رواية “قالت أمي للسجان ” ليوسف الطاهري.
بين سلطة الذاكرة وألم الحنين.*
محمد امباركي. باحث في علم الاجتماع من المغرب
من الناحية السوسيولوجية، تعتبر الرواية “وثيقة سوسيولوجية “، وفي نفس الوقت مادة للبحث السوسيولوجي بل ظاهرة اجتماعية…يقول جورج “لوكاتش” صاحب النظرية الجدلية لسوسيولوجيا الرواية ” أن الفن الروائي هو تعبير غير مباشر عن الصراعات الاجتماعية القائمة مهما كان بعد ونمط الخيال(1)، كما تظل الرواية والقصة هما أقدر الفنون لاستيعاب روح الشعب والتعبير عن نضاله وتطوره، وهما الوريثان الشرعيان للملحمة القديمة”. (2)
من هنا، أعلن أن قراءتي لرواية “قالت أمي للسجان” ليوسف الطاهري ، سوف تحكمها ثلاث أسئلة :
- كيف يمكن تصنيف هذه الرواية؟ ماهو نوعها؟ سيرة ذاتية؟ رواية سياسية؟
- بأية صيغة تتشكل البطولة في النص المحكي؟ هي بطولة فردية أم جماعية؟ أية مواصفات اجتماعية لشخوص الرواية؟
- ماهي طبيعة الزمن والفضاء في النص؟ ماهي دلالاتهما السوسيولوجية؟
السجن الممتد والمتعدد..
في الحقيقة النص هو أقرب الى رواية موضوعاتية باعتبار المؤسسة السجنية هي الفضاء المركزي الذي تجري فيه رحلة الراوي (السجين السياسي) مع التعذيب والمقاومة وتدبير الصمود، سواء لحظة الاعتقال ثم الاحتجاز بالسجن بعد المحاكمة أو حتى ما بعد الخروج من السجن ومغادرة أرض الوطن حيث ظلت المؤسسة العقابية ممتدة وحية من خلال أمكنة متعددة منها الملجأ بباريس، الغرفة داخل الملجأ…وهي فضاءات بحمولة رمزية تلقي بثقلها على الراوي الذي يحاول إقناعنا بفكرة هو نفسه غير مقتنع بها، وهي أن ” السجن هو المكان الآمن وقد يعفيك من تعب الجري في دهاليز الميترو أو الارتماء في مساحات الحدائق أو حتى انتظار إحسان من أحد ” (ص37)..هنا يتعدد التمثل المركب للسجن وغنى حضوره في الرواية، بين موقف الرغبة فيه هروبا من الأفق المسدود ومحدودية الطموح والحلم، وتصوره مؤسسة للعقاب والإذلال، في مقابل القدرة على صناعة لحظات فرح وتفاؤل داخله، لكنه يبقى على مستوى الوعي الجمعي وصما اجتماعيا ” اعلم يا “ع” أنه لم تعد تربط بيني وبينك صداقة منذ الآن، ذلك لأن دخولك السجن عار على قبيلتنا المتشبثة بأصولها الشريفة ونسبها الى الرسول (ص)..وإنه بدخولك إليه تخرج والدتك من قبيلتنا، ونحن نتبرأ منك ومن والدتك لما نسبتما لنا من عار..” (ص156)..الوصم يتضاعف لما يتعلق الأمر باعتقال امرأة..
