الوطنجية والوطنجيون
الحلقة الثانية
عبد المولى المروري – كندا
2/ أساتذة جامعيون وطنجيون:
فمذهب الوطنجية لا يقف عند بعض الصحفيين والإعلاميين والمدونين الذين تميزوا بفحش الكلام، ودناءة العبارات، واعتماد التشهير والفضح وانتهاك الحياة الشخصية كوسيلة فتاكة لضرب النشطاء السياسيين والحقوقيين، بل امتد إلى بعض الأساتذة الجامعيين الذين ولجوا وسائل التواصل الاجتماعي، و فُتِّحت لهم أبواب المنصات و المواقع الإلكترونية على أوسع نطاق، فأسلوب هؤلاء يختلف عن الزمرة الأولى من حيث نوعية الخطاب والفئة المستهدفة به، مع الاحتفاظ – طبعا – بمضمون مذهبهم وأهداف توجههم..
يمكن أن نطلق على الفئة الثانية اسم «مثقفي الوطنجية»، فهم يوظفون مفردات ومصطلحات أكاديمية مأخوذة في معظمها من معاجم وكتب القانون الدولي، والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، كي يظهروا بمظهر النخبة المثقفة، والأكاديميين الموضوعيين، والملتزمين بمنهج علمي صارم في التحليل والنقاش، مع محاولة وضع مسافة الأمان، والابتعاد ما أمكن عن أسلوب وخطاب وطنجية الإعلام والصحافة الذي ينهل جل أصحابها من معجم الشارع الساقط، إلا أن هؤلاء الوطنجيين المثقفين – في نهاية الأمر – هم عبارة عن أبواق للدولة العميقة والسلطوية السياسية في مجال العلاقات الخارجية، تروج وتفسر خطابها الضعيف في المنتظم الدولي، وتبرر مواقفها المتخاذلة والمرتبكة في العديد من القضايا، وأهمها القضية الفلسطينية.. حتى لا يتسبب ذلك ربما في ارتدادات داخلية غير مضمونة النتائج..
و قد اشتغل «الوطنجيون المثقفون» على عدة مواضيع تشغل بال المغاربة بنسب متفاوتة، في محاولة منهم لتبرير خطاب الدولة ومواقفها وقراراتها، والترويج لها داخليا على أساس أنها إنجازات عظيمة واستثنائية، وتعبر عن العبقرية والنضج وإلى غير ذلك من العبارات والأوصاف المدغدغة لمشاعر المواطن البسيط والسطحي، ومحاولة امتصاص غضب فئة من الشعب الذين هم على درجة معينة من الوعي، وكذا التصدي لاتجاهات معارضة أو مخالفة لأطروحة الدولة في هذه القضايا.. ونذكر منها:
أ – التطبيع: عندما قامت الدولة بالتوقيع على الاتفاق الثلاثي ب”استعمال” رئيس الحكومة آنذاك الدكتور سعد الدين العثماني، خلَّف ذلك صدمة عنيفة في وجدان الشعب المغربي المتضامن تاريخيا ومبدئيا مع الفلسطينيين، والرافض لكل أشكال التطبيع مع الكيان الغاصب، ورغم المحاولات التي قام بها الإعلام الرسمي لتبرير التوقيع، وذلك بربط هذه العملية باعتراف ترامب بمغربية الصحراء، ظل الرفض والاستهجان سيد الموقف لدى عموم الشعب المغربي الحر..
فكان من اللازم أن تستعين الدولة بكتيبة الوطنجيين المثقفين من الأساتذة الجامعيين على وجه الخصوص، من ذوي الاختصاص في القانون الدولي والعلاقات الدولية.. وعقدت لهم ندوات ولقاءات، وفتحت لهم القنوات والمنصات.. وحاولت أن تبرر اتفاقية التطبيع بما يلي:
- التطبيع انتصار سياسي كبير بعدما حقق للمغرب اعترافا «رسميا أمريكيا» بمغربية الصحراء، وقعه ترامب، وهو انتصار الديبلوماسية المغربية بانتزاع تأييد الاقتراح الرامي إلى منح الحكم الذاتي في أقاليمنا الصحراوية.. سيتوج هذا الاتفاق بإحداث قنصلية أمريكية بإحدى المدن المغربية الصحراوية..
- التطبيع جاء لدعم القضية الفلسطينية وحفظ حقوق شعبها، ولا سيما الحق في إنشاء دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس في إطار مشروع الدولتين..
- التطبيع مع الكيان سيجلب استثمارات كبيرة سيستفيد منها المغرب اقتصاديا.. وتوج ذلك بتوقيع عشرات الاتفاقيات التجارية والاقتصادية..
- التطبيع مع الكيان سيحقق نوعا من التوازن العسكري في المنطقة أمام تهديدات الانفصاليين والجزائر.. في إطار حلف عسكري وأمني بين الأطراف الموقعة..
