آلية العقلنة البرلمانية ومطلب دمقرطة تسييد الدولة / الطبقة
مصطفى المنوزي – المغرب
رئيس أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي .
تفاعل كثير من المهتمين مع الرسالة الملكية الموجهة إلى المحتفين بذكرى تشييد ومأسسة العمل الإستشاري / البرلماني ؛ فمنهم من اعتبرها تنبيه إلى الهشاشة التي بلغتها هذه المؤسسة بمجلسيها بسبب سلوكات المنتخبين نوابا ومستشارين ؛ ومنهم من صنف الرسالة بمثابة نقد ذاتي للدولة بجميع مكوناتها وتعبيراتها ؛ وإن كنا لا نرى غاية مفيدة من التمييز بين المؤسسات والمنتخبين ؛ باعتبار أن السلوكات المؤسستية معرضة للأخطاء وبنفس القدر يفترض أن المسؤولية تثار في جميع الحالات ؛ ففيها ما هو مرفقي أي مصلحي تتحمله الدولة ؛ وفيها ما هو شخصي يساءل بصدده المنتخبون سياسيا وقانونيا . ولأن الأمر لم يكن يحتاج إلى كثير تشخيص وافتحاص ؛ فما يؤرق الدولة المغربية في شخص رئيسها هو مخافة تفاقم الوضع نحو ما لا يمكن إحتواؤه ، وقد عشنا منذ سنوات الرصاص حالات اضطر فيها العقل الأمني إلى ضرورة إجراء حملات تطهيرية توقف النزيف ، حملة طارئة تستهدف التشذيب دون إستئصال جذور الفساد ومظاهر الإستبداد ؛ في صيغة حرب قانونية أهلية تخص موظفي الدولة في كل السلاليم ، عموديا وافقيا ، وبموازاة مع بعض الإصلاحات السياسية الرمزية غير العميقة .
وقد فطن النجباء إلى أن هناك تحضيرا لإنتقال ما ؛ وفعلا تحققت التوقعات بتجسير الإنتقال السياسي من عهد إلى عهد عبر بوابة التناوب التوافقي ؛ فهل سيتكرر السيناريو بتدشين إنفراج جديد بتخليق الحياة العامة وتصفية البيئة الحقوقية والأجواء السياسية ؛ وإذا كانت الرسالة الملكية قد ركزت على أهمية بلورة مدونة الأخلاقيات البرلمانية ؛ قياسا على مدونة الأخلاقيات القضائية ؛ فإن السؤال ينبغي أن يطرح ليس فقط على جدية العملية التخليقية ، ( تمييزا لها عن الحملة التطهيرية والتي كان لها ضحايا كثر و أكباش فداء عديدون ) ولكن وجب التركيز أساسا على جدواها ” الدستوري ” فالمطلوب إذن ؛ توفير إرادة سياسية حقيقية تروم إفتحاص الوضع إفتحاصا دستوريا ، وليس فقط بعث رسائل تحذير في كل الجهات، وذلك بغية إستخلاص حلول للأزمة العامة التي تعرفها الحياة السياسية في العلاقة مع وتيرة إشتغال المؤسسات العمومية والدستورية ؛ وفي نظرنا لا يكفي البحث في النتائج، بل في معالجة الأسباب الجذرية العميقة ؛ فالأزمة بنيوية متوارثة منذ تبني الدولة المغرب لخيار الديمقراطية التمثيلية ، في ظل مجال سياسي مغلق يخشى اللايقين ولا يطلق العنان للمشاركة السياسية التنافسية الحقيقية ؛ ولذلك وجب تجويد التمحيص وعقلنة التشخيص في الهندسة الدستورية للنظام السياسي المغربي ، الذي وإن” سمح ” في توسيع مجال التشريع لفائدة مؤسسة البرلمان بمجلسيه ؛ فإن السلطة التنفيذية برأسيها تطوقها فوبيا الإنفلات وعدم الضبط ، لذلك ظلت تمسك على جمر ” المبادرة التشريعية” بتكريس إحتكارها عن طريق ما يسمى بآلية ” العقلنة البرلمانية ” ، والتي تهدف الحد من نفوذ القدرة التشريعية والرقابية لدى البرلمان بعلة ” ترشيد المحاسبة وصناعة القانون ” رغم أن الخلفية الحقيقية لدى العقل الأمني لمركب التحالف الطبقي ، هي ضمان الإستقرار الحكومي ؛ بعيدا عن جدية المساءلة البرلمانية للحكومة ومساءلتها سياسيا . إنه فعلا إحتكاك سياسي بين سلطتين إحداهما صاحبة الإختصاص الحكر في مجال القانون والثانية تستعمل آلية العقلنة البرلمانية للحد من المبادرة التشريعية ؛ ولذلك وجب تعديل المطلب / العرض السياسي للدولة ؛ فهل هي في حاجة إلى تخليق مسلكيات موظفي مؤسسة تابعة لها ؛ لتماهي الصلاحيات والمسؤولية في ظل فصل ” دستوري ” للسلط ولكن بتعاون بعضها مع بعض عوض إستقلال بعضها عن بعض ؛ تحت إشراف مؤسسة دستورية تعتبر جميع المجالات السياسية محفوظة لديها بدعوى أنها فوق الصراع ( سنعود للتفصيل لاحقا في هذه الظاهرة البنيوية لنظام يشتغل بمنطق التكيف بدل التحول ) .
إن الهدف الخاص لهذه المقالة هو التأكيد على أن المطلوب ليس فقط تخليق الحياة البرلمانية ولكن ضرورة إعادة طرح مطلب الديمقراطية التمثيلية ومدى جدواها على المحك وكذا طاولة الحوار العمومي ، وهي الديمقراطية كوسيلة خاضعة قواعد لعبتها لحتمية الخريطة الإنتخابية المؤطرة بهاجس التقطيع السياسي . من هنا وجب الوعي بأن العقدة تكمن في عقيدة العقلنة البرلمانية والتي تؤطر كل عمليات إحتكار صناعة القرار الأمني والتشريعي ، والذي يجسده مظهر تحكم السلطة التنفيذية ( الحكومة وزارة المالية ) في صناعة القرار المالي عبر قانون المالية وعبر التوجيهات العامة لمجلس الوزراء ، لأن كل قرار مالي هو أمني قبل أن يكون سياسيا ، فلنتذكر أن العملية الإنتخابية في كليتها رغم تسميتها بالتشريعية فما هي إلا وسيلة لتوفير المناخ / الفرصة لإختيار رئيس الحكومة من بين الحزب الأغلبي ، والذي سيتولى إقتراح الوزراء / أعضاء الحكومة ، ولا يهم ممن تتكون الأغلبية البرلمانية المساندة للأغلبية الحكومية ؛ لإنعدام التأثير على مسار الخيارات العظمى للدولة ؛ وليتجلى في آخر التحليل بأن الدولة تبادر بين الفينة والأخرى إلى تقويم سياسيتها وتأديب موظفيها ومحاسبة المساهمين فيها ؛ فليست الدولة جهازا فقط بل هي الطبقة السياسية نفسها تهيمن إقتصاديا وتسيطر سياسيا ، وفي ذلك تكمن الصعوبة للحديث عن فصل حقيقي للسلط والمجالات بما فيها فصل المال عن السياسة ؛ وهو مطلب تم تهريبه بحذفه من مسودة دستور 2011 ، بتواطئ من دعاة الشرعية الدينية حتى لا نقول السلطة الدينية ، وقد بينت التجربة أن الدولة تستنجد بآلية التوزانات وبآلية التقليم الذاتي خدمة لمنطق التكيف في إنتظار التحول ، في حين تظل النخبة رهينة اللحظات الوطنية ( شبه الإجماعية ) المبررة لكل تأجيل قسري للحظة الديمقراطية (التعددية والتشاركية ) .