مساري الشخصي نحو الحقيقة والصفح: طريق إنساني وعادل
بقلم د. أمحمد لشقر/المغرب
لماذا كل هذه الكراهية؟
” هذا مصير من يعلن مناهضته لملكه، الآن ستتعفن في الجحيم”. ترددت هذه الجملة على مسامعي طوال مدة اعتقالي بمختلف المراكز التي مررت منها، حيث تعرفت على هذا الجانب القاتم والغامض من الإنسانية، أو بالأحرى اللانسانية، وحيث عاينت ما كان الإنسان قادرا على فعله، أحيانا، في مجال الحقد والرعب.
ومنذ ذلك الحين، وأنا أبحث عن تفسير لما يجعل شهية تعذيب الآخرين تبرز لدى أناس يبدون ظاهريا عاديين. ما سر هذا النزوع الإجرامي لدى بعض الجلادين والذي كان يتجاوز أحيانا تعليمات رؤسائهم؟ هو سؤال يستحق أن يطرح و استغرق مني تفكيرا طويلا وأنا أتحدث عن تجربتي الشخصية. و مازلت إلى اليوم غير قادر على المجازفة بتقديم إجابة وحيدة إذ أنها، حسب ما أرى، لا وجود لها. إن هذا السؤال ينبغي أن يطرح ضمن مقاربة متعددة الاختصاصات: علم الإجتماع وعلم التحليل النفسي الإثني و علم النفس و الأنتروبولوجيا و التاريخ…أكتفي الآن، وبشكل مؤقت، باستبدال التأمل الموضوعي بالحكم الشخصي.
أظن أن هذا النوع من السلوك لا يستجيب دائما لاعتبارات عقلانية. ويمكن أن نتساءل دوما إن كان بالإمكان أن نصل إلى تكييف سلوك عنيف لدى الراشدين؟
يمكن اختيار الحل السهل وتحميل المسؤولية للدعاية التي كان يسلطها عليهم رؤساؤهم، أولئك الذين كانوا يعطون الأوامر، أولئك الذين أشرفوا على توجيه التحقيقات و اختلاق الملفات. أولئك الذين لم يهتموا إلا بالنجاعة المخيفة لجهازهم القمعي وصنعوا من المعتقلين السياسيين ليس فقط أعداء للنظام ولكن أيضا تهديدا لبلدهم ودينهم. وهذا ما يفسر، ربما، أن غالبية الجلادين كانت ضمائرهم مرتاحة ويستغربون حينما يتم لومهم بما أنهم ما كانوا يسعون سوى إلى حماية “ثوابت” بلدهم. هكذا كانوا يبرئون أنفسهم من الجرائم التي اقترفوها دون أن يحمروا خجلا.
ولكن من جهة أخرى، و لقول الحقيقة كاملة، علي أن أقول أيضا أن بعض سجاننيا في مركز كوربيس، وأقر أنهم يمثلون نسبة قليلة ، كانوا يظهرون تعاطفا إزاءنا. كنت ألمح على وجوهم ضيقا ما. كنت أراهم متأثرين بشكل واضح بمآسينا وآلامنا. كنت أقول بيني وبين نفسي أن هؤلاء على الأرجح هم موضوع كراهية من طرف زملائهم الأشرار والقساة الذين يتهمونهم بالتساهل معنا. بل إنني تعاملت حتى مع رجال متفهمين يقبلون النقاش. وقد اشتكوا بدورهم من الظروف التي يعيشون فيها ويشتغلون فيها واعترفوا بأن الإمكانيات المقدمة لهم كانت محدودة.
ولكن في العمق، أظن أن الأمر يتعلق بسياسة شاملة تخص جهازا قمعيا بأكمله، إستراتيجية دولة وليس سلوك أفراد، فالنظام خوفا من أن تساءل “شرعيته” اختار أن يضرب بشكل عريض وبشراسة وأن يلحق الأذى بكل معارضيه وآبائهم وأصدقائهم ومعارفهم. وهكذا يبعث برسالته، أسوا الرسائل، إلى كل البلد. أن يجعل الخوف و الارتياب يسودان. كان ينبغي معاقبة كل المشتبه فيهم. إذا ما ظلت معارضة ما دون عقاب فذلك سيشجع على ظهور معارضات جديدة، وسيمنحها الشرعية. جعل أكبر قدر ممكن عاجز عن أي إزعاج: تلك كانت خطة النظام. وسوى ذلك لم يكن مهما. ومن أجل التنفيذ كان من السهل العثور على الرجال المستعدين للقيام بالعمل الوسخ. أفراد من أصول متواضعة، ذوو تكوين ضعيف وغالبا من أصول بدوية، مستعدون للدخول في طاحونة النظام ليندمجوا فيه ويشكلوا جزءا منه قصد الحصول على القوت اليومي. وسيتكفل من يعطونهم الأوامر، رؤساؤهم، بأن يقدموا لهم النموذج الجيد والتكوين الأمثل.