طبعا، ووفق المهمة الموكلة إليهم، فالأساتذة الجامعيون من فئة الوطنجية لم يدخروا جهدا من أجل شرح وتوضيح كل هذا الكلام، والتسويق له في الداخل المغربي، باستهداف فئة الشباب على وجه الخصوص، الذين لم يعيشوا فترات الصراع العربي/الصهيوني، مستغلين قلة زادِهم من المعرفة بتاريخ تلك الحقبة، أو يجهلونه تماما، وكذا استهداف فئة من المغاربة الذين أرهقهم الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ولم يعد لهم استعداد فكري ونفسي لتتبع ومناقشة هذه «القضايا المعقدة» في نظرهم، فعمد الوطنجيون المثقفون إلى استدعاء معلومات تاريخية ناقصة في هذا الصراع، وعرض محطات سياسية حرجة بطريقة محرفة، أو مزيفة.. مع استحضار ما يصطلح عليه ب«الخطاب الواقعي»، أو «الواقعية في التحليل» أو البراغماتية السياسية، وغير ذلك من المفاهيم والعبارات والمصطلحات الطنانة من أجل التأثير على عقل المغربي، مع إبراز كَمَّ المنافع الاقتصادية التي ستعود على المغرب من جراء هذا التطبيع باستغلال ظروفه المعيشية الصعبة، وأخطر ما حاول الأساتذة الوطنجيون تمريره، هو غرس فكرة مسمومة وبمنتهى الخبث، مفادها أن الاعتراض على التطبيع فيه تهديد للوحدة الوطنية وضد المصالح العليا للبلد، وبالتالي كل من عارض التطبيع فهو في زمرة الخونة، وله ولاء لأعداء الوطن.. الأمر الذي يستدعي محاربتهم والتصدي لهم بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة..
هذه الفكرة الخبيثة هي محاولة لتسفيه آراء وأفكار تيار الممانعة من سياسيين ومثقفين وحقوقيين المعارضين للتطبيع، وقد يصل الأمر إلى تحريض جهات أمنية قصد التضييق عليهم، أو كتائب الوطنجية الإعلامية قصد القيام بمهمة التشهير والسب والقذف ضدهم.. لأن الممانعين يعملون على فضح التطبيع لما يحمله من خيانة سياسية للقضية الفلسطينية، وخطورة على النسيج الاجتماعي والاقتصادي الوطني، ناهيك عن الانحرافات الثقافية والأخلاقية التي تصاحب أي علاقة تكون مع الكيان الغاصب.. حتى إذا ما حاول شرفاء الوطن تِبْيان مخاطر التطبيع للرأي العام، ولا سيما الشباب، فإن الوطنجيين من هؤلاء يسعون جهدهم من أجل صناعة جيل مضلل سياسيا ومشوه ثقافيا حتى لا يتأثروا بكلام الحق والحقيقة، ويبتعدوا عنه لصالح كلام الوطنجيين وأطروحة الخطاب الرسمي..
لا يمكن إنكار أن مشروعهم المضلل هذا نجح بنسبة معتبرة خلال الفترة الممتدة بين التوقيع على الاتفاق الثلاثي وأحداث 7 أكتوبر بقطاع غزة، ويبدو أن طوفان الأقصى نسف بنيان الأطروحة الرسمية ومنهجية الأساتذة الوطنجيين من الأساس، وجعل منه ركاما بعضه فوق بعض.. رغم المحاولات البئيسة واليائسة التي تهدف إلى شيطنة المقاومة والتشكيك في أهدافها وقدرتها على تحقيق النصر، بل لم يخف بعضهم تعاطفه وتضامنه مع الكيان الغاصب، معتبرا ما قامت به المقاومة هو عملية إرهابية وجريمة ضد الإنسانية.. دون أن يكلف نفسه النظر في جرائم الإبادة التي يقترفها العدو في كل وقت وحين.
ب – واقع حقوق الإنسان والتقارير الدولية: وهذه من القضايا المحرجة للدولة المغربية على المستوى الدولي، خاصة بعد صدور العديد من التقارير الدولية التي تتهم المغرب بانتهاكه لحقوق الإنسان والتضييق على حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير..
فدور الأساتذة الجامعيين الوطنجيين هو تبييض وجه الدولة المغربية في هذا الجانب، وذلك بالتسويق لما يلي:
- أن المغرب دولة ذات سيادة واستقلالية، وبذلك يرفض أي تدخل كان ومن أي جهة كانت.
- أن المغرب صادق على العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تدعو إلى احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير وحرية الصحافة، وقد قام بدسترة هذه الحقوق في دستوره، ولذلك فهو لا يقبل المزايدة عليه في هذا الشأن..
- أن «الادعاءات» التي تدعيها بعض المنظمات الدولية والمؤسسات الرسمية الغربية من خلال تقاريرها المغرضة هي حملة كيدية واستهداف للدولة المغربية، ومؤامرة خارجية تحاول محاصرة المغرب والتطاول على سيادته، وضرب مصالحه..
- أن المحاكمات التي عرفها المغرب هي شأن داخلي، وكانت عادلة ووفق القانون، والأحكام الصادرة كانت منسجمة مع قواعد المحاكمة العادلة ووفق المساطر القانونية السليمة..
لقد بدل الأساتذة الوطنجيون مجهودا جبارا واستثنائيا من أجل تبييض الوجه الحقوقي للمغرب الذي غلب عليه اللون الرمادي القاتم في مناسبات عديدة، وعقدوا لذلك العديد من اللقاءات الصحفية، والمقابلات والندوات، كي تردد خطابا واحدا، وتروج لوجهة نظر واحدة، مفادها: لا انتهاكات حقوقية، ولا اعتقالات تعسفية، ولا محاكمات غير عادلة، ولا خروقات مسطرية.. وصوروا المغرب على أنه دولة وردية ومدينة فاضلة..
محاولات يبدو أنها لم تحقق أهدافها المسطرة، بعد أن فشلت في تغليط الرأي العام الوطني والدولي أمام مجموعة قليلة من المناضلين الحقوقيين الذين صمدوا في وجه هذه الحملات والمخططات التي تحاول إخفاء واقع حقوقي مرير، ولا أدل على ذلك تقهقر ترتيب المغرب في مراتب حرية التعبير وحقوق الإنسان ومحاربة الفساد والتنمية… وظلت التقارير الدولية صامدة في وجه الدعاية التي يخوضها الوطنجيون، في غياب ما يناقضها أو يدحضها..