يميزون ألفاظ التوكيد المعنوي (نفس، عين، كل)، ولا يجيدون توظيفها، حيث يجب أن يسبق ألفاظ التوكيد المؤكد الذي يجب أن يكون معرفة، وأن تطابقه في الإعراب، وتضاف إلى ضمير يعود إلى المؤكد؛ مثل قوله تعالى: «فسجد الملائكة كلهم أجمعون»، وقوله تعالى: «سبحان الذي خلق الأزواج كلها»..
وفي الصفحة نفسها، كتب «ومما ساعد على هاته الحركة الفكرية بخصوص انتقاد التراث الديني»، وهنا يريد أن يقول: «ومما ساعد هاته الحركة الفكرية…» فكان عليه أن يحذف حرف الجر «على» حتى يستقيم المعنى، لأن الاحتفاظ ب«على» في هذا المقام يحمل المعنى على وجود أمر ما ساعد ضد الحركة الفكرية وليس العكس، والفرق شاسع بين المعنيين..
وسأضطر إلى مغادرة تصدير الكتاب نظرا لكثرة الأخطاء المتراكمة فيه والتي إن فصلت فيها لربما استغرق مني ذلك وقتا أطول، وهذا ما لا يستحقه هذا الكتاب، لأنتقل إلى بعض الصفحات وأستخرج منها للقارئ أخطاء لغوية أخرى أكثر غرابة وفظاعة..
في الصفحة 17، كتب في «نفس النهج»، والصواب كما قلنا أعلاه «في النهج نفسه»، لأن النهج لا نفس له.. وهي حالات متكررة في كتابه، مما يؤكد أن هذا المسكين يعاني من ضعف لغوي بنيوي ومركب يصعب الشفاء منه..
وفي الصفحة 19 هناك ركاكة واضحة في عبارة «… التي تدل دلالة قطعية على منع الرسول لأصحابه من تدوين كلامه»، والصواب أن يقول «… التي تدل دلالة قطعية على منع الرسول أصحابه تدوين كلامه»، مع العلم أن الكلمة المناسبة في هذا المقام هي «النهي» وليس «المنع».
وفي الصفحة نفسها عبارة بلغت في ركاكتها مبلغا فظيعا تعكس جهل كاتبها باللغة العربية وفنونها، فلقد كتب: «.. وكعادة كل روايات تاريخية خاضعة لأهواء البشر ومصالحهم، تم إيجاد وصنع أحاديث أخرى…»، والصواب أن يقول: «وككل رواية تاريخية خاضعة لأهواء البشر ومصالحهم، (تم) إحداث وابتداع أحاديث أخرى…»، أو أن يقول: «وكعادة أصحاب الروايات التاريخية الخاضعة (كلها) لأهوائهم ومصالحهم، (تم) إحداث وابتداع أحاديث أخرى…»، فالروايات لا عادة لها، ويستحيل أن تكون لها ذلك.. بل تُنسب العادة إلى الكائن الحي المتحرك من حيوان أو إنسان حيث تتولد لديه عادة فعل شيء عن طريق تكراره ومداومته، فلا يعقل أن تكون للروايات عادات! فهذا هو عقل من يعتمد العقل في نقد أحاديث رسول الله التي جمعها الإمام البخاري، وها هو يخبط خبط عشواء في الكتابة والعبارة كشريد يبحث عن طعام فاسد يسد به جوعه وجشعه نحو الشهرة.
ولا يصح أن يقول «… ككل روايات تاريخية خاضعة…» فهذه ركاكة ثقيلة على أذن السامع ونفسه.. ويرفضها المنطق اللغوي السليم، ولا يصح أن يقول: «تم إيجاد..»، فذلك يعني أن الأحاديث كائنة من قبل، إلا أنها مختفية عن الأنظار، وبعد ذلك تم إيجادها (أي اكتمل إيجادها)، والمسكين الشريد يقصد ابتكارها وإحداثها أو اختلاقها من العدم.. أما كلمة «تم» التي ألحقها ب«إيجاد» فذلك يفضح هزال لغة المسكين وضعفها، فتلك كلمة لا يستعملها أصحاب العلوم الشرعية ذوو الأقدام الراسخة في علوم اللغة العربية، بل يستعملها المبتدئون الصغار، لأنها من الأخطاء الشائعة والمترجمة إلى اللغة العربية، ومعناه «اكتمل وصار تاما»، والصواب أن يقول: «… عمد هؤلاء إلى اختلاق، أو إلى استحداث، أو ابتداع أحاديث أخرى…»، ولكن المسكين شريد البخاري لا قبل له بهذا المستوى من اللغة، فمنتهى ما وصل إليه من علمها وفنونها هو المستوى الإعدادي الذي توقف عنده..