نساء الحياة، وشياطين الموت
إن هذا العمل الروائي يحيل على بطولة فردية يشكل فيها الراوي / السجين السياسي الحلقة المركزية ، هي ذات واحدة موزعة الى ذوات فرعية، بل كما يقول الشاعر والناقد “جواد المومني ” ” الذات هنا ليست غير ذات يوسف الطاهري، بل هي مضاعفة، نقلها بين أنا، أنت، هو.”(3)، لكن هذا لا ينفي تعددية البطولة من خلال الحمولة الرمزية الغنية التي أضفاها هو نفسه على شخوص الرواية، وخاصة الأم التي تشكل لوحدها عالما غنيا بدروس المحن والقدرة على مقاومة كل أشكال الإبعاد والإلغاء، في سياق عنف سياسي تتجاوز آثاره ذات السجين لتطال العائلة والمجتمع، والأم هنا هي عنوان عريض لنضال نوعي وصمود تاريخي لأمهات المعتقلين السياسيين، باعتبار فعلهن الفردي والجماعي جزء من معركة الحركة الحقوقية والديمقراطية في البلاد من أجل احترام حقوق الإنسان في الداخل والخارج…لكن لا بد من الإشارة الى المكانة القوية للنساء في السرد الروائي، باعتبارهن رموزا للعطاء والصمود، وامتلاك القدرة الاستثنائية على الانتقال من وضع “الضحية ” الى وضع يصبحن فيه فاعلات أساسيات في صناعة كل أشكال التضامن والصمود في وجه السجان بمختلف أصنافه وألوانه وفضاءاته، بدء من ” صوفي ” مديرة الملجأ بباريس والمختصة في التحليل النفسي، المرأة الثلاثينية -التي كما يصفها الرواي/ اللاجئ-، بالإضافة الى رأسمالها العلمي والمعرفي، تتوفر على رأسمال آخر، قوي وجذاب، من جمال وقوام وأنوثة بادية، وخاصة” النهدين المنتفضتان ومنطقة ما بين النهدين الصامدتين أو الممتلئتان الراغبتان في الافلات من الجسد” ( ص16- 19- 25 -31)، مما أهلها كي تتفوق في مصاحبة نزلاء الملجأ، ثم المساعدة الاجتماعية بالملجأ “سلين “، الرواندية ضحية حرب إبادة فقدت فيها كل أفراد أسرتها، اللاجئة الإيرانية “بهمنت”، شقيقة الراوي السجينة السياسية في نفس السجن والتي ضاعفت من محنة وآلام الأم لكنها ظلت صامدة في وجه إكراهات السجن الخصوصي والعمومي(ص171).
و نصادف أيضا شخوصا في الرواية وضع لها الكاتب ” بروفيلات اجتماعية مركبة ” (Profils )، تتوزع بين رفاق السجن خاصة معتقلي الحق العام الذين أولى لهم الكاتب عناية خاصة تعكس تعاطفا قويا معهم، من جملتهم : ” ط ” و”المخ ” جاره في الفراش، البدوي، “ع”….حيث عرض قصصا مؤلمة لهم داخل السجن ومع محيطهم القريب ( السجن مصدر للوصم Stigmatisation) بل كانوا أحيانا ضحايا لمعارك المعتقلين السياسيين أنفسهم حيث يشملهم هم أيضا انتقام الجلاد، وكذلك خوض نزاعات قوية وعنيفة بينهم لانتزاع مكان ورسم الحدود داخل مجال ضيق ومكتظ وغير لائق، وهنا يلتقي ” يوسف الطاهري ” مع ما قاله عالم الاجتماع النرويجي ث “طوماس ماتيزن” عن عالم السجن والسجناء ” أنه لا جدوى من الكلام عن تضامن السجناء مادام كل واحد منهم يعبر بشكل فردي عن خضوعه للمؤسسة السجنية (4) .
