الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

تحرير فلسطين

بين انقلابين

عبد المولى المروري – كندا 

بعض الأنظمة العربية لم تعد تدرك الطبيعة الحضارية للقضية الفلسطينية وما ينتج عنها من حروب مستمرة، وهذا ما يفسر سوء تموقعها في هذا الصراع.. 

فبعد أن كان الصراع في بدايته يتمثل في احتلال قوى غربية استعمارية للأراضي الإسلامية والعربية، والتي كانت تهدف وما تزال إلى المزيد من تمزيق وإضعاف العالم الإسلامي والعربي، تحول في عهد الحكام العرب الحاليين إلى نزاع حدودي بين دولة «إسرائيل» التي حظيت باعتراف دولي وعربي، ودولة فلسطين التي تعاني من اعتراف مختل وناقص من طرف الأنظمة العربية، ولم تحظ إلى حدود اليوم بالاعتراف الدولي نفسه كالذي حظي به الكيان المحتل.. 

هذا الانقلاب في فهم طبيعة الصراع، وإخراجه عن بعده الديني والفكري والحضاري هو الذي يفسر هرولة بعض حكام الأنظمة العربية إلى الاعتراف بالكيان المحتل وإبرام اتفاقيات التطبيع معه في تصادم واضح مع طبيعة الأشياء ومنطق الصراع وجوهر الدين.. رغم ما يحمل ذلك التطبيع من ويلات ويجر من آفات على الشعب الفلسطيني وشعوب دول الأنظمة المطبعة.. وما وقع لكل من مصر (اتفاقية كامب ديفد) والأردن (اتفاقية وادي عربة) عنا ببعيد.. 

كان من أهداف هذا الانقلاب الخبيث على طبيعة الصراع في القضية الفلسطينية هو تحريف معناه وحقيقته لدى الأجيال الحالية والقادمة، وغسل أدمغة العرب والمسلمين منه، وإعدام القضية إلى الأبد، حتى لا يبقى منها شيء في ضمير الأمة ووجدان الشعوب المتعلقة بالمسجد الأقصى.. وتحريف أنظارهم المتجهة نحو أولى القبلتين وثالث الحرمين إلى وجهة أخرى.. أي إلغاء البعد الديني لقضية القدس والمسجد الأقصى، فتصبح القضية باردة في النفوس، لها حيز ضيق جدا من اهتمام الشعوب العربية.. إنها ليست عملية تخدير موضعي لجزء من الدماغ العربي، بل هي عملية استئصال كلي للخلايا العصبية التي تعطي إشارات الاهتمام والتعاطف والنضال إلى القلب والعقل والجوارح.. حتى تتعطل هذه الأعضاء عن وظائفها والمطالبة بتحرير الأقصى.. 

هذا ليس تحولا بسيطا في فهم واستيعاب طبيعة الصراع، إنه انقلاب جذري هَمَّ البعد الديني والسياسي والفكري .. وانقلاب حضاري شامل في الفهم الذي أصبح مختلا، والفعل الذي أضحى معتلا، والتموقع الذي انتهى فاسدا ومضرا انتهجه حكام الأنظمة العربية المطبعة، حتى عادوا لا يميزون بين العدو والحليف، بين المحتل وأصحاب الأرض، بين المعتدي والضحية، هي حالة من عمى البصر والبصيرة، لذلك ترى هؤلاء الحكام يقبلون على الشر والخطر فيرونه خيرا ونجاة، وينفرون من الخير والنجاة ويرونه شرا وخطرا، وأصبح دفاع الفلسطيني عن أرضه إرهابا وإجراما، وعدوان الكيان واحتلاله للأرض دفاعا عن النفس، وباختصار أضحى في عهدهم الحق باطلا، والباطل حقا، إلى درجة أنهم ربطوا وجودهم مصالحهم الشخصية بالتطبيع والكيان، ضدا على مصلحة الفلسطينيين ومصالح شعوبهم.. وهذا ما يؤكده الخطاب المباشر الذي وجهه نتنياهو إلى الحكام العرب آمرًا إياهم بالصمت!! 

