الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

العام جديد…والعالم  قرية صغيرة :

أين؟… وكيف؟… ومتى ؟ ….

 

حسن برني زعيم

 

 

لا أدري لماذا أصبحنا نشعر بسعادة غامرة حين قولنا أو سماعنا عبارة “العالم قرية صغيرة “، و قد يرجع سبب سعادتنا إلى سرعة الاتصال والتواصل والانتقال والتنقل،الشيء الذي ييسر قضاء الأغراض وتحقيق الأهداف في وقت قياسي، بحيث نختزل الوقت والمال والجهد.

فقبل قرون ، كان الناس يقولون ” العالم صغير” ، وذلك عندما يتعلق الأمر بلقاء الصدفة بين الناس بعد فراق دام فترة مهمة ،  فهل كان الناس يتوقعون أن يصبح العالم بهذه الدرجة من الصغر، إلى أن يصير” قرية صغيرة “؟

واليوم ، وسواء أقلنا إن العالم صغير أو قرية صغيرة ، فإن مدلول العبارتين يحتاج إلى وقفات تأملية في أوضاع الناس والشعوب والعلاقات بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة عبر التاريخ، ومن ثم نستطيع أن نفهم متى يكون العالم قرية صغيرة ، وبالنسبة لمن هو سائر إلى الكبر أو نحو الصغر، ومقياسنا في ذلك هو مدى تحقيق الغايات باختزال الوقت والمال والجهد.

 

وإذا نحن رجعنا قليلا إلى الوراء سنلاحظ أن العالم كان دائما قرية صغيرة وكبيرة في آن واحد ، لكن ، بشرط أن نستحضر التطور الطبيعي الذي عرفه التعليم والعلوم والأفكار والسياسات والصناعات والاقتصاد والطب والهندسة والفلك وكل ما يتصل بحياة الإنسان ، بمعنى أن المتقدمين كانوا دائما سباقين ليستفيدوا من هذه المتغيرات الإيجابية على حساب المستضعفين المتخلفين التابعين ، وقد لا نحتاج في إثبات هذا إلى بحث عميق في التاريخ  ، بقدر تأملنا في حياة الشعوب والأمم ، ومن خلال ما حفظه لنا التاريخ وما نقلته إلينا المكتبة من تجارب الناس ، وما لاقوه من ويلات الأمراض والمجاعات والحروب ، لنتساءل ، بعد ذلك ، عن سر نزول الويلات والمشاق والمتاعب على الضعفاء ،وبمنطق واحد في الدوائر الاجتماعية الثلاث: داخل المجتمع الواحد، وبين مجتمع ومجتمعات أخرى ، وعلى الصعيد العالمي.

 

وقبل التوصل إلى الزراعة ، كان العالم  كبيرا عريضا طويلا ، وكان توفير الغذاء يحتاج ، من الناس ، إلى مجهودات جسدية لتحمل مشاق السفر والمغامرة ومقاومة الأخطار والفيضانات والحر والقر ، ولم يكن الإنسان آنذاك يطرح سؤال المسافة وعلاقتها بالزمن ، بينما كان الهاجس المتحكم في تحركه هو تحقيق الهدف المتمثل في الحصول على الغذاء، وعلى الرغم من تلك الظروف القاسية ، فإن بعض الأقوياء المتحكمين لم يكونوا يبذلون أي مجهود – أو على الأقل لم يبذلوا المجهود نفسه كما الضعفاء – للحصول على ما يحتاجون من غذاء وغيره لتأمين حياتهم وحياة ذويهم ، سواء أ كان ذلك بالمشروع أو باللامشروع من الأفعال، بحيث لا يعقل أن نتصور أن الناس قديما كانوا كلهم يبذلون نفس المجهود للحصول على الغذاء ، ودليلنا أن الصراع بين القوي والضعيف أزلي ، ولا يمكن أن يستثنى منه الصراع من أجل تأمين الغذاء.