أما الصفحة 20 فهي مليئة بالأخطاء اللغوية والتركيبية، وبعبارات ركيكة بصيغ تسبب ضيقا في التنفس أثناء قراءتها، وتقتضي إعادة صياغتها من جديد على نحو تستقيم معه اللغة ويتضح المعنى. وسأكتفي بمثال واحد كتبه على الشكل التالي: «رغم أن هناك منع من طرف الرسول واضح من تدوين هذه المرويات»، فهذه جملة صاغها بشكل ركيك ومعقد، اعتل فيها المبنى واختل معها المعنى، وكان بإمكانه صياغتها بسهولة على الشكل التالي: «رغم أن الرسول (نهى) بشكل واضح (عن) تدوين هذه المرويات» حتى تسهل قراءتها ويتضح مقصودها لدى القارئ..
وفي الصفحة نفسها كتب: «حيث أن»، والصواب «حيث إن»، فبعد القسم (والله وتالله)، والقول (قال إن)، وإذ، وبل، وهل، وهب… نكتب (إن) بكسر الهمزة وتشديد النون وفتحها، وليس (أن)، وهذه من أخطاء الشريد المتكررة والمركبة والبنيوية. وكتب: «فيسهل» والصواب الذي يقصده هو «فلا يسهل» حتى يستقيم المعنى وفق مراد صاحبه، ففي هذا الموضع أيضا اعتل مبناه فاختل معناه..
وبعد أن قدمت نماذج بسيطة عن أخطاء المسكين شريد البخاري، والمتراكمة في صفحاته الأولى، سأنتقل مضطرا إلى الصفحة 124 وإلا سأكتب عشرات الصفحات عن زلاته وجهله باللغة، فالمقام لا يسمح، والهدف قد اتضح واستبان لمن أراد أن يقف عند جهل هذا المسكين الشريد باللغة العربية في أدنى مستوياتها.
فالصفحة 124 تفضح جهله المنغلق المطبق باللغة، وتعري سوءاته النحوية والإعرابية، وافتقاده لأبسط قواعد النحو التي لا يجب أن تغيب عن تلميذ في الصف الإعدادي..
كتب المسكين الشريد: «ثلاثة مليون»، فهل تكتب بهذه الطريقة المضحكة، أم نكتبها على الشكل التالي: ثلاثة ملايين، فالأعداد المفردة بين ثلاثة وتسعة تأتي عكس المعدود دائما، وتخالف التمييز تذكيرا وتأنيثا في جميع الحالات سواء كانت وحدها أو مركبة مع عدد آخر. وبمعنى آخر، أن الأعداد بين 3 و9 تخالف جنس المعدود، فتكون مذكرة مع المؤنث، ومؤنثة مع المذكر، وتعرب بحسب موقعها في الجملة.
أما في الحالة أعلاه، فكلمة (ملايين) جمع (مليون) مذكر، جمع في صيغة منتهى الجموع الممنوعة من الصرف، وفي (ثلاثة ملايين) مجرورة بالكسرة لأنها اسم مضاف إلى ثلاثة، وبالتالي تكتب ثلاث ملايين، وليس بتلك الفضيحة التي كتبها شريد البخاري.
هل أزيدكم من البيت شعرا؟
أضاف إلى زلاته وعلاته، (…. وهي تساوي (3000000) ÷ 60 دقيقة = (50000) «خمسون» ألف ساعة)، والصواب أن يقول «خمسين» ألف ساعة لأنها مفعول به منصوب وتعرب إعراب جمع المذكر السالم، وفاعل «تساوي» ضمير مستتر تقديره هي (العملية الحسابية)، إذا كان كاتب هذه الفضائح يقصد فعلا العملية الحسابية.
وأضاف إلى جرائمه الشنيعة في حق اللغة العربية ما يلي: (لو فرض أنه يعمل في اليوم (8) ساعات فقط لأصبح الخمسين ألف ساعة تساوي + 50000 ÷ 8 = 6250 يوما)، وبصدق لا أدري من أين سأبدأ تصحيح هذه المصائب اللغوية، هل من تركيبها ونظمها؟ هل من إعرابها، أم من إملاءها؟
وحتى لا أغوص في التفاصيل، فلقد كان على شريد البخاري أن يكتب «الخمسون» مرفوعة هكذا، وليس «الخمسين» لأنها اسم (أصبح) الذي يجب أن يكون مرفوعا، لأن (أصبح) من أخوات (كان) التي تدخل على المبتدئ فترفعه وعلى الخبر فتنصبه.
وكان عليه أن يكتب (أصبحت) وليس (أصبح)، فالكلام يعود على الساعة والساعات التي سيتغير عددها بعد عملياته الحسابية الغريبة التي سأخصص لها محورا خاصا بها.. وكان عليه أن يكتب هذه العبارة العجيبة كي يستقيم المبنى مع المعنى وفق ما يلي: «لو فرض أنه يعمل ثماني ساعات في اليوم لأصبحت ساعات العمل تساوي خمسين ومائتين وستة آلاف يوم» وليس (يوما) كما كتبها شريد البخاري.
