فتوى شرعية شاردة
وعلماء خارج الزمن والأحداث
عبد المولى المروري
زمننا البئيس هذا يعرف فيه العالم الإسلامي والعربي أخطر وأبشع حملة صليبية/صهيونية عرفها التاريخ منذ قرون، أو ربما هي المرة الأولى والوحيدة التي عرفها بهذا الشكل، وذلك بتواطئ مفضوح مع الأنظمة العربية الخائنة والعميلة. وفي هذا الزمن أيضا تعرف فيه الشعوب العربية أفظع عملية استغباء واستخفاف يمكن أن يمارسها حاكم على شعبه، وأصبحت تتجاوز في فظاعتها ذلك الاستخفاف الذي مارسه فرعون على شعبه فأطاعوه، وضع مزر ومأساوي مثل هذا يستدعي من علماء الأمة أن يبذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ هذه الشعوب من وطأة الاستبداد، وأجواء الاستخفاف والاستحمار.. والتركيز على ما يرفع وعيهم، وينمي فكرهم، ويحرك هممهم .. ولكن ماذا نجد عند هؤلاء العلماء من اجتهادات وفتاوى لهذا الزمان؟
علماؤنا المبجلون يرون كل يوم كيف يفتك المحتل الغاصب بأهل غزة، وكيف يقتلون ويذبحون ويشردون ويجوعون ويبادون.. أمام أنظار العالم ودعم الغرب الصليبي، بتواطئ مع الأنظمة العربية الخائنة.. ولكن بماذا يتحدث هؤلاء العلماء الكبار؟ وما هي اهتماماتهم ووجهتهم؟ وطبعا لن أتحدث عن أولئك العلماء الذين ربما لا يعلمون بوجد حرب مستعرة على أرض فلسطين المحتلة، فمن العيب أن نزعج هؤلاء ونوقظهم من نومهم الطويل.. فهم خارج موضوعي كما أنهم خارج الزمان والمكان، فلنتركهم في عالمهم العلمي والفقهي الخاص..
هناك سؤال يروج في وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام البئيسة؛ هل يجوز لمن مسح على جواربه في الوضوء أن يؤم الناس في الصلاة؟ هذا سؤال طرح خلال هذه الأيام، والعالم المبجل تحمس للجواب بذكر الاجتهادات ذات الصلة والتوجهات في الفقهية ودليل كل مذهب.. وهكذا!!
وقس على هذه الأسئلة التي حركت همم العلماء ودفعتهم إلى الاجتهاد والبيان والفتوى والتصدي لها بالأجوبة الدامغة المفصلة نذكر :
هل التعصيب في الإرث له دليل شرعي في الكتاب والسنة؟
هل آيات الإرث صالحة لهذا الزمان مع تطور الحياة وتغير وضع المرأة الاجتماعي والاقتصادي؟
هل يجوز منع التعدد في الزواج؟
هل يجوز تجريم زواج القاصرات؟
هل يجوز رفع التجريم عن الشذوذ الجنسي والعلاقات الرضائية؟
وغير ذلك من الأسئلة التي تورط فيها العلماء وتبعهم فيها مثقفون وسياسيون دون إدراك عميق لخلفيات هذه القضايا وأبعادها ودورها السياسي والثقافي والفكري..
