النزعات الأوليغارشية داخل الأحزاب والتنظيمات السياسية
لروبرت ميتشلز
Bouteiller Paul
Bibliothèque de l’École des chartes
تقديم وترجمة: عبد الكريم وشاشا
تقديم
لا زال العديد من المنتسبين والمنتسبات إلى اليسار اليوم، لم يتخلصوا بعد من أغلال الأبوية البطريريكية ومن قيم القبيلة والعشيرة والوصاية والتبعية والإملاءات. وهي كلها نزعات أوليغارشية. يرزحون تحت قواعدها الذهنية التقليدية العتيقة، معاكسة تماما لقيم المساواة والأخوة المنظمة التي يجب أن يكونوا هم المبادرين على تمثلها ونشرها .
فهم يؤمنون بالتراتبية الجبرية وينافحون عن الألقاب والمظاهر والقشور والمواضعات الزائفة التي يتمسكون بها أشد التمسك بعيدا عن الجوهر والمثل الاشتراكية العليا.
أنا أعتقد أن المنصات الرقمية، أنشأت بهدف تأسيس فضاء نقدي بناء ونقاش صريح بدون أوهام أو بطولة مزيفة لتشخيص الأعطاب والعاهات والمعيقات، وأيضا فرصة للخروج من لغة الشعارات واليقينيات، والجمود الفكري.. بدل تدوير وإعادة مواد مستهلكة من ” الفكر اليومي “.
ولطرح أوراق نقدية منهجية تخاطب العقول بأسئلة حقيقية، التي تعتبر أن الأزمة في عمقها عنوان على الصحة والحياة والعنفوان، وكناية عما يحدث من اصطراع الآراء والرغبات والتصورات لمرحلة انتقالية، شريطة ممارسة النقد وليس النقض. وبتعبير عبد الكبير الخطيبي، ممارسة النقد المزدوج الذي يسعى إلى إبراز وإخراج المتعدد والمختلف، حتى لا يتحجر الفكر ويتكلس ويصبح عائقا أمام الواقع.
هذه ترجمة لمقال مهم،حول كتاب نادر ومركزي يمثل منعطفا كبيرا في دراسة الأحزاب السياسية من الضروري قراءته قراءة نقدية منفتحة تعبر بنا نحو آفاق مغايرة تثري رؤيتنا وتغني ممارستنا النضالية.
تعتبر دراسة الأحزاب السياسية نسبيا علما حديثا، لأن الأحزاب نفسها ولدت وتطورت في نفس الوقت مع الإجراءات والعمليات الانتخابية والبرلمانية. وهذا يعني أن تاريخ الأحزاب السياسية هو تاريخ حديث لا يتجاوز القرن الثامن عشر. منذ قرن ونصف، وتحديدا منذ بداية القرن العشرين، أصبحت الدراسات حول الأحزاب السياسية منقّحة وصقيلة ومتطورة مع التركيز باستمرار على الجوانب المستجدة لهذه الظاهرة الرئيسة في الأزمنة الحديثة.
ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندما نتحدث عن الأحزاب فإننا كنا نعني بذلك أساسا حركية ودينامية الأفكار.
ففي سنة 1816 كتب (Benjamin Constant) :
“الحزب هو تجمع من الناس الذين يعتنقون نفس المذهب السياسي”
ولذلك يمكن أن نخلط دراسة الأحزاب السياسية مع تاريخ الأفكار السياسية.
مع ماركس ولينين، انصب الاهتمام والتركيز على البنية التحتية الاجتماعية، بمعنى أن الأحزاب السياسية تعتبر أنماط تعبير عن الطبقات في الحياة السياسية. ويبدو أن كلا المفهومين، الليبرالي والماركسي يغفلان أحد الجوانب الرئيسة للأحزاب الحديثة، هذا الجانب الذي كان أحد المفكرين وهو (David Hume) أشار إليه ببصيرة عميقة في أحد أبحاثه عن الأحزاب (1760) موضحا أن البرنامج يلعب دورا أساسيا في المرحلة الأولية للحزب، لكن بعد ذلك يأتي التنظيم الحزبي في المقدمة.
كما أن بعض الباحثين مثل (Ostrogorski) صاحب كتاب “الديمقراطية وتنظيمات الأحزاب السياسية” وعلى الخصوص (Robert Michels) الذي ارتكز على “الأداة” والتنظيم و”الجهاز” للتنظيمات المركبة والمتباينة والتي هي من الأمور المستجدة والحديثة.
