وطن للبيع
مبارك المتوكل/المغرب
البائع يربح والشاري يربح. ’’أَلاَ أُون أَلاَ دُِوي أَلاَ تْرِي’’ فتح المزاد: أرض عارية لا مالك لها في أقصى الغرب يمكن تعميرها بعد تنقيتها من الكائنات الدونية التي دخلتها دون استئذان، وأرض أخرى في الشرق مساحتها أقل غير أنها قاحلة لا ماء فيها ولا شجر، يستطيع من يحلم بتملك أرض أن يدخلها كأرض لا مالك لها، ليتخذها وطنا خاصا به لأنه أولى بها على أن يعد بدفع الثمن سلوكا ومواقف عند الحاجة.
وحيث أن الأوطان سواء في الشرق أو في الغرب لم تطرح قط يوما للبيع، فقد عقد المزاد خلسة على طريقة اللصوص في كل العصور وفي كل الأصقاع بين أكبر اللصوص الذين سرقوا في واضحة النهار لا مبالين بمن يحتج، لأنهم أقوياء تمكنوا بوقاحة وصلف من احتلال الصدارة في المنتظم الدولي ومجلسه الأمني الذي يتمتعون فيه بحق الفيتو -اعتراض- بواسطته يستطيعون عرقلة كل قرار لا يمكن حليفهم وصنيعتهم من “الدفاع عن النفس”، لأن تلك الأرض التي زعموا أنها كانت في حاجة إلى من يعمرها لم تكن خلاء أو مأهولة بشعب لا يملك مهارة ولا قدرة على الصمود كما اعتقدوا، بل ظهر أن لها أهل لهم ثقافة، وحضارة أجدادهم كانت مصدرا للعلم والمعرفة، وكانت أرضهم منبع العقائد والديانات، وبها ظهر معظم الأنبياء وإليها هاجر موسى هاربا من بطش فرعون، وعبرها عبر إبراهيم بابنه إلى البيت، واتخدها الإسلام قبلته قبل البيت العتيق.
وإذا كان هولاء أبناء إسرائيل، وكان إسرائيل حسب الروايات من صلب إبراهيم، فلماذا يمنعون الخضوع للتجارب العلمية “ADN” لإتباث وتأكيد نسبهم السامي وهم المتذرعون بأكذوبة “معاداة السامية” وأكذوبة شعب الله المختار المحاط بالأعداء من كل جانب، يهدده الإرهاب الفلسطيني من الداخل والعدوان السوري والخطر الإيراني من الخارج، ولا حامي لهم إلا من استطاع أن ينجز ما عجزوا عن إنجازه.
لقد استطاع حاميهم أن يحول الشعب صاحب الأرض، أو من تبقى منه إلى الإقامة في محميات يمنع عليه الخروج منها، و وظف ضده كل أدوات التجهيل والتفقير والتعتيم والتعقيم حتى يبقى ذلك الشعب خاضعا صغيرا صاغرا محدود العدد عديم القدرة.
اعتقد ’’اليانكي’’ أن صنيعته وحش يستطيع أن ينجح في إخضاع “شعب الجبارين” وقد سعى إلى ذلك فحاول حشرهم في مخيمات، واستعان بحماته التاريخيين ومن سار في ركابهم، واعتمد على من ادعوا حماية المقدسات والدفاع عن الحرمات ليبني معهم تحالف الذئب والخروف عبر تطبيع هم أعلم منا ومن غيرنا من الرابح في فتح أرضنا وسمائنا ومائنا لقوم عديمي المروءة والأخلاق، وخاصة منهم أولائك الذين ادعوا الانتماء إلينا وقد عاشوا وعاش آبائهم وأجدادهم معنا فعلا كمواطنين كاملي الحقوق، ولكنهم اختاروا أن يتحولوا إلى أفاقين وقتلة أطفال ونساء وشيوخ .
لست أدري إن لم يكن ما ارتكبوه خيانة، فبما يمكن أن نسميه نحن، أما بالنسبة للقانون الدولي فحاميهم معروف. اليهود المغاربة هم أمثال الرفيق أصيدون صيون والمرحومان سيمون ليفي وإبراهيم السرفاتي، هذا الاخير الذي ابتدع له دهقان المخزن يوما جنسية أخري وأبعده على أساس أنه برازيلي، لأن والده المغربي قد قضى مرحلة من شبابه في البرازيل ولكنه ككل المغاربة الأوفياء للوطن عاد للإحتماء بظل الوطن واستنشاق هواءه لينجب فيه ابنه أبراهام .