الغريب إن هؤلاء العلماء قد يتطوعوا لخوض غمار هذه القضايا تلقائيا والدخول في معاركها وبمبادرة شخصية من بعضهم بهدف الدفاع عن الإسلام وشرائعه وقيمه التي يستهدفها العلمانيون والإباحيون والمتغربون… وفي الوقت نفسه تجدهم يفرون من مواجهة بعض الأسئلة الحقيقية من قبيل؛
هل يجوز للحاكم أن يجمع بين التجارة والحكم؟
هل يجوز للحاكم أن يحتكر تجارة معينة ويبيع سلعتها بأثمنة باهضة هي الأعلى في العالم؟
هل يجوز تدمير بيوت السكان من طرف السلطة وتشريدهم دون إعلامهم وتعويضهم؟
هل يجوز أخذ الناس بالشبهة وإخضاعهم لممارسة حاطة بالكرامة واتهامه والحكم عليه ظلما؟
هل يجوز إهدار أموال الشعب في مجالات لا تنمية ولا منفعة فيها؟
هل يجوز انتهاك حقوق الإنسان ومصادرة حرية التعبير؟
أما الغياب العجيب فهو المتعلق بالقضية الفلسطينية والحرب على غزة التي تدور رحاها الآن.. وللعالم نفسه ولغيره من علمائنا المبجلين أطرح الأسئلة التالية؛
هل يجوز للحكام المسلمين أن يطبعوا ويبرموا عقودا ومعاهدات سياسية وعسكرية واقتصادية مع المحتلين؟
هل التطبيع مع الكيان الغاصب حلال أم حرام؟ هل يندرج هذا التطبيع في الموالاة مع اليهود والنصارى؟ أم له حكم شرعي آخر؟
هل يجوز عقد اتفاقيات سياسية واقتصادية وعسكرية مع الكيان الغاصب في وقت يقوم هذا الأخير بقتل وذبح المسلمين في الأرض المحتلة؟
هل يجوز أن يقف حكام المسلمين موقف المتفرج أمام الإبادة التي يتعرض لها إخوانهم المسلمون؟ أم عليهم واجب الدعم والنصرة؟
فبدل أن يتصدى العلماء الكبار لهذه القضايا العظيمة والآنية والملحة، تجدهم شدوا الرحال إلى قضايا هامشية أو تافهة، وفي أحسن الحالات هي قضايا ليست لها الأولوية أو الأهمية التي للقضية الفلسطينية والاستبداد والفساد الذي فرضته الأنظمة الحاكمة على شعوبها، فاستخف بهم وقهرتهم واستغلتهم وخدرتهم ودجنتهم حتى أفقدتهم كرامتهم ووعيهم وعزتهم وهضمت حقوقهم ونهبت ثرواتهم..
كان من الممكن أن تؤجل تلك القضايا – على أهميتها كما يبدو للبعض- التي شغلت بال هؤلاء العلماء وألهتهم عن القضايا ذات الأولوية وذات الأهمية، إلا أنهم سقطوا للأسف الشديد في مصيدة ولعبة الأنظمة المستبدة، وساهموا عن وعي أو عن غير وعي في إلهاء الشعوب الضائعة والمستضعفة..
حال وواقع علمائنا هو جزء من وضع عام يرخي بظلاله على العالم العربي والإسلامي، ولا سيما في المجال الثقافي والفكري والعلمي، حيث هيمنت على الفضاء العام ثقافة التفاهة والابتذال الفني والأدبي والإعلامي، وصلت في طغيانها وجبروتها إلى مستوى طغيان وجبروت الحكام، فلم يستطع العلماء مجاراة هذه الظواهر القاتلة، ولم يطوروا أنفسهم بالشكل والمستوى الذي يؤهلهم إلى مدافعة ثقافة التفاهة، فأصبحوا تابعين غير متبوعين، ومحكومين غير حاكمين، إلا القليل منهم الذين لا صوت لهم يرفع، ولا كلام لهم يسمع، ولا رأي لهم يُتَّبع.. فأصبح العالم على هامش الدولة والمجتمع، جالس على كرسي الاحتياط، ولا يستدعى إلا عند الحاجة والضرورة القصوى، لتبرير عمل، أو البحث عن حكم يجاري عمل الحاكم، أو التصدي لما لا دور له في رفع وعي الناس واستنهاض الأمة، إذا لم يكن لهم مساهمة حقيقية وعملية في إطالة نومها وسباتها..
أتمنى إن يتلقف أحد العلماء هذه الكلمات، وتجد عنده بعض الوقت بين ركام انشغالاته العلمية والفقهية ختى يتأتى له الإجابة عما تحمله من أسئلة، أتمنى ذلك..