وكان عليه أن يكتب «واحد وعشرين» وليس «واحد وعشرون» احتراما لموقع العدد في الإعراب، وهكذا تتوالى أخطاؤه في هذا الباب، مما يعني أن الشريد جاهل بقواعد اللغة العربية في مستوياتها البسيطة والدنيا.
ويمكن لمن أراد التأكد من صحة كلامي أن يعرض هذا الكتاب على أستاذ متمكن من اللغة العربية ليستخرج له من كل صفحة الكثير من الأخطاء التي يندى لها الجبين وتخجل منها النفس الحرة الأبية..
هذا فيض من غيض، ولا أدري هل أتتبع كل الأخطاء التي وقع فيها أم أكتفي بهذا القدر؟ لأن أخطاءه بالعشرات ويصعب الإحاطة بها كلها لكثرتها وفظاعتها، وهذا أمر متعب ومستنزف للوقت، وهي في مجموعها تعكس هزال الشخص وضعفه ورداءته.. إضافة إلى كونها موانع موضوعية وذاتية، وهذا هو الأهم، لأنها تجعله دون الأهلية المطلوبة والضرورية للخوض فيما هو أكبر منه من جهة إلزامية الإحاطة باللغة العربية.. فأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مكتوبة ومنقولة ومروية بلغة عربية فصيحة تفوق مستوى هذا المسكين الشريد بكثير.. كما أن علم الحديث بجميع فروعه ومناهجه وتعقيداته ومصطلحاته، علم واسع وشاسع وشامخ ومعقد، آلته المستعملة هي اللغة العربية، ومستوى اللغة المستعملة فيه لن يصل إليها أبدًا شريد البخاري حتى يستدرك كل نقائصه وعثراته إن استطاع، وأنى له ذلك وقد غلف ضعفه بالغرور، وسيج نقائصه بالرعونة والوقاحة.. فالغرور داء عضال يحول بين صاحبه وطلب العلم..
فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، والرسول صلى الله عليه وسلم يحدث بلسان عربي فصيح، وعلى هذا الأساس فإن اللغة العربية هي مفتاح الدخول إلى عالم العلوم الشرعية المرتكزة على الكتاب والسنة، لذلك اشترط العلماء كلهم ضرورة حذق اللغة من أجل فهم مقاصد الشريعة على كمالها. وفي هذا اشترط الإمام الغزالي القدر الذي يجب معرفته من العربية فقال: ” إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب، وعاداتهم في الاستعمال حتى يتميز بين صريح الكلام، وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه، وهذا لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة درجة الاجتهاد”.
وظل الإمام الشافعي يتعلم اللغة العربية عشرين سنة كاملة كما أخبر بذلك زوج ابنته، حيث قال: “أقام الشافعي على علم العربية وأيام الناس عشرين سنة، فقلنا له في هذا، فقال: ما أردت بهذا إلا الاستعانة للفقه”، ويقول الشافعي: “أصحاب العربية جن الإنس، يبصرون ما لم يبصر غيرهم”.
وقال العلماء قديما: من تكلم في الفقه بغير لغة تكلم بلسان قصير.
أما الإمام أبو إسحاق الشاطبي فقال: “إن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية، فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط ما عدا وجود الإعجاز. فإذا فرضنا مبتدئا في فهم اللغة العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فيها حجة كما كان فهم الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم، فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولا” (كلام مأخوذ من موقع “حاجة العلوم الإسلامية إلى علم القواعد العربية” للباحث صابر علي شيخ العمري، ولمن أراد الاستزادة فيمكنه الرجوع إلى هذا الموقع ففيه كلام مفصل ومهم).
فأمام ما فصلته أعلاه عن ضرورة حذق وإتقان اللغة العربية لفهم كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وملاحظة الكم الهائل من المصائب اللغوية التي وقع فيها شريد البخاري، فهل يحق لهذا المسكين صاحب اللسان القصير في العلم والسليط على علماء الأمة وصحابة الرسول، أن يخط كلمة واحدة في مجال يقف أمامه كدودة أرض تريد أن تسابق الصقور في علياءها؟
وكما هو معلوم، فإن الأعمى لا يصل إلى وجهته، والأعرج لا يعتدل في مشيته، والأهوج لا يستقيم في عقله.. فكيف بمن جمع كل هذه العاهات في بدن واحد، فإني لا أجد له وصفا إلا كما قال الله تعالى: «أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ»، هذا هو شريد البخاري أعزكم الله.
يتبع