الباحثون الأمريكيون في سنوات العشرينات والأربعينات، وأيضا الفرنسي (Maurice Duverger) صاحب كتاب “الأحزاب السياسية – الطبعة الأولى 1951″، هم أيضا يلحّون على البنية التنظيمية مع بلورة دراساتهم بتناول خصائص وجوانب أخرى للأحزاب السياسية.
وتبدأ دراسة الأحزاب السياسية من تناول صورة الحزب التي يكوّنها الأعضاء عن تنظيمهم، وعن طبيعة ارتباطهم وانتمائهم الحزبي. وفي نفس الوقت هناك أبحاث أخرى حديثة تهتم بإستراتيجيات الأحزاب السياسية.
ولقد شكل روبرت ميتشلز (Robert Michels) نقطة تحول كبيرة في تاريخ دراسات الأحزاب السياسية .
ولد سنة 1876 في منطقة الراين (rhénane) من أب ألماني وأم فرنسية. كان روبرت ميتشلز يشعر طيلة حياته (توفي عام 1936) بأنه أوروبي أكثر منه مواطن ينتمي إلى بلد معين. بالنسبة له يجب النظر إلى بلدان الراين كجسر وليس كأطراف جرمانية. وكان من أصول بورجوازية لكنه انجذب باكرا إلى الاشتراكية، وكان عليه مناهضة عمل حكومة الإمبراطورية الألمانية.
فمنذ بداية حرب 1914 انحاز إلى جانب القوى الغربية، وذلك باسم المبادئ التي يعتبرها أسمى وأعلى من المصالح العابرة للأمم.
هذه الأزمة الضمير المؤلمة وسمت حياة روبرت ميتشلز كلها، فبعد دراسته في الجامعات الألمانية، قام بإعطاء دروس في جامعات بلجيكا وإيطاليا وفرنسا وسويسرا.
وتعتبر أعماله الرئيسة أعمال اقتصادي وسوسيولوجي في نفس الوقت. بعيدا عن كتابه حول الأحزاب السياسية والذي كتبه من خلال تجربته وقربه من الاشتراكية الديمقراطية الألمانية.
فقد كان روبرت ميتشلز طوال حياته منجذبا لمشكلة النخب والعناصر والسمات التي يقدمونها في لحظات من وجودهم وتاريخهم .
وكان من الأوائل الذين اهتموا بأعمال الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (Georges Eugène Sorel)، سواء باعتباره ناقدا للماركسية أو منظرا لديناميات الطبقات أو المجموعات الاجتماعية.
وقد كرس صفحات نافذة وعميقة لطبيعة وواقع الصراع الطبقي، وكذلك للرأسمالية كنظام اقتصادي واجتماعي. وكان مهتما بشكل خاص بدراسة الطبقات الحاكمة من منظور أعمال الفيلسوف وأستاذ العلوم السياسية الإيطالي (Gaetano Mosca ) صاحب كتاب ” تاريخ المذاهب السياسية ”
انطلاقا من النظرية القائلة بأن الحركات الاجتماعية تتعثر وتغرق في البيروقراطية، وكان يجب عليها أن تتطور نحو هذه “النخبوية” كقوى جديدة تأتي بشكل دوري لتحل محل القوى البالية المتهالكة .
وكتابه حول الأحزاب السياسية صدر قبل عام 1914 يتكون من ستة فصول:
1- الزعماء أو القادة في التنظيمات الديمقراطية.
2- الطابع الاستبدادي للزعماء
3- ممارسة السلطة وانعكاساتها النفسية على الزعماء
4- التحليل الاجتماعي للزعماء
5- محاولة الحد من سلطة الزعماء
6- تركيب: الميول والنزعات الأوليغارشية للتنظيم.
ويظهر العنوان الفرعي للكتاب: دراسة حول النزعات الأوليغارشية للديمقراطية،
بالإضافة إلى محتوى الفصل السادس، الأفكار الرئيسة والتوجيهية للكاتب.
ويضع ميتشلز على رأس أفكاره الرئيسة جملة جان جاك روسو في العقد الاجتماعي: ” الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبدا، ولن توجد، فمما يتعارض مع النظام الطبيعي أن الأكثرية حاكمة والأقلية محكومة”.