 

ومنذ أن اهتدى الإنسان إلى الزراعة حتى اليوم ، لا نعرف أن جهة معينة قد اهتمت  بالبحث في سيرة ذلك العبقري الذي اخترع المحراث الخشبي، ولا أين سقط رأسه ( أي أين ولد)…  ولا دعت إلى الاحتفال بعيد ميلاده ، ولا في أي  مكان كان اختراعه ، ولا تاريخ ذلك بالتحديد، وكل ما وصلنا أن الزراعة ظهرت في بلاد الشام أواخر الألف التاسع وبدايات الألف الثامن قبل الميلاد، وامتدت إلى الأناضول وبلاد الرافدين ومصر. وفي كل حال، فبقدر ما تجلى الذكاء الفردي في هذا الاختراع، فإنه نتاج سلسلة طويلة من تجارب الزراعة المبتكرة ، وأن ، بفضله ، بدأ العالم يصغر بشكل من الأشكال ، بحيث لم يعد الإنسان يقطع المسافات الطويلة بحثا عن الغذاء، وعرفت المجتمعات والشعوب حالة من الاستقرار، ومن ثم بدأ التفكير في توفير وسائل أخرى لتيسير الحياة والعيش المستقر ، وما تلك إلا إرهاصات من البحث و التفكير في مشروع ما يسمى اليوم”العالم قرية صغيرة”.

 

كما أنه من حقنا أن نتساءل ، في عصر الفراعنة ، مثلا، حول ما إذا  كان الأقوياء وأصحاب النفوذ والمقربون من فرعون  قد شاركوا في حمل جزء من أية صخرة من القطع التي بها بنيت الأهرام؟ وفي مقابل ذلك ،هل أقيمت الأهرام ، فقط ، بسواعد الضعفاء والعبيد، وتحت التنكيل والسياط؟ مع العلم أنه لم يكن يومها شيء اسمه قانون الشغل ولا أوقات العمل…ومع ذلك كان العالم قرية صغيرة في تقدير الأقوياء ، وكبيرا بالنسبة للضعفاء… هذا على الأقل مما وصلنا من معلومات عن عصر بناء الأهرام .

 

ولقد ظلت الشعوب والأمم تعاني من صعوبة الاتصال والتواصل والانتقال إلى أن حدثت الثورة الصناعية ، وعرفت الدول المصنعة كيف تستفيد مما حققته في كل ميادين الحياة ،  فتحرر الإنسان بالتدريج من سيطرة أصحاب النفوذ ، وارتفعت أصوات مطالبة بسن قوانين المساواة في الحقوق والواجبات  ، وهذا هو الهدف الأسمى الذي تسعى كل الشرائع العادلة لتحقيقه ، وهذه هي معاني الفضيلة من سريان القانون الحق ، والتي إذا انتشرت بين الناس يمكن أن نقتنع بأن العالم ، فعلا ، قرية صغيرة من دخلها  كان آمنا حرا مكرما متمتعا بحقوقه كاملة…

 

لكن المثير للتساؤل هو أن الحضارة والمدنية اللتين تعدان نتاجا ساهمت فيه كل شعوب الأرض ، استغلتهما دول قوية  حديثة على حساب أخرى ضعيفة بخدع متعددة في قائمة أسماء براقة من قبيل حماية المصالح المشتركة والتلاقح الحضاري وحوار الحضارات والشراكة الاستراتيجية والقانون الدولي ومجلس الأمن وصولا إلى أكذوبة العولمة أو”العالم قرية صغيرة”.

وبالرجوع قليلا إلى القرن التاسع عشر نكتشف أن العالم فعلا صار قرية صغيرة حينما  أرادت له الدول القوية أن يكون كذلك ، وإلا فإنه قرية كبيرة لا حدود لها.

فحينما تحتاج الدول القوية إلى الدول الضعيفة لحماية اقتصادها والحفاظ على تطور صناعتها واستمرار مدنيتها وفرض هيمنتها توهمنا بأن العالم قرية صغيرة  ، وأن علاقة الدول ببعضها علاقة تعاون وتسامح ومصير مشترك ، وذلك من خلال الاهتمام بطبقة الأوزون والبيئة والسيدا  و الإيبولا وغير ذلك مما يجنبها الحديث عن الأسباب الحقيقية لفقر دول الجنوب وغنى دول الشمال.