لكن الأقوى في ديمغرافية المؤسسة السجنية هو”بروفيل ” السجانين والجلادين، الذين وضع لهم الكاتب ” تصورات ” شبهتهم بكل ما يحيل على الشر والسادية والقلق الانطولوجي المصاحب لهم ، نتيجة تفننهم في ممارسة طقوس التعذيب كأنه عبادة، وهي الممارسات التي صنفها الكاتب ضمن ” أشكال التعذيب المنصوص عليها في تقاليد المخافر السرية والعلنية ” (ص102) : القرعة، الطيارة، الشيفون الهراوات الخشبية الغليظة والأنابيب البلاستيكية الكهربائية، هذا ناهيك عن العنف المعنوي والنفسي والزنزانة الانفرادية (الكاشو) كأقصى درجات التعذيب .. وهكذا وصفهم بكونهم :
وحوش مفترسة (83)، أعينهم الشريرة ووجوههم البشعة (174) ذئاب مفترسة (175)، يجلدون بعمق إيماني (182)، ، ضباع (182)، شياطين البطش والتنكيل ( 180)، لن يحصل لهم الخلاص من القلق الوجودي حيث كماء جاء على لسان الأم وهي تخاطب السجان ” اعلم أيها السجان أن ولدي سيأتي يوم ويفرج عنه من السجن…أما أنت فتمكث فيه الى الأبد ” (ص164)، وبالتالي فهؤلاء القساة لا يشكل السجن بالنسبة لهم فقط مجالا مهنيا، بل حيزا يسكن بنياتهم العميقة، الجسدية والنفسية…إنهم مسجونون على الدوام…
تعددية البنية السوسيومجالية للنص
لاشك أنه في مقابل تعددية الزمن غير المتكافئة حيث هيمنة الزمن “السجني” كزمن “ميتافيزيقي ” (ص171) الذي يحاول الكاتب استعادته بعد أكثر من ثلاثة عقود، وهو زمن ينتمي لفترة بداية الثمانينات حيث الحركية الاحتجاجية قوية في مناخ سياسي حيوي، يظل الفضاء المركزي للرواية هو السجن الذي يقول عنه الفيلسوف الفرنسي ” ميشل فوكو ” في كتابه “المراقبة والعقاب ” : “بالنسبة الى السجن، لا معنى للاكتفاء بالخطابات عن السجون. وإنما ينبغي الانتباه الى ما هو صادر عن السجون نفسها من قرارات وأنظمة داخلية…الصادرة عن أناس عاشوا داخل تلك المؤسسات وقاموا بتسييرها..”(5)، وعلى الرغم من السؤال الاستنكاري للكاتب “السجن غير قابل للوصف، فكيف لي أن أمكن الناس من إدراك الوضع الحقيقي لنفسية السجناء ومعاناتهم ؟ ” ( 197)، إلا أنه تمكن بكثير من النباهة وغنى اللوحة الإبداعية أن ينقل لنا تفاصيل صغيرة من داخل الغرفة الكبيرة رقم5 والزنزانة الانفرادية، وهي تفاصيل تحيل على نمط السجون الموجود في البلاد، باعتبارها كما يقول الباحث السوسيولوجي المغربي ” عبد الرحيم العطري ” هي سجون من صنف السجون “المغلقة التي تعمل على عزل السجين في فضاء مغلق يتميز بالعنف والرقابة الشديدة، ويكاد يبين ذلك في القضبان الحديدية والأسوار العالية والحراسة المشددة..”(6) ، يقول الراوي مخاطبا نفسه ” وقتها أدركت لماذا توضع أسوار السجون عالية، فلا معنى لها غير حرمان السجين من التمتع بأشعة الشمس وفصله عن الطبيعة “(ص219).
بيد أنه لا بد من الإشارة الى أن هيمنة السجن على البنية السوسيومجالية للمتن الروائي ل” يوسف الطاهري “، لا يمنع من استحضار تعدد الفضاءات الغنية من الناحية السوسيوثقافية رغم حضورها أحيان العابر، والتي تحيل على الأصول الاجتماعية لبطل الرواية ورأسماله الاجتماعي وذلك من خلال أحياء متوسطة وهامشية ( المكتب، لكرابا العليا، لمحال، سالم، الطحطاحا، شارع ابن سينا، دار الشباب)، والتي بقدر احتضانها لأسر متوسطة وكادحة قادمة من عالم الهجرة القروية الداخلية في ظل نمو حضري بطيء للمدينة وعزلة سوسيومجالية للبورجوازية المحلية في المدار القروي حيث الضيعات والإقطاعيات الزراعية الموروثة عن المعمرين، بقدر تحولها الى الوجهة الأساسية للغضب الاجتماعي وتنسيق مسارات الانتفاضة الشبابية التي بلغ فيها بطش السلطة حد استهداف الطفولة واقتحام المقابر منعا لطقوس الترحم على الشهداء..
الخاتمة …الكتابة علاج من داء التذكر المزمن !
قالت أمي للسجان ” جزء من “أدب السجون”، هي رحلة متشعبة لألم الذاكرة التي لم يتمكن السجين من النجاة من بطشها وهي التي تفترسه بتواطؤها مع الليل ولحظات الاختلاء بالنفس ” (ص150-151)، هي مرآة ناصعة لهوية مفقودة، بل ممزقة بين الشعور الداخلي بالهزيمة ومحدودية الطموح وخيبات الأمل (الغربة، محنة الأم ولقاء الحبيبة، اعتقال الشقيقة، التجربة السجنية القاسية خلال مختلف أطوارها،..)، مما قاده الى توجيه سيل من اللعنات للطبيعة حيث اتهم الظلام بالجين (48) والحياة بالجنون (44)، وتوسل المقاومة والصمود في شخص أم أصبحت مزرعة للأمل والإباء ومشروعية الممانعة ، و شجاعة الشبيبة في شخص الراوي على الجواب ميدانيا على تهمة “الأوباش” الصادرة عن أعلى سلطة بالبلاد، ثم قدرة ضحايا القمع والاحتجاز والرصاص الحي “الأحمق” (117) الذي لعلع بالمدينة الغاضبة، على تحويل فضاء عقابي وحشي الى مختبر حقيقي لصناعة المرح عبر الغناء “الثوري” وتحويل الأفواه الى دفوف للرقص على نغمات “العلاوي”، والوعي الجماعي بالمصير المشترك، وجدوى تضامن السجناء وانتزاع بعض الحقوق التي تحفظ الحد الأدنى من الكرامة داخل “مؤسسة عقابية ” تعتبر آلية استراتيجية للإذلال والتطويع والقتل البطيء.
إن سياق الرواية، أحداثها، شخوصها، مكوناتها المجالية والزمنية جعلت من “يوسف الطاهري” سوسيولوجيا بالقوة، سوسيولوجيا رغم أنفه عبر ثلاثية سردية تجمع بين السجن، ألم الذاكرة والتذكر والهوية الممزقة…وهي أعطاب تمكن من الشفاء منها جزئيا لما قالت له المساعدة الاجتماعية بالملجأ الباريسي ” الكتابة وسيلة لمقاومة آثار التعذيب، وإن من أفلح في تدوين معاناته يكون قد سلك نصف الطريق من أجل الشفاء من آثارها ” (ص193). مع ذلك ظل مسجونا بثقل المرحلة وهو واعي تمام الوعي أن تحرير ذاته من ماضي أليم لن يكتب له التحقق إلا من خلال مواصلة مغامرة الإبحار في محيط الكتابة.
بركان 21 أكتوبر 2022
* الورقة التي ساهمت بها خلال فعاليات حفل توقيع الرواية يوم 21 أكتوبر 2022 من تنظيم جمعية التنمية للطفولة والشباب ببركان. المغرب
(1) الرؤية السوسيولوجية في “غرباء المحيط ” لبديعة الراضي. سعيد الحداد. يومية الاتحاد الاشتراكي. 06/05/2003
(2) الرواية المغربية والمقاربة السوسيولوجية. مصطفى لغتيري. https://ardbladi.com/. 17 يونيو 2022
(3) رواية : ” قالت أمي للسجان ” ليوسف الطاهري أو الكتابة بالدم. (مأساة الذات و الذاكرة). جواد المومني. يومية الاتحاد الاشتراكي. 18 أكتوبر 2019
(4) دراسات سوسيولوجية لبعض القضايا السجنية. يومية المساء. 16/01/2013
(5) ميشيل فوكو والسجون. https://www.alwasatnews.com/. 12 ماي 2017
(6) السجون المغربية إعادة الإدماج أم إعادة إنتاج الجنوح. عبد الرحيم العطري. الحوار المتمدن. 8/05/2005