بالنسبة للأحزاب السياسية، فإن تجربة ميتشلز تستند بشكل أساسي على تحليل بنيات الأحزاب الاشتراكية الأوروبية وخاصة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني.
أطروحته هي على النحو التالي: لا يمكن تصور الديمقراطية بدون تنظيم، لذلك فقد أرست الأحزاب الحديثة لنفسها هياكل “بيروقراطية”، ومع ذلك، فإن هذه الهياكل التي تضمن الاستمرارية، تمّت السيطرة عليها من طرف القادة والزعماء، الذين انتخبتهم في الأصل القواعد والجماهير واستثمرتهم لصالحها، ولكنهم بدأوا تدريجيا يصادرون السلطة لمصلحتهم.
يقول في إحدى جمله المفتاحية، ما معناه، أن التنظيم هو المبتدأ الذي انبثقت منه هيمنة المنتخبين على الناخبين والمندوبين على أولئك الذين انتدبوهم. فالزعماء والقادة تقنيا، لا يمكن الاستغناء عنهم، وخاصة في الأحزاب الاشتراكية، والعديد منهم من أصول بورجوازية.
لذلك يتم إنشاء طبقة حاكمة جديدة، تخضع في تكوينها لتحديثات جزئية والتي قد تصبح أرستقراطية جديدة وتخرّب مبدأ الديمقراطية ذاته.
فالجماهير ليست ناضجة بما يكفي لمعارضة الأوليغارشية التي تقودها وتتعاقب عليها،”وهذه اللعبة القاسية يبدو أنها لن تنتهي أبدا”.
تلكم كانت هي الجملة الأخيرة في هذا الكتاب الكبير والرئيس الذي نشر أكثر من ستين سنة والذي سيظهر لقارئ اليوم متجاوزا ومستشرفا في نفس الوقت.
بحصره الحديث فقط عن الهياكل التنظيمية وعن قادة وزعماء الأحزاب السياسية، فإن ميتشلز قام بعمل مبتكر وغير مسبوق، ولكنه متحيز وأحادي للغاية.
فهناك العديد من الجوانب الأخرى للأحزاب السياسية. حتى لو كان فقط نظام الأحزاب، وفقا لمصطلحات (Maurice Duverger).
ومن ناحية أخرى، فإن خطاطة ميتشلز أدت به إلى الكثير من التكرار كما أن تقييماته غالبا ما كانت ذاتية وغير موضوعية، تفتقر إلى الدقة العلمية، والمعلومات الواردة في الكتاب محدودة حيث لا تتعلق إلا بالأحزاب الجماهيرية وخاصة الأحزاب الاشتراكية الألمانية والهولندية والانجليزية والإيطالية (فضلا أن الاشتراكية الفرنسية المتأخرة، لم تأخذ بعين الاعتبار إلا قليلا).
وأخيرا بالنسبة لقراء اليوم والمهتمين ، فإن هذا الكتاب متأثر جدا بالخلافات والصراعات الإيديولوجية التي كانت سائدة في عصره وتجاهل بقوة ظاهرة تعتبر إحدى أهم ظواهر الأزمنة الحديثة، ألا وهي : الشيوعية.
ولكن، إذا كان الكتاب متجاوزا من عدة جوانب، فإن هذا العمل مع ذلك تضمن رؤى استشرافية بليغة في بسط وشرح عيوب وأخطاء الاشتراكية الديمقراطية الألمانية.
الكاتب استشعر بأنه لا يمكن الوقوف في وجه صعود الحزب القومي الاشتراكي من خلال تشكيلة أرستقراطية متحكمة داخل الأحزاب. وهو الذي أوضح ما سيحدث لاحقا داخل الحزب الشيوعي الروسي أو الأحزاب الاشتراكية الأوروبية الكبرى.
في النهاية يتميز عمل (Robert Michels) بمزيج من تشاؤم صريح ورفض يائس.
إن النزعة العميقة للكاتب هي نزعة عقل أرستقراطي لا يثق في الشعب ولا في القادة
” فثوار اليوم هم رجعيو الغد ”
كما كتب في الصفحة 135.
روبرت ميتشلز هو كاتب أوروبي، ليس بمونتسيكيو أو توكفيل، الذي يشبهه إلى حد كبير بعقله الدوار،
لكن أعماله لا تزال غضة حية، وسيظل كتابه عن الأحزاب السياسية ولفترة طويلة لا غنى عنه لجميع المهتمين بمثل هذه القضايا.