 

ففي مؤتمر برلين، مثلا ، وقد سموه أيضا ،مؤتمر الكونكو 1884/1885 أجتمعت الدول القوية  وبسطت خريطة إفريقيا أمام أعينها كما تبسط ” أوراق البسطيلة ” أمام المدعوين إلى حفل عائلي، وقسموها بالتراضي ، كما تقسم ” حلوى عيد الميلاد” ، بمنتهى العدل ،على أطفال ” مدلعين” حتى لا  يغضب منهم أحد ، وأما نحن فقد كنا في ذلك الوقت نقدم لهم ، بتخلفنا وصمتنا ، الدليل على أن العالم سيصبح  ، بفعلهم وعندهم ، حلوى صغيرة ، عفوا ، قرية صغيرة!

وكانت النتيجة أن قسمت الدول المهيمنة أفريقيا بميزان الشراهة المزمنة ، وهو ما حصل تحت مسميات متعددة منها “الحماية ” ، و”الاستعداد” لمواجهة ويلات الحروب والأزمات الاقتصادية …!، وكانت إفريقيا ، كما هي دائما، هي الرقعة حيث يوجد الحل المنتظر.

وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية ظهر بالملوس أن العالم قرية صغيرة حينما يتعلق الأمر بمصالح الدول القوية ، وكبيرة مسالكها وعرة إذا كان شأنا من شؤون الدول الضعيفة ، ذلك أن الدول الغربية انتشرت في دول أفريقيا وآسيا انتشار النار في الهشيم ، وتلقت هيروشيما اليابان  في آسيا الضربة القاضية رغم بعد المسافة بين الضارب والمضروب، كما استخدمت ، بعد ذلك  ، جيوش إسبانيا ، في شمال إفريقيا ، الغازات السامة ،لإبادة المقاومة المغربية بالريف…

هذا جزء يسير مما كان … وأما اليوم فالأمثلة كثيرة منها، مثلا، وضعية حدودنا مع الجزائر، حيث يبدو العالم قرية كبيرة مترامية الأطراف بيننا وبين شقيقتنا ، وعبور المواطنين يتطلب ساعات وساعات.

 

وفي مقابل ذلك نجد أن مواطني دول الاتحاد الأوربي لا يشعرون بوجود الحدود ، ولا يتطلب العبور أكثر من زمن أداء تذكرة الطريق السيار، إن وجد، وإلا فلا وجود لشيء اسمه العبور! وهذا الوضع يمثل ، عندهم ، وبالملموس ،  أن العالم قرية صغيرة.

وأما في بلادنا ،فالأدلة كثيرة على أن العالم عندنا ما زال أبعد من  أن يكون  “قرية صغيرة”:  وآخرها يوم غمرت الفيضانات أقاليمنا الجنوبية ، حيث عشنا في عالمين متناقضين في مكان واحد ، حيث اجتمعت الحلاوة بالمرارة : عالم/ قرية صغيرة حينما هرعت طائرة الهليكوبتر لإنقاذ السياح الأجانب ، وعالم/ قرية كبيرة لما غرق مواطنون مغاربة وسط السيول والأوحال والطين.

وإلى يومنا هذا ، في المغرب وفي بلدان كثيرة، ما زال الأطفال يحرمون من الدراسة في البوادي والمدن ، ومن المراحيض والتطبيب والماء الصالح للشرب والكهرباء ووسائل التدفئة والنظافة و المواصلات ، وهذه كلها جوانب تغلبت عليها الدول المتقدمة نهائيا، فهل قريتنا الصغيرة تشبه  قريتهم في شيء من هذا ؟ وهل يجوز أن نقارن عامنا الآتي بعامهم الجديد؟

 

والعالم قرية صغيرة حينما يتوافد السياح على البلدان الضعيفة ، أو كلما احتاجت الدول القوية إلى تسويق مصنوعاتها من سيارات وأدوية وأشياء أخرى، وهذا العالم نفسه يصبح كبيرا إذا فكر سكان الجنوب في العبور إلى الشمال لتنزل شروط الفيزا من كل ناحية وتتضاعف الصفوف أمام القنصليات ويطول الانتظار أياما وشهورا ، وتختفي التكنولوجيا والإعلاميات ، ويبقى شيء واحد هو أن هذا العالم قرية صغيرة تُرسم حدودها المؤقتة بشروط الأقوياء لا بتطلعات الضعفاء، ودليلنا أن جيوش الجراد التي “تزور” موريتانيا كل خريف لم يسبق لجرادة واحدة منها أن حظيت “بشرف” التسلل إلى أوربا !