إن الانقلاب الذي عرفته القضية الفلسطينية بالشكل الذي بينت أعلاه هو الذي يفسر رفض بعض الأنظمة العربية المطبعة التصويت لصالح فرض عقوبات على الكيان المحتل بسبب الجرائم الوحشية التي يقترفها في حق أهل غزة.. وهذا الرفض هو الذي يحفز الاحتلال على اقتراف المزيد من أعمال القتل والإبادة الجماعية بعد أن أمن واطمأن على نفسه بسبب وجود أنظمة عربية تحمي ظهره وتغطي على جرائمه .. في وقت قامت بعض دول أمريكا اللاتينية (التي لا تربطها بالشعب الفلسطيني لا علاقة دين ولا علاقة دم ولا رابطة أخوة) بقطع علاقتها مع الكيان والدعوة إلى رفع دعوى قضائية لدى المحكمة الجنائية الدولية ضد الكيان وأعضاء حكومته بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية..

وهذا الانقلاب هو الذي يفسر أيضا قيام الأنظمة العربية المطبعة بمنع كل المظاهرات التضامنية مع فلسطين والمنددة بالجرائم الصهيونية، بل امتد المنع إلى رفض حمل الأعلم والكوفية الفلسطينية في الشوارع والملاعب، وهو الذي يفسر إغراق القنوات التلفزية المحلية بأنشطة ترفيهية وبرامج تافهة في الوقت الذي يعيش فيه أطفال غزة تحت قصف القنابل الفسفورية الحارقة، ويقوم الاحتلال بتهجير أهل غزة تهجيرا جماعيا قسريا.. ضدا على كل القوانين الدولية.. 

يبدو أن معركة طوفان الأقصى تسببت في صدمة عنيفة للأنظمة العربية المطبعة  أكثر من الكيان المحتل نفسه، ووضعت حكامها في موقف مذل ومأزق مهين.. ذلك أن هذه الصدمة جاءت ضد الاتجاه الذي سلكه قطار التطبيع العربي/الإسرائيلي تحت الرعاية الأمريكية، هذا القطار الذي اقترب من محطة العربية السعودية.. فتسببت له في توقيف اضطراري، وربما تعطيله لفترة طويلة، في انتظار إعادة ترتيب الأوراق وإصلاح الأعطاب التي لحقت بالقطار السريع الذي انطلق بعد التبشير بما يسمى بصفقة القرن.. هذه الصفقة التي وجه لها طوفان الأقصى صفعة القرن.. 

وإذا تسببت معركة طوفان الأقصى في خسائر بشرية ومادية واقتصادية للكيان المحتل، وهزائم مدوية في الميدان والإعلام، وعزلة دولية شعبية كما هو واضح في شوارع أوروبا وأمريكا وكل القارات.. فإن الأنظمة العربية المطبعة هي الأخرى لحقها ما لحق الكيان من خسائر معنوية وهزائم مذلة أما شعوبها والرأي العام الدولي المتضامن مع الشعب الفلسطيني.. وأصبحت معزولة عن شعوبها التي اصطفت إلى جانب القضية الفلسطينية، ونددت بالتطبيع إلى جانب العدوان والاحتلال باعتبارهما شيئًا واحدا لا ينفصلان.. 

إن تحرير أرض فلسطين، كل فلسطين، من قبضة الاحتلال الصهيوني المدعوم والمحمي أمريكيا وأوروبيا لا ينفصل عن تحرير شعوب الوطن العربي من قبضة الأنظمة القمعية والاستبدادية، ولا سيما العميلة والمطبعة منها، بل إني أعتبر أن تحرير الشعوب العربية هو أحد المقدمات الحضارية الكبرى الضرورية لتحرير فلسطين والمسجد الأقصى .. لذلك فلن تعود القضية الفلسطينية إلى طبيعتها الأصلية وموقعها المركزي في قلب القضايا العربية والإسلامية إلا بانقلاب على هذا الانقلاب الذي أصيبت به القضية بسبب التطبيع وتداعياته.. 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات