شذرات من الطفولة،
بقلم: عبد الصمد الشنتوف – لندن
أزحت الستائر وفتحت الشرفة. لبثت محدقا في الفراغ. غرقت في بحر من الصمت. كنت ساهما. فكرت في أشياء كثيرة زارت مخيلتي. أحداث بعيدة تراقصت في رأسي. وفجأة تبسمت.
لمعت في ذهني ذكريات قديمة، تعود إلى زمن طفولة بريئة، زمن مدرستي الأولى بجانب الوادي والبحر.
من صدف القدر، كان أبي هو أول مدرس عرفته في حياتي. درست عنده ما يسمى أنذاك بالتحضيري في قسم مهترئ بارد، تكسو جدرانه رطوبة عطنة. كان زعيق مراكب الصيد وهدير محركاتها يتناهى إلى مسامعنا طيلة حصة الدرس.
معظم زملائي التلاميذ كانوا بسطاء ولطفاء، أبناء بحارة كادحين وأصحاب قوارب عبور بالتجديف. في المساء، كانوا يلجؤون مباشرة للمرسى بعد سماع صوت جرس المدرسة المدوي، ليتسكعوا قليلا بحثا عن سمكات ضئيلة يبيعونها لاستدرار دريهمات معدودة. والأدهى من ذلك، كانوا غالبا ما ينقطعون عن الدراسة في سن مبكرة لينتهي بهم المطاف كأطفال عمال يشتغلون في ردهات الميناء. أمر مؤسف.
لا زلت أذكر أسماء بعضهم رغم مسافة الزمن الشاسع ( عجيبة، البايو، أخريف، مسامري، رحموني، الفحصي، حداوي، زرهوني، تميمي….). لم يكن يفصلنا عن ميناء المدينة الصاخب سوى شارع واحد.
عندما كنت طفلا صغيرا اشترى لي أبي كتابا بعنوان “مختصر ألفية ابن مالك”، كتاب ما زال ماثلا في ذكرياتي، ولازمني طيلة مشواري الدراسي.
كان أبي حاملا لكتاب الله في صدره، وعاشقا لعلوم اللغة العربية إلى حد الثمالة، حتى أنه كان يحفظ الآجرومية وألفية ابن مالك عن ظهر قلب، وهي متون شعرية تضم أكثر من ألفي بيت تعنى بقواعد النحو واللغة. كان أبي متيما بالمنفلوطي ويظن أنني أشبهه. كان يريد أن يراني منفلوطيا صغيرا أقتفي أثره وأسير على دربه، لذا كان يحثني على قراءة كتاب استثقلته من الوهلة الأولى، وتأففت منه وقتذاك، انتهيت إلى خلق علاقة غامضة وشرخ واسع بيننا.
كان أبي بارعا في الإعراب إلى حد الهوس، إذ كان يعرب أي نص أو جملة يقرأها أو يصادفها في طريقه. حتى وهو عند البقال عندما تصافح عيناه عبارة مكتوبة على إحدى صناديق البضاعة، يشرع في إعرابها من أول كلمة إلى آخرها وكأنه يتباهى بذلك، مما كان يسبب لي بعض الحرج أمام الناس. مشكلتي مع الإعراب أنني لم أكن أميز بين صفتي “الحال” و”النعت”، وهذا كان يملأ نفسي ضيقا وتوترا.
حينما صرت مراهقا وبلغت سنة التوجيهي، اخترت شعبة العلوم معاكسا رغبة والدي لدراسة الأدب. عندها فقط، أدرك أبي أن لديه إبنا مختلفا ومشاكسا، يحمل في ثنايا شخصيته روحا متمردة. ربما المشترك الوحيد الذي كان يجمعنا هو ولعنا بقراءة الجرائد.
خمنت قليلا وقلت في نفسي: لقد أفنى والدي عمره في إخلاص فريد وغريب لحزب علال واقتناء جريدة العلم بشكل يومي. الشيء الذي كان يجعلني أوجه له انتقادا لاذعا، وأسخر من حزبه بتهور لافت. فيضيق صدره وتصعد فورة الدم إلى وجهه النحيل. سرعان ما كانت ترتسم علامات غضب واضح على محياه.
كان ينتابني شعور بالندم على سلوكي الأرعن، فيداهمني تأنيب الضمير. أحنق على نفسي. بعدئذ، أقوم لأطلب منه الصفح. لا يلبث أن يعفو عني بسهولة بعدما أحضن جسده الضامر وأقبل رأسه الأشيب، ليفتر ثغره عن ابتسامة عريضة وكأن شيئا لم يحدث. رحم الله أبي، كان رجلا خجولا وكاظما للغيظ.
عندما كبرت واشتد عودي، أصبحت أقتني كتب التاريخ والفكر والسياسة، فأغوص في شروحاتها. كنت أسبح بين صفحات الدين والإديولوجيا، ثم أتيه بين معانيها، متقلبا من لون إلى آخر، وكأنني أبحث عن شيء غامض. الحقيقة أنني كنت أسبر أغوار نفسي باحثا عن ذاتي وعن مآل لم أبلغه بعد.
ولما انتقلت للعيش ببريطانيا زاد تشبثي بالثقافة العربية، لاسيما حين عقدت قراني بشابة أوروبية، وكأنني خشيت أن يضيع مني شيئ لا يقدر بثمن اسمه الهوية.
سقطت في بحر الإدمان على الصحف العربية. إدمان على قراءة صحيفة “القدس العربي” خصوصا. كنت أقتني نسختي من محل “راج” بحي كولبورن غرب لندن كل صباح، فأعكف على التهامها بنهم شديد داخل مقهى لشبونة. استمر هذا الحال طيلة أكثر من عقدين من الزمن، حتى أصبحت أعرف جل أسماء كتاب الرأي والمراسلين.
لا ريب أنه ولع انتقل من أب استقلالي متسامح إلى إبن مشاكس ومتسرع في بعض الأحيان…