أبراهام السرفاتي الذي اختلفنا معه واحترمناه، والذي كان احتكاكنا به محدودا في الزمن وفي ظروف القهر المشترك، لم يكن تنقيله من السجن المركزي إلى سجن لعلو مكان اعتقالنا إلا عابرا مؤقتا. كان رغم الاختلاف مخلصا للوطن حالما بإسعاد بنيه عارفا بأرضه وما تضمه في أعماقها من كنوز، وما يحمله تاريخها من أمجاد وتراث، لذلك اعتز بمن جايله ومن سبقه ممن عمروا هذه الأرض و وحدوا أهلها. اجتهد السرفاتي للسير على آثارهم رغم اختلاف المذهب والعقيدة والدين ولكن المحتد والأرض وما نعم به من خيرات الوطن كل ذلك جعله وفيا لما قام به الأسلاف عبر ذلك التاريخ الممتد قرونا قبل أن تدخل قبائل صنهاجة لصناعةالتاريخ، تلك القبائل البربرية المغربية الأصيلة التي بقيت متمسكة بوطنها المغرب رغم تصحر الأرض التي أقحلت بعد خصب وبعد أن هجرها من هجرها، ليبقي الصنهاجيون يعيشون كرحل تتمفصل حياتهم بين صراعات قبائلهم من أجل الكلأ والماء وبين إرشاد وخفر القوافل أو نهبها،خصوصا وأن قوافل التجارة البعيدة المدى التي كانت تربط بين المغرب وافريقيا جنوب الصحراء كانت تمر بأرضهم محملة بمختلف أنواع البضائع والسلع.
استطاع عبد الله بن ياسين بعد جهد أن يوحد تلك القبائل إلتي تحولت إلى حلف من المقاتلين الساعين إلى نشر القيم الدينية والاستفادة مما سيوفره انتصار هذا الدين من مصالح وموارد تعم الجميع. وما كان لهذا الهدف أن يتحقق لولا توافر عدد من الظروف والأشخاص الذين سخرتهم تلك الظروف لتحقيق تلك الأهداف. دعا يحيى بن إبراهيم الفقيه وجاج بن زلو اللمطي ليرافقه إلى الصحراء الكبرى مرشدا ومعلما لأهل تلك الصحراء التي اقتطع الإسبان جزءا منها في مرحلة ضعف الدولة المغربية سنة 1884 باسم الصحراء الغربية واستمروا في احتلالها إلى سنة 1975… لم يكن وجاج مستعدا ولا قادرا على الرحيل إلى الصحراء الكبرى ولكنه كلف تلميذه عبدالله بن ياسين بإنجاز طلب يحيى بن إبراهيم الكدالي الذي كان سيد قبيلته.
كان عبد الله بن ياسين متشددا، نفر الصحراويون من تعاليمه وتشدده في تطبيقها والالتزام بها فاعتزلهم إلى رباط بجزيرة لم يستطع المعاصرون تحديد اسمها ولا موقعها بالضبط، ولكن عددا من شباب القبائل الصنهاجية بدأوا يراجعون مواقفهم ويلتحقون برباطه فلما شعر بتوفره على ما يكفي من قوة لمواجهة باقي القبائل خرج داعيا إلى توحيد قبائل الصحراء على رأي واحد هو نشر مذهبه الذي كان في الواقع يتجاوب مع تشدد وصرامة الإنسان الصحراوي.
هذه نبدة من تاريخ صحرائنا التي تقدم جيش التحرير المغربي لتحريرها إلى أن صفي في معركة ” المكنسة” -écouvillon- التي تحالف فيها الجيشان الإسباني والفرنسي معتمدين على صمت مشبوه للنظام المخزني الذي كان حينها مشغولا بتتبيث قدمه في تحالف وتنافر مع أذناب الاستعمار، وساعيا إلى إنهاء تأثير وتفوق عناصر المقاومة وجيش التحرير.
وبعد أن استطاع التحالف المخزني المكون من بقايا مخزن العمالة للمستعمر وعناصر انسلخت عن مواقعها ومواقفها النضالية لضمان إقامة تحت الظل وبعد أن تمت تصفية العناصر المرتبطة بهموم الشعب وحاجاته من مقاومين ومثقفين عضويين ضاعت أخبارهم وأسماؤهم وقبورهم، وبعد أن هرمت القوى الاستعمارية ولم يعد في إمكانها الاحتفاظ بهذا الموقع منفردا بعد أن فقدت مواقعها في شمال إفريقيا وجنوب أمريكا، ولم تعد تلك القوة التي كان يحسب لها أكثر من حساب. حينها ظهر واقع جديد ومعه أطماع توسعية جديدة وحينها فقط وبعد أن أخلفنا مواعد عدة مع التاريخ خطر ببال المخزن أن يدخل حلبة الصراع عن طريق الأمم المتحدة ثم عن طريق المسيرة الخضراء، وباتفاق مع عناصر كانت تنتمي إلى اليسار تم القبول بتقسيم الصحراء مع موريتانيا، وبدأت حرب استنزاف ضيع فيها المغرب كثيرا من المال والجهد ولائحة من الشهداء ليصل إلى قبول اتفاق نيروبي الذي رفضه الشعب المغربي وعرقلته عناص البوليزاريو مستعينة بإعلام وأموال وسلاح جيران وإخوة أوهمونا أنهم معنا في المذهب والتوجه.
عوض أن يتم الرجوع إلى الشعب واستشارته و”توريطه ” -عذرا عن بذاءة اللفظ-ليساهم وعن قناعة وتأطير من المخلصين للوطن والقيم الرفيعة من حملة الرأي الأباة في استكمال التحرير وبناء الوطن وتنميته، اختار المخزن الاعتماد على الإمعات الطماعين المستعدين لنصرة “من أصبح”، وهم الذين تحولوا إلى مؤطرين لمن لا رأي لهم ولا قدرة على الإدراك وتمييز الغث من السمين عبر ما سمي بالأحزاب الإدارية ومن يسير في ركابها، وبتأطير وتوجيه من الولايات المتحدة ورئيسها الذي لا تزال فضائحه تتناسل لتكشف على أي نوع من البشر اعتمدنا لعقد اتفاق أبراهام، الذي بمقتضاه وعلى أساسه قررت الدولة التطبيع مع الصهاينة المغتصبين للأرض الفلسطينية بقوة القهر والسلاح بالاستراحة من الخيانات العربية وصمت المنتظم الدولي بمعظم مكوناته، بما فيها دول عربية أو إسلامية .
واستمرت الدولة في مخططاتها رغم المعارضة الشعبية، فانتقلت من التطبيع إلى أعلى درجات التنسيق في الفلاحة والصناعة والسياسة والتربية، ووصلت إلى التعاون في مجالات الاستخبارات المدنية والعسكرية، بل وصل التعاون إلى تنظيم مناورات عسكرية مشتركة يساهم فيها جيش المغرب إلى جانب جيش إسرائيل وجيش الولات المتحدة الأمريكية لتبادل التجارب عن طرق محاربة الإرهاب وكأننا نجهل من هم الإرهابيين في عرف الصهاينة .
وتأتي ثالثة الأثافي بدعوة جلاد الشعب الفلسطيني وأسوأ من عرفه العالم من انحطاط في الأخلاق وسفالة في السلوك واستعداد لسحق كل ما استطاع أن تصل إليه يده المدمرة للأرض ومن وما عليها. كيف نقبل أن توضع يد أي مغربي في يد لص وسفاك وسفاح يداه ملطخة بدم الصبية وأمهاتهم وأجدادهم وآبائهم من أهل فلسطين؟. كل ذلك مقابل اعتراف بانتماء جزء من أرضنا لأرضنا؟
لقد كان بإمكان المغرب طيلة عشرات العقود التي سخرتها الدولة ومعارضتها لتصفية الحسابات بين من يملك كل شيء ومن لا يملك إلا ايمانه وصدقه وتجربته في تأطير الشعب للنضال ضدالمستعمر الأجنبي، في وقت كانت فيه غالبية الأمة ونخبتها بكل مكوناتها في صف وكان في الصف الثاني القوى الاستعمارية وعملاؤها والمخزن الذي أعادت بناءه وتكوينه، لو أن جزءا من هذه العقود صرف في بناء وحدة الوطن وتنميته لكانت بلادنا اليوم من الدول المتقدمة، ولكنا في غنى عن إضاعة الوقت والجهد والمال في نزاعات حلها كان ولا زال بأيدينا، لو وحدنا الصفوف وصرفنا ما صرفناه من جهد وقدمنا ما قدمناه من تضحيات من أجل الارتقاء بالمواطن ورفع مستواه إلى درجة الإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى عبر تمتيعه بسائر حقوقه وتأهيله ليشارك وبشكل ديمقراطي في بناء ذاته وتنمية وطنه والاستفادة من ما ينتجه عبر ما يبذله من جهد لصالحه وصالح الأجيال المقبلة.
إن المغرب في حاجة إلى مصالحة وطنيةتجمع شمل الوطن وتوحد مواطنيه بكل معتقداتهم وميولاتهم وأصولهم العرقية وانتماءاتهم المذهبية والسياسية والعقائدية، في الوطن متسع للجميع.