الصفح: عملية متبادلة
أظن أن أي صيرورة للصفح والمصالحة غير قابلة للتراجع يتوجب أن تمر بالضرورة عبر الاعتراف بالضحايا وبعائلاتهم إن بإجراء محاكمات أو بمساطر أخرى1 حيث على من باشروا التعذيب الإقرار بجرائمهم وإن تطلب الأمر إصدار العفو في حقهم فيما بعد. بهذا الشكل، وبهذا الشكل فقط، يمكن للضحايا أن يستعيدوا ثقتهم في المستقبل وأن يبدؤوا حياة جديدة. بالإضافة إلى أن الضحايا لهم الحق في المطالبة بجبر الضرر.هذه الرغبة في إقرار العدالة هي في العمق شعور إنساني.
في حالة المغرب، ولحد الآن، لم نسجل سوى شهادات الضحايا وعائلاتهم عبر كتابات معتقلين سياسيين سابقين، وأيضا عبر جلسات الإنصات العمومية المنظمة من طرف هيئة الإنصاف والمصالحة منذ سنوات خلت. في الحالتين معا، كان للضحايا وضع الشهود فقط. لم نشهد بعد شهادات جلادين يشرحون فيها لنا أولا كيف شكلوا جزءا من آلة الرعب، و ليطلبوا العفو بعد ذلك من ضحاياهم.
لقد تعرض الضحايا للتعذيب و للعنف بقصدية سياسية. وكانت هنالك إرادة معلنة لجعلهم يتألمون و لتجريدهم من إنسانيتهم. المسؤولية يتحملها بدون أدنى شك النظام السياسي، ولكن هذا لا يعني في أي حال من الأحوال رفع المسؤولية و التغاضي عنها فيما يتعلق بالأفراد الذين قاموا بعمليات التعنيف تلك. وإمكانية متابعة منفذي التعذيب قضائيا وخاصة متابعة الذين أصدروا الأوامر تبقى دائما واردة لطي صفحة هذا الماضي بشكل نهائي، صفحة سنوات الرصاص تلك. وحده التدخل القانوني سيساهم بشكل حاسم في إعادة الاعتبار للذوات الجريحة والمنتهكة: ذوات الأموات كما الأحياء. فهو يسمح بإعادة الكرامة للضحايا و إعادة إدماجهم بشكل إنساني في المجتمع، ويضمن في الآن نفسه عدم تكرر مثل هذه الواقعة.
في حالة التجربة المغربية، عبر هيئة الإنصاف والمصالحة، تم الحديث بالأساس على المصالحة. ينبغي التذكير بأن المصالحة ليست هي الصفح، بل هي نتيجته المتوخاة. لا مصالحة هناك ما لم يتم الاعتراف بالعذابات التي تعرض لها الضحايا وأقرباءهم وما لم يتم طلب العفو منهم. تستوجب المصالحة الصفح الذي يستدعي بدوره الحقيقة.
ليس هناك صفح في اتجاه واحد، فالصفح يمنح ويتم تلقيه مما يعنى أخذا وعطاء بين الضحية وجلادها. وطالما لم تعلن الضحية عفوها يظل الجرح حيا و لا ينسى، أو يظل متواريا. العفو إذن ليس هو النسيان أو الاعتذار. وأخيرا فالعفو لا يفرض، و هو لا يكتمل إلا لما يمنح نوعا من السكينة الداخلية و الدائمة للضحية.
فيما يتعلق بمساري الشخصي نحو الصفح، ابتدأت أولا بالإقرار بجرحي، وبعد ذلك قررت ألا أسلك طريق الانتقام. تجاوزت تلك المرحلة الحاسمة في الأسابيع الأولى التي تلت إطلاق سراحي. لقد وجدت صعوبة كبيرة في تجاوزها بسلام. فقط بعد مجهود إنساني كبير تمكنت من صعود العقبة والعودة من جديد إلى الحياة الطبيعية.2
لقد سمحت لي كتابة هذا المحكي بأن أعرض ألمي واسمي عذاباتي وأن أقوم بالحداد تجاه وساوسي. اليوم أشعر بأني قد تحررت، وبأني ارتحت و مستعد لأن أتوجه نحو الصفح، ولكنه صفح يفترض الذهاب بثقة نحو الآخر بذراعين مفتوحتين و الرأس مرفوع. أما إذا كنت في كل خطوة أقوم بها أشعر بأني أخون قناعاتي أو أتنكر لنفسي، فإن هذا الذهاب نحو الآخر سيكون مشكوكا فيه وخطأ، وحركة الانفتاح هذه، إذا لم تكن متبادلة، تتحول إلى عملية ولاء و خنوع يستحيل علي قبولها.
° من كتابي “كوربيس، طريقي نحو الحقيقة والصفح”