وأما اليوم فإن الاتحاد الأوروبي يخصص المليارات تلو المليارات لمنع مهاجري إفريقيا- كما يمنع أسراب الجراد – من الوصول إلى أوربا تحت اسم جديد قديم ، وهو:” الهجرة غير الشرعية “، ولم يسبق لأي عضو من أعضاء ذاك الاتحاد  أن تساءل ، ولو مرة واحدة: هل صفقات الصيد الناهبة في أعالي البحار صفقات معقولة ؟ وهل كان احتلال الدول الأوروبية لبلدان أفريقيا ” حركة ” شرعية؟

فلا غرابة ، إن استمر التاريخ في حركته  بهذا المنطق الظالم ، أن نسمع في القريب خبرا عاجلا يقول بأن امستيردام صارت عاصمة الصومال… وأن مقديشو رفضت أن تكون عاصمة هولنذا… وأن هذا كان سببا كافيا لغزو أفريقيا مرة أخرى !!! من أجل تقسيم جديد يضمن لشعوب أفريقيا الحق في اختيار ما تشاء من العواصم الأوروبية عبر الإنترنيت!

 

إن علينا أن نؤمن بتفوق الآخر علينا بفضل الإخلاص في العمل وحب الوطن والانتصار للمصلحة العامة و تطبيق القانون على الجميع ، وأن نحاكيه في كل ذلك ، بدل الاكتفاء بالتقليد والتبعية العمياء اللذين لن يزيدانا إلا تخلفا.

فليس من حق الدول المتخلفة أن تبارك القول بأن العام جديد ولا أن “العالم قرية صغيرة” قبل أن توفر لمواطنيها العيش الكريم بالتعليم الجيد والشغل المنتج و المستشفى المجهز بأحدث التجهيزات…

فهل يعقل ، بعد عقود من الاستقلال ، أن نرى أو نسمع عن قادة الدول المتخلفة وبعض المليارديرات الكبار ينقلون، على عجل ، إلى أوربا أو أمريكا من أجل العلاج ؟ فإما أن هؤلاء يقيمون مستشفيات في دولهم لمواطنين من الدرجة الثانية ، وإما أنهم لا ينتمون لهذه الأوطان ، أو أنهم ” مخلوقات” غير عادية…ولكنهم ، رغم ذلك ، يحق لهم أن يتناجوا ، على الأقل ، في ما بينهم بالقول : العالم “قرية صغيرة” ، والعام جديد…

 

وأما الذين يستحقون، فعلا، أن يتفاخروا ب” العالم قرية صغيرة” ، فإنهم لا يسافرون إلى بلدان أخرى من أجل العلاج ، ولم يغيروا في مساحة الأرض ، ولم تقترب منهم السماء ، ولم يضيفوا دقيقة إلى  الساعة ،  ولم يزيدوا يوما في الأسبوع ،  ولا شهرا في السنة… وإنما طوروا الوسائل وبرمجوا المواقيت، فقالوا : ” العالم قرية صغيرة” ، وذلك بعدما ضبطوا ، بالدقيقة الواحدة ، مواعيد الطائرات والقطارات والمستشفيات والإدارات ، وأما نحن فما قولنا ” العالم قرية صغيرة ” إلا ضرب من الحديث الشفوي الذي لا يتجاوز الكلام الفارغ عبر “الشات” والهواتف الذكية التي لا شك سيتراجع ذكاؤها بمجرد استعمالها في البلدان المتخلفة!!

 

  ولهذا صار القول بأن العالم قرية صغيرة مشروطا بأن يكون قائل العبارة قويا ، ويمتلك الأدوات التي تقرب المسافات ، لأنه ، إذا نطق ، بعد ذلك ،  يُجمِع الضعفاء الحاضرون والغائبون – طائعين – على أنه قال صوابا!

 

 